فصل: 1- كلام أبي بكر بن العربي في إبطال القصة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال الحافظ ابن حجر في شرح نخبة الأفكار (ص17) بعد أن ذكر الحديث المرسل في أنواع الحديث المردود:
وإنما ذكر في قسم المردود للجهل بحال المحذوف، لأنه يحتمل أن يكون صحابيًّا، ويحتمل أن يكون تابعيًّا، وعلى الثاني يحتمل أن يكون ضعيفًا، ويحتمل أن يكون ثقة، وعلى الثاني يحتمل أن يكون حُمل عن صحابي، ويحتمل أن يكون حمل عن تابعي آخر وعلى الثاني فيعود الإحتمال السابق ويتعدد، أما بالتجويز العقلي، فإلى مالا نهاية، وأما بالاستقراء، فإلى ستة أو سبعة، وهو أكثر ما وجد من رواية بعض التابعين عن بعض، فإن عرف من عادة التابعي أنه لا يرسل إلا عن ثقة، فذهب جمهور المحدثين إلى التوقف، لبقاء الإحتمال، وهو أحد قولي أحمد، وثانيهما: يقبل مطلقًا، وقال الشافعي رضي الله عنه: يُقبل إن اعتضد بمجيئه من وجه آخر يباين الطريق الأولى مسندًا كان أو مرسلًا ليترجّح احتمال كون المحذوف ثقة في نفس الأمر.
قلت: فإذا عرف أن الحديث المُرسَل لا يقبل، وأن السبب هو الجهل بحال المحذوف فيرد عليه أن القول بأنه يقوى بمرسل آخر غير قوي لإحتمال أن يكون كل من أرسله إنما أخذه عن راوٍ واحد، وحينئذ ترد الاحتمالات الذي ذكرها الحافظ، وكأن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى قد لاحظ ورود هذا الاحتمال وقوته، فاشترط في المرسل الآخر أن يكون مُرسِله أخذ العلم عن غير رجال التابعي الأول، كما حكاه ابن الصلاح (ص35) وكأن ذلك لَيغلب على الظن أن المحذوف في أحد المرسَلين هو غيره في المرسَل الآخر.
وهذه فائدة دقيقة لم أجدها في غير كلام الشافعي رحمه الله فاحفظها وراعِها فيما يمر بك من المرسَلات التي تذهب البعض إلى تقويتها لمجرد مجيئها من وجهين مرسَلين دون أن يراعوا هذا الشرط المهم.
ثم رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية قد نصّ أيضًا على هذا الشرط في كلام له مفيد في أصول التفسير، نقله عنه الحافظ محمد بن عبد الهادي في كتاب له مخطوط في الأحاديث الضعيفة والموضوعة (حديث 405:221)، فقال ابن تيمية رحمة الله تعالى: وأما أسباب النزول، فغالبها مرسل، ليس بمسند، لهذا قال الإمام أحمد: ثلاث علوم لا إسناد لها. وفي لفظ: ليس لها أصل: التفسير والمغازي والملاحم. يعني أن أحاديثها مرسلة، ليست مسندة.
والمراسيل قد تنازع الناس في قَبولها وردها. وأصح الأقوال: أن منها المقبول، ومنها المردود، ومنها الموقوف، فمن عُلم من حاله أنه لا يرسل إلا عن ثقة قُبل مُرسَلُه، ومن عُرف أنه يُرسِل عن الثقة وغير الثقة، كان إرساله رواية عمن لا يُعرف حاله، فهو موقوف. وما كان من المراسيل مخالفًا لما رواه الثقات، كان مردودًا، وإن جاء المرسَل من وجهين، كل من الروايين أخذ العلم عن غير شيوخ الآخر، فهذا يدل على صدقه فإن مثل ذلك لا يُتصور في العادة تماثل الخطأ فيه وتعمد الكذب...
قلت: ومع أن التحقق من وجود هذا الشرط في كل مرسَل من هذا النوع، ليس بالأمر الهيِّن، فإنه لو تحققنا من وجوده، فقد يَردُ إشكال آخر، وهو أنه يحتمل أن يكون كل من الواسطتين أو أكثر ضعيفًا، وعليه يحتمل أن يكون ضعفهم من النوع الأول الذي ينجبر بمثله الحديث على ما سبق نقله عن ابن الصلاح، ويحتمل أن يكون من النوع الآخر الذي لا يقوى الحديث بكثرة طرقه، ومع ورود هذه الاحتمالات يسقط الاستدلال بالحديث المرسل وإن تعددت طرقه. وهذا التحقيق مما لم أجد مَن سبقني إليه، فإن أصبت فمن الله تعالى وله الشكر، وإن أخطأت فمن نفسي، وأستغفر الله من ذنبي.
وبالجملة فالمانع من الاستدلال بالحديث المرسل الذي تعدد مرسِلوه أحد الاحتمالين: الأول: أن يكون مصدر المرسلين واحدًا.
الثاني: أن يكونوا جمعًا، ولَكِنهم جميعًا ضعفاء ضعفًا شديدًا. وبعد هذه المقدمة نستطيع أن نقول:
إننا لو ألقينا النظر على روايات هذه القصة، لألفيناها كلها مرسَلة، حاشا حديث ابن عباس، ولَكِن طرقه كلها واهية شديدة الضعف لا تنجبر بها تلك المراسيل، فيبقى النظر في هذه المراسيل، وهي كما علمت سبعة، صح إسناد أربعة منها، وهي مرسل سعيد بن جبير، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وأبي العالية (رقم1- 3)، ومرسل قتادة، رقم (5) وهي مراسيل يرد عليها أحد الاحتمالين السابقين، لأنهم من طبقة واحدة: فوفاة سعيد بن جبير سنة (95) وأبي بكر بن عبد الرحمن سنة (94)، وأبي العالية- واسمه رفيع مصغرًا- سنة (90) وقتادة سنة بضع عشرة ومائة، والأول كوفي، والثاني مدني، والأخيران بصريان.
فجائز أن يكون مصدرهم الذي أخذوا منه هذه القصة ورووها عنه، واحدًا لا غير، وهو مجهول.
وجائز أن يكون جمعًا، ولَكِنهم ضعفاء جميعًا، فمع هذه الاحتمالات لا يمكن أن تطمئن النفس لقَبول حديثهم هذا، لاسيما في مثل هذا الحدث العظيم الذي يمسّ المقام الكريم، فلا جَرَم تتابع العلماء على إنكارها، بل التنديد ببطلانها، ولا وجه لذلك من جهة الرواية إلا ما ذكرنا، وإن كنت لم أقف على من صرّح بذلك كما ذكرت آنفًا. قال الفخر الرازي في تفسيره (6:193):
روى عن محمد بن إسحاق بن خزيمة أنه سئل عن هذه القصة؟ فقال: هذا من وضع الزنادقة. وصنّف فيه كتابًا. وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل. ثم أخذ يتكلم في أن رواة هذه القصة مطعون فيهم، وأيضًا: فقد روى البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم وسجد وسجد فيها المسلمون والمشركون، والإنس والجن، وليس فيه حديث الغرانيق وروى هذا الحديث من طرق كثيرة، وليس فيها البتة حديث الغرانيق.
وقد تبع هؤلاء جماعة من الأئمة العلماء، وهاك أسماءهم على ترتيب وفياتهم:
1- أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد المعروف بابن العربي توفي سنة (542)، في تفسيره أحكام القرآن.
2- القاضي عياض بن موسى بن عياض (544) في كتابه الشفا في حقوق المصطفى.
3- فخر الدين محمد بن عمر بن الحسن الرازي (606) في تفسيره مفاتيح الغيب (6:193- 197) وقد مضى بعض كلامه في ذلك.
4- محمد بن أحمد الأنصاري أبو عبد الله القرطبي في أحكام القران (12:80- 84).
5- محمد بن يوسف بن علي الكرماني من شرّاح البخاري (786)، وقد نقل كلامه في ذلك الحافظ في الفتح (8:498).
6- محمود بن أحمد بدر الدين العيني (855) في عمدة القاري (9:47).
7- محمد بن علي بن محمد اليمني الشوكاني (1250) في فتح القدير (3:247- 248).
8- السيد محمود أبو الفضل شهاب الدين الألوسي (1270) في روح المعاني (17:160- 169).
9- صديق حسن خان أبو الطيب (1307) في تفسيره فتح البيان.
10- محمد عبده المصري الأستاذ الإمام (1323) في رسالة خاصة له في هذه القصة وإذا عرفت هذا فلا بأس من ذكر كلمات بعض هؤلاء العلماء، لما فيها من الفوائد والتحقيقات التي تزيد القارئ إيمانًا ببطلان القصة، وتجعله يتبين أن النقد العلمي الرجيح يتفق دائمًا مع النقد الحديثي الصحيح، لأن كلًا منهما يقوم على قواعد علمية دقيقة لا تقبل التغيير والتبديل، وأنا أكتفي هنا بكلمات أربعة منهم. ومن شاء الزيادة فليرجع إلى المصادر الأخرى التي أشرنا إليها، والأربعة هم: 1- ابن العربي 2- القاضي عياض 3- الشوكاني 4- الآلوسي.

.1- كلام أبي بكر بن العربي في إبطال القصة:

قال رحمه الله تعالى بعد أن ذكر سبب نزول آية الحج التي ذكرناها في أول الرسالة ملخصًا من الروايات التي أوردناها:
اعلموا أنار الله أفئدتكم بنور هداه، ويسَّر لكم مقصد التوحيد ومغزاه، أن الهدى هدى الله، فسبحان من تفضل به على من يشاء ويصرفه عمن يشاء، وقد بيَّنَّا معنى هذه الآية في فضل تنبيه الغبي على مقدار النبي بما نرجو به عند الله الجزاء الأوفى في مقام الزلفى، ونحن الآن نجلو بتلك الفصول الغماء، ونرقيكم بها عن حضيض الدهماء إلى بقاع العلماء في عشر مقامات.
المقام الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرسل الله إليه الملَك بوحيه، فإنه يخلق له العلم به حتى بتحقيق أنه رسول من عنده، ولولا ذلك لما صحّت الرسالة، ولا تبينت النبوة، فإذا خلق الله له العلم به تميز عنده من غيره، وثبت اليقين، واستقام سبيل الدين، ولو كان النبي إذا شافهه الملك بالوحي لا يدري، أمَلَكٌ هو، أم شيطان، أم أنسان، أم صورة مخالفة لهذه الأجناس ألقت عليه كلامًا وبلغت إليه قولًا لم يصح أن يقول: إنه من عند الله، ولا تثبت عندنا أنه أمر الله، فهذه سبيل متيقنة، وحالة متحققة لابد منها، ولا خلاف في المنقول ولا في المعقول فيها، ولو جاز للشيطان أن يتمثل فيها، أو يتشبّه بها ما أمناه على آية، ولا عرفنا منه باطلًا من حقيقة، فارتفع بهذا الفصل اللَبس، وصح اليقين في النفس.
المقام الثاني: أن الله قد عصم رسوله من الكفر، وأَمنه من الشرك، واستقر ذلك من دين المسلمين بإجماعهم فيه وإطباقهم عليه، فمن ادعى أنه يجوز عليه أن يكفر بالله أو يشك فيه طرفة عين، فقد خلع رقبة الإسلام من عنقه، بل لا تجوز عليه المعاصي في الأفعال، فضلًا عن أن ينسب إلى الكفر في الاعتقاد، بل هو المنزّه عن ذلك فعلًا واعتقادًا، وقد مهدنا ذلك في كتب الأصول بأوضح دليل.
المقام الثالث: أن الله قد عرّف رسوله بنفسه وبصّره بأدلته، وأراه ملكوت سماواته وأرضه، وعرّفه سنن من كان قبله من إخوته فلم يكن يخفى عليه من أمر الله ما نعرفه اليوم، ونحن حُثالة أمته، ومن خطر له ذلك فهو ممن يمشي مُكِبًّا على وجهه، غير عارف بنبيّه ولا بربه.
المقام الرابع: تأملوا فتح الله أغلاق النظر عنكم إلى قول الرواة الذين هم بجهلهم أعداء على الإسلام ممن صرح بعداوته أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جلس مع قريش تمنى أن لا ينزل عليه من الله وحي فكيف يجوز لمن معه أدنى مسكة أن يخطر بباله أن النبي صلى الله عليه وسلم آثر وصل قومه على وصل ربه، وأراد أن لا يقطع أنسه بهم بما ينزل عليه من عند ربه من الوحي الذي كان حياة جسده وقلبه، وأنس وحشته وغاية أمنيته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، فإذا جاءه جبريل، كان أجود بالخير من الريح المرسَلة، فيؤثر على هذا مجالسته للأعداء؟!.
المقام الخامس: أن قول الشيطان: تلك الغرانيق العلى، وأن شفاعتهن لترتجى للنبي صلى الله عليه وسلم قَبِله منه، فالتبس عليه الشيطان بالملَلك، واختلط عليه التوحيد بالكفر، حتى لم يفرّق بينهما، وأنا من أدنى المؤمنين منزلة، وأقلهم معرفة بما وفقني الله له، وآتاني من علمه لا يخفى على وعليكم أن هذا كفر لا يجوز وروده من عند الله، ولو قال أحد لكم لتبادر الكل إليه قبل التفكير بالإنكار والردع والتثريب والتشنيع، فضلًا عن أن يجهل النبي صلى الله عليه وسلم حال القول، ويخفى عليه قوله ولا يتفطن لصفة الأصنام بأنها الغرانيق العلى وأن شفاعتهن ترتجى وقد علم علمًا ضروريًّا أنها جمادات لا تسمع ولا تبصر، ولا تنطق ولا تضر، ولا تنفع ولا تنصر ولا تشفع، بهذا كله كان يأتيه جبريل الصباح والمساء، وعليه انبنى التوحيد ولا يجوز نسخه من جهة المنقول، فكيف يخفى هذا على الرسول؟! ثم لم يَكْفِ هذا حتى قالوا: إن جبريل عليه السلام لما عاد إليه بعد ذلك ليعارضه فيما ألقي إليه من الوحي كررها عليه جاهلًا بها- تعالى الله عن ذلك- فحينئذ أنكرها عليه جبريل، وقال له: ما جئتك بهذا! فحزن النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه: {وَإن كادُوا لَيَفْتِنونَكَ عن الذي أوحينا إلَيكَ لتفترى عَلينا غَيره} [الإسراء:73] فيالله والمتعلمين والعالمين من شيخ فاسد موسوس هامد لا يعلم أن هذه الآية نافية لما زعموا، مبطلة لما رووا وتقوّلوا. وهو:
المقام السادس: وذلك أن قول ابن العربي: كاد يكون كذا معناه قارب ولم يكن فأخبر الله في هذه الآية أنهم قاربوا أن يفتنوه عن الذي أوحي إليه، ولم تكن فتنة، ثم قال: {لِتفتَرىَ علينا غَيرَهُ} [الإسراء:73] وهو:
المقام السابع: ولم يفتر، ولو فتنوك وافتريت لاتخذوك خليلًا، فلم تفتتن ولا افتريت ولا اتخذوك خليلًا، {ولولا أن ثبّتْناك} [الإسراء:74] وهو:
المقام الثامن: {لقد كِدت تَركن إليهم شَيئًا قَليلًا} [الإسراء:74]، فأخبر الله سبحانه وتعالى أنه ثبته، وقرر التوحيد والمعرفة في قلبه، وضرب عليه سرادق العِصمة، وآواه في كَنَف الحرمة، ولو وكله إلى نفسه، ورفع عنه ظل عصمته لحظة، لألممت بما راموه ولَكِنا أمرنا عليك المحافظة، وأشرقنا بنوره الهداية فؤادك، فاستبصر وأزاح عنك الباطل ودحر، فهذه الآية نص في عصمته من كل ما نسب إليه، فكيف يتأولها أحد عدوا عما نسب إليه من الباطل إليه؟!.
المقام التاسع: قوله: فما زال مغموما مهموما حتى نزلت عليه: {وما أرسلنا من قَبلكَ من رّسولٍ ولا نبي} [الحج:52]، فأما غمه وحزنه، فبأن تمكن الشيطان مما تمكن مما يأتي بيانه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعز عليه أن ينال الشيطان شيئًا وإن قل تأثيره.
المقام العاشر: إن هذه الآية نص في غرضنا، الدليل على صحة مذهبنا، أصل في براءة النبي صلى الله عليه وسلم مما نسب إليه أنه قاله عندنا، وذلك أنه قال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رّسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته} [الحج:52]، فأخبر الله تعالى أن من سنته في رسله، وسيرته في أنبيائه، أنهم إذا قالوا عن الله قولًا، زاد الشيطان فيه من قبل نفسه، كما يفعل سائر المعاصي، كما تقول: ألقيت في الدار كذا، وألقيت في العِكم كذا، وألقيت في الكيس كذا، فهذا نص في أن الشيطان زاد في الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم، لا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كما إذا قرأ تلا قرأنا مقطّعًا، وسكت في مقاطع الآي سكوتًا محصلًا، وكذلك كان حديثه مترسلًا فيه، متأنيًّا، فتبع الشيطان تلك السكتات التي بين قوله: {ومناة الثالثة الأخرى} [النجم:20] وبين قوله تعالى: {ألكُمُ الذّكرُ وله الأنثى} [النجم:21]، فقال يحاكي صوت النبي صلى الله عليه وسلم: وأنهن الغرانقة العلى وإن شفاعتهن لترتجى، فأما المشركون، والذين في قلوبهم مرض لقلة البصيرة وفساد السريرة، فتلوها عن النبي صلى الله عليه وسلم، ونسبوها بجهلهم إليه، حتى سجدوا معه اعتقادًا أنه معهم، وعلم الذين أوتوا العلم والإيمان أن القران حق من عند الله، فيؤمنون به، ويرفضون غيره، وتجيب قلوبهم إلى الحق، وتنفر عن الباطل، وكل ذلك إبتلاء من الله، ومحنة، فأين هذا من قولهم؟! وليس في القرآن إلا غاية البيان بصيانة النبي صلى الله عليه وسلم في الإسرار والإعلان، عن الشرك والكُفران، وقد أودعنا إليكم توصية أن تجعلوا القران، إمامكم، وحروفه أمامكم، فلا تحملوا عليها ما ليس فيها، ولا تربطوا بها ما ليس منها، وما هدي لهذا إلا الطبري بجلالة قدره وصفاء فكره، وسعة باعه في العلم، وشدة ساعده وذراعه في النظر، وكأنه أشار إلى هذا الغرض، وصوَّب على هذا المرمى فقرطس بعد ما ذكر في ذلك روايات كثيرة باطلة لا أصل لها، ولو شاء ربك لما رواها أحد، ولا سطرها، ولَكِنه فعال لما يريد، عصمنا الله وإياكم بالتوفيق والتسديد، وجعلنا من أهل التوحيد بفضله ورحمته.

.2- كلام القاضي عِياض في ذلك:

قال القاضي عِيَاضْ:
فاعلم أكرمك الله: أن لنا في الكلام على مشكل الحديث مأخذين:
أحدهما في توهِين أصله، والثاني على تسليمه.
أما المأخذ الأول، فيكفيك أن هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند متصل سليم، وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم، وصدق القاضي بكر بن العلاء المالكي حيث قال: لقد بُلي الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير، وتعلق بذلك الملحدون مع ضعف نقله، واضطراب رواياته، وانقطاع إسناده واختلاف كلماته. فقائل يقول: إنه في الصلاة، وآخر يقول: قالها في نادي قومه حين أنزلت عليه السورة، وآخر يقول: قالها وقد أصابته سِنة، وآخر يقول: بل حَدَّثَ نفسه فسها، وآخر يقول: إن الشيطان قالها على لسانه، وإن النبي صلى الله عليه وسلم لما عرضها على جبريل قال: ما هكذا أقرأتك؟! وآخر يقول: بل أعلمهم الشيطان أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، قال: والله ما هكذا أنزلت. إلى غير ذلك من اختلاف الرواة، ومن حُكيت هذه الحكاية عنه من المفسرين والتابعين لم يُسْندها أحد منهم، ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية، والمرفوع فيه حديث شُعبة عن أبي بِشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فيما أحسب- الشك في الحديث- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة، وذكر القصة. وقال أبو بكر البزّار: هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل يجوز ذِكره إلا هذا، ولم يسنده عن شبعة إلا أمية بن خالد، وغيره يرسله عن سعيد بن جبير، وإنما يعرف عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.