فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{والذين هَاجَرُواْ في سَبِيلِ الله} أي في الجهاد حسبما يلوح به قوله تعالى: {ثُمَّ قُتِلُواْ أَوْ مَاتُواْ} أي في تضاعيف المهاجرة.
وقرأ ابن عامر {قاتلوا} بالتشديد، ومحل الموصول الرفع على الابتداء، وقوله تعالى: {لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله} جواب لقسم محذوف والجملة خبره على الأصح من جواز وقوع القسم وجوابه خبرًا، ومن منع أضمر قولًا هو الخبر والجملة محكية به، وقوله سبحانه: {رِزْقًا حَسَنًا} أما مفعول ثان ليرزق على أنه من باب النقض والذبح أي مرزوقًا حسنًا أو مصدر مبين للنوع، والمراد به عند بعض ما يكون للشهداء في البرزخ من الرزق، ويؤيده ما أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من مات مرابطًا أجرى عليه الرزق وأمن من الفتانين» واقرؤا إن شئتم {والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا} إلى قوله تعالى: {حليم} [الحج: 58- 59] وقد نص سبحانه في آية أخرى على أن الذين يقتلون في سبيل الله تعالى أحيا عند ربهم يرزقون وليس ذلك في تلك الآية إلا في البرزخ وقال آخرون: المراد به ما لا ينقطع أبدًا من نعيم الجنة.
ورد بأن ذلك لا اختصاص له بمن هاجر في سبيل الله ثم قتل أو مات بل يكون للمؤمنين كلهم.
وتعقب بأن عدم الاختصاص ممنوع فإن تنكير {رِزْقًا} يجوز أن يكون للتنويع ويختص ذلك النوع بأولئك المهاجرين، وقيل المراد تشريفهم وتبشيرهم بهذا الوعد الصادر ممن لا يخلف الميعاد المقترن بالتأكيد القسمي ويكفي ذلك في تفضيلهم على سائر المؤمنين كما في المبشرين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم وفيه نظر.
وقال الكلبي: هو الغنيمة، وقال الأصم: هو العلم والفهم كقول شعيب عليه السلام: {وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} [هود: 88] ويرد عليهما أنه تعالى جعل هذا الرزق جزاء على قتلهم أو وتهم في تضاعيف المهاجرة في سبيل الله تعالى فلا يصح أن يكون في الدنيا ولعل قائل ذلك يقول: إنه في الآخرة وفيها تتفاوت مراتب العلم أيضًا. وظاهر الآية على ما قيل: استواء من قتل ومن مات مهاجرًا في سبيل الله تعالى في الرتبة وبه أخذ بعضهم.
وذكر أنه لما مات عثمان بن مظعون وأبو سلمة بن عبد الأسد قال بعض الناس: من قتل من المهاجرين أفضل ممن مات حتف أنفه فنزلت الآية مسوية بينهم.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن فضالة بن عبيد الأنصاري الصحابي أنه كان بموضع فمروا بجنازتين إحداهما قتيل والأخرى متوفى فمال الناس على القتيل في سبيل الله تعالى فقال: والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت اسمعوا كتاب الله تعالى فقال: {والذين هَاجَرُواْ في سَبِيلِ الله ثُمَّ قُتِلُواْ أَوْ مَاتُواْ} الآية.
ويؤذ ذلك بما روى عن أنس قال: قال صلى الله عليه وسلم: «المقتول في سبيل الله تعالى والمتوفى في سبيل الله تعالى بغير قتل هما في الأجر شريكان» فإن ظاهر الشركة يشعر بالتسوية، وظاهر القول بالتسوية أن المتوفى مهاجرًا في سبيل الله تعالى شهيدًا كالقتيل وبه صرح بعضهم، وفي البحر أن التسوية في الوعد بالرزق الحسن لا تدل على تفضيل في المعطى ولا تسوية فإن يكن تفضيل فمن دليل آخر، وظاهر الشريعة أن المقتول أفضل انتهى، وما تقدم في سبيل النزول غير مجمع عليه، فقد روى أن طوائف من الصحابة رضي الله تعالى عنهم قالوا: يا نبي الله هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله تعالى من الخير ونحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا معك فنزلت، واستدل بعضهم بهذا أيضًا على التسوية، وقال مجاهد: نزلت في طوائف خرجوا من مكة إلى المدينة لهجرة فتبعهم المشركون وقاتلوهم، وعلى هذا القول ليس المراد من المهاجرة في سبيله تعالى المهاجرة في الجهاد، وأيًّا ما كان فهذا ابتداء كلام غير داخل في حيز التفصيل.
ويوهم ظاهر كلام بعضهم الدخول وأنه تعالى أفراد المهاجرين بالذكر مع دخولهم دخولًا أوليًّا في {الذين آمنوا وعملوا الصالحات} [الحج: 56] تفخيمًا لشأنهم وهو كما ترى، {وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرزقين} فإنه جل وعلا يرزق بغير حساب مع أن ما يرزقه قد لا يقدر عليه أحد غيره سبحانه وأن غيره تعالى إنما يرزق مما رزقه هو جل شأنه.
واستدل بذلك على أنه قد يقال لغيره تعالى رازق والمراد به معطى، والأولى عندي أن لا يطلق رازق على غيره تعالى وأن لا يتجاوز عما ورد.
وأما إسناد الفعل إلى غيره تعالى كرزق الأمير الجندي وأرزق فلانًا من كذا فهو أهون من إطلاق رازق ولعله مما لا بأس به، وصرح الراغب بأن الرزاق لا يقال إلا لله تعالى، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبله.
{لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ} استئناف مقرر لمضمون قوله سبحانه: {لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله} [الحج: 58] أو بدل منه مقصود منه تأكيده.
و{مُّدْخَلًا} إما اسم مكان أريد به الجنة كما قال السدي وغيره أو درجات فيها مخصوصة بأولئك المهاجرين كما قيل، وقيل هو خيمة من درة بيضاء لا فصم فيها ولا وصم لها سبعون ألف مصراع، أو مصدر ميمي، وهو على الاحتمال الأول مفعول ثان للإدخال وعلى الثاني مفعول مطلق، ووصفه بيرضونه على الاحتمالين لما أنهم يرون إذا أدخلوا ما لا عين رأيت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بسر، وقيل على الثاني: إن رضاهم لما أن إدخالهم من غير مشقة تنالهم بل براحة واحترام.
وقرأ أهل المدينة {مُّدْخَلًا} بالفتح والباقون بالضم {وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ} بالذي يرضيهم فيعطيهم إياه أو لعليم بأحوالهم وأحوال أعدائهم الذين هاجروا لجهادهم {حَلِيمٌ} فلا يعاجل أعداءهم بالعقوبة، وبهذا يظهر مناسبة هذا الوصف لما قبله وفيه أيضًا مناسبة لما بعد {ذلك} قد حقق أمره. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ}.
آذنت الغاية التي في قوله: {حتى تأتيهم الساعة بغتة} [الحج: 55] أن ذلك وقت زوال مرية الذين كفروا، فكان ذلك منشأ سؤال سائل عن صورة زوال المرية: وعن ماذا يلقونه عند زوالها، فكان المقام أن يجاب السؤال بجملة {الملك يومئذ لله يحكم بينهم} إلى آخر ما فيها من التفصيل، فهي استئناف بياني.
فقوله: {يومئذ} تقدير مضافه الذي عُوّض عنه التنوين: يوم إذ تزول مريتهم بحلول الساعة وظهور أن ما وعدهم الله هو الحق، أو يوم إذ تأتيهم الساعة بغتة.
وجملة {يحكم بينهم} اشتمال من جملة {الملك يومئذ لله}.
والحكم بينهم: الحكمُ فيما اختلفوا فيه من ادّعاء كل فريق أنه على الحق وأن ضده على الباطل، الدال عليه قوله: {وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك} [الحج: 54] وقوله: {ولا يزال الذين كفروا في مرية منه} [الحج: 55] فقد يكون الحكم بالقول، وقد يكون بظهور آثار الحق لفريق وظهور آثار الباطل لفريق، وقد فُصل الحكم بقوله: {فالذين آمنوا وعملوا الصالحات} الخ، وهو تفصيل لأثر الحكم يدلّ على تفصيل أصله، أي ذلك حكم الله بينهم في ذلك اليوم.
وأريد بالذين آمنوا وعملوا الصالحات عمومه.
وخص بالذكر منهم الذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا تنويهًا بشأن الهجرة، ولأجلها استوى أصحابها في درجات الآخرة سواء منهم من قتل في سبيل الله أو مات في غير قتال بعد أن هاجر من دار الكفر.
والتعريف في {الملك} تعريف الجنس، فدلّت جملة {الملك يومئذ لله} على أن ماهية الملك مقصورة يومئذ على الكون مِلكًا لله، كما تقدم في قوله تعالى: {الحمد لله} [الفاتحة: 2] أي لا ملك لغيره يومئذ.
والمقصود بالكلام هو جملة {يحكم بينهم} إذ هم البدل.
وإنما قدمت جملة {الملك يومئذ لله} تمهيدًا لها وليقع البيان بالبدل بعد الإبهام الذي في المبدل منه.
وافتتح الخبر عن الذين كفروا باسم الإشارة في قوله: {فأولئك لهم عذاب مهين} للتنبيه على أنهم استحقوا العذاب المُهين لأجل ما تقدم من صفتهم بالكفر والتكذيب بالآيات.
والمُهين: المذل، أي لهم عذاب مشتمل على ما فيه مذلتهم كالضرب بالمقامع ونحوه.
وقرن {فأولئك لهم عذاب مهين} بالفاء لما تضمنه التقسيم من معنى حرف التفصيل وهو أما، كأنه قيل: وأما الذين كفروا، لأنه لما تقدم ثواب الذين آمنوا كان المقام مثيرًا لسؤال من يترقب مقابلة ثواب المؤمنين بعقاب الكافرين وتلك المقابلة من مواقع حرف التفصيل.
والرزق: العطاء، وهو كل ما يتفضّل به من أعيان ومنافع، ووصفه بالحسن لإفادة أنه يُرضيهم بحيث لا يتطلبون غيره لأنه لا أحسن منه.
وجملة {ليدخلنهم مدخلًا يرضونه} بدل من جملة {ليرزقنهم الله رزقًا حسنًا}، وهي بدل اشتمال، لأن كرامة المنزل من جملة الإحسان في العطاء بل هي أبهج لدى أهل الهمم، ولذلك وصف المدخل بـ {يرضونه}.
ووقعت جملة {وإن الله لهو خير الرازقين} معترضة بين البدل والمبدل منه، وصريحها الثناء على الله.
وكنايتُها التعريض بأن الرزق الذي يرزقهم الله هو خير الأرزاق لصدوره من خير الرازقين.
وأكدت الجملة بحرف التوكيد ولامه وضمير الفصل تصويرًا لعظمة رزق الله تعالى.
وجملة: {وإن الله لعليم حليم} تذييل، أي عليم بما تجشموه من المشاق في شأن هجرتهم من ديارهم وأهلهم وأموالهم، وهو حليم بهم فيما لاقَوه فهو يجازيهم بما لقُوه من أجله.
وهذه الآية تبيّن مزية المهاجرين في الإسلام.
وقرأ نافع {مَدخلًا} بفتح الميم على أنه اسم مكان من دَخل المجردِ لأن الإدخال يقتضي الدخول.
وقرأ الباقون بضم الميم جريًّا على فعل {ليُدخلنّهم} المزيد وهو أيضًا اسم مكان للإدخال. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {الملك يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الملك يوم القيامة له، وإن كان الملك في الدنيا له أيضًا، لأن في الدنيا ملوكًا من المخلوقين، ويوم القيامة لا يكون فيه اسم الملك إلا لله جل وعلا وحده، وما ذكره في هذه الآية الكريمة من أن الملك يوم القيامة له، ومعلوم أن الملك هو الذي له الحكم بين الخلق بينه في غير هذا الموضع كقوله: {مالك يَوْمِ الدين} [الفاتحة: 4] وقوله: {الملك يَوْمَئِذٍ الحق للرحمن} [الفرقان: 26] الآية وقوله: {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] وقوله تعالى: {وَلَهُ الملك يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور} [الأنعام: 73] الآية. إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: {فالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فِي جَنَّاتِ النعيم والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآياتِنَا فأولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}.
إدخال الذين آمنوا وعملوا الصالحات الجنة المذكور هنا وكون الكفار المكذبين بآيات الله لهم العذاب المهين: يتضمن تفصيل حكم الله بينهم في قوله: {يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} وما ذكره هنا من الوعد والوعيد قد بينا الآيات الدالة على معناه مررًا بكثرة، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية: أن المؤمنين الذين هاجروا في سبيل الله، ثم قتلوا بأن قتلهم الكفار في الجهاد، لأن هذا هو الأغلب في قتل من قتل منهم، أو ماتوا على فرشهم حتف أنفهم في غير جهاد، أنه تعالى أقسم ليرزقهم رزقًا حسنًا وأنه خير الرازقين، وما تضمنته هذه الآية الكريمة مما ذكرنا جاء مبينًا في غير هذا الموضع.
أما الذين قتلوا في سبيل الله: فقد بين الله جل وعلا أنه يرزقهم رزقًا حسنًا، وذلك في قوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] ولا شك أن ذلك الذي يرزقهم رزق حسن، وأما الذين ماتوا في غير قتال المذكورين في قوله هنا: أو ماتوا، فقد قال الله فيهم {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله} [النساء: 100] ولا شك أن من وقع أجره على الله: أن الله يرزقه الرزق الحسن كما لا يخفى.
والأحاديث الدالة على ذلك كثيرة.
وقد ذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية طرفًا منها والعلم عند الله تعالى، وقوله تعالى: في هذه الآية: {ثُمَّ قتلوا} قرأه ابن عامر بتشديد التاء والباقون بتخفيفها. اهـ.

.قال الشعراوي:

{الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ}.
ولقائل أنْ يقول: أليس الملْك لله يومئذ، وفي كل يوم؟ نعم، الملْك لله في الدنيا وفي الآخرة، لَكِن في الدنيا خلق الله خَلْقًا وملّكهم، وجعلهم ملوكًا من باطن مُلْكه تعالى، لَكِنه مُلْك لا يدوم، كما قال سبحانه: {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26].
إذن: ففي الدنيا ملوك مَلّكهم الله أمرًا من الأمور، ففيها ملك للغير، أمّا في الآخرة فالملْك لله تعالى وحده: {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16].
وفي القيامة {الملك يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } [الحج: 56] فقد رَدَّ الملْك كله إلى صاحبه، ورُدَّت الأسباب إلى مُسبِّبها.
ومعنى {يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } [الحج: 56] أن هناك خصومةً بين طرفين، أحدهما على حق، والآخر على باطل، والفَصْل في خصومات الدنيا تحتاج إلى شهود، وإلى بينة، وإلى يمين فيقولون في المحاكم: البينة على المدَّعي واليمين على مَنْ أنكر، هذا في خصومات الدنيا، أما خصومات الآخرة فقاضيها الحق- سبحانه وتعالى- الذي يعلم السرَّ وأخفى، فلا يحتاج إلى بينة ولا شهود ولا سلطة تُنفِّذ ما حكم به.
محكمة الآخرة لا تحتاج فيها إلى مُحامٍ، ولا تستطيع فيها أنْ تُدلِّس على القاضي، أو تُؤجِّر شاهد زور، لا تستطيع في محكمة الآخرة أن تستخدم سلطتك الزمنية فتنقض الحكم، أو تُسقطه؛ لأن الملْك يومئذ لله وحدة، والحكم يومئذ لله وحدة، هو سبحانه القاضي والشاهد والمنفِّذ، الذي لا يستدرك على حكمه أحد.
وما دام هناك حكومة، فلابد أن تسفر عن محكوم له ومحكوم عليه، ويُوضِّحهما قوله تعالى: {فالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فِي جَنَّاتِ النعيم} [الحج: 56].
وهؤلاء هم الفائزون الذين جاء الحكم في صالحهم.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)}.
وهؤلاء هم الجبابرة وأصحاب السيادة في دنيا الكفر والعناد، والذين حكم الله عليهم بالعذاب الذي يُهينهم بعد عِزَّتهم وسلطانهم في الدنيا، وتلحظ أن العذاب يُوصَف مرة بأنه أليم، ومرة بأنه عظيم، ومرة بأنه مُهين.
فالعذاب الأليم الذي يُؤلم صاحبه، لَكِنه قد يكون لفترة ثم ينتهي، أما العذاب العظيم فهو الدائم، والمهيمن هو الذي يُذِله ويدوس كرامته التي طالما اعتز بها. وأنت تجد الناس يختلفون في تقبُّل ألوان العذاب: فمنهم مَنْ لا يؤثر فيه الضرب الموجع ولا يحركه، لَكِن تؤلمه كلمة تجرح عِزَّته وكرامته. لذلك جاء العذاب هكذا ألوانًا؛ ليستوعب كل صنوف الملَكات النفسية، ويواجه كُلَّ نفس بما يؤلمها.