فصل: قال البيضاوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وإنما أقحم المؤمنون وثوابهم ليغاظوا، أو تقديره نذير مبين وبشير فبشر أولًا فقال: {فالذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ} لذنوبهم {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أي حسن.
ثم أنذر فقال: {والذين سَعَوْاْ} سعى في أمر فلان إذا أفسده بسعيه {في ءاياتنا} أي القرآن {معاجزين} حال {معجزين} حيث كان: مكي وأبو عمرو.
وعاجزه سابقه كأن كل واحد منهما في طلب إعجاز الآخر عن اللحاق به فإذا سبقه قيل أعجزه وعجزه.
والمعنى سعوا في معناها بالفساد من الطعن فيها حيث سموها سحرًا وشعرًا وأساطير مسابقين في زعمهم وتقديرهم طامعين أن كيدهم للإسلام يتم لها {أولئك أصحاب الجحيم} أي النار الموقدة.
{وما أرسلنا مِن قَبْلِكَ} من لابتداء الغاية {مِن رَّسُولٍ} من زائدة لتأكيد النفي {وَلاَ نَبِيّ} هذا دليل بين على ثبوت التغاير بين الرسول والنبي بخلاف ما يقول البعض إنهما واحد.
وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء فقال «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا» فقيل: فكم الرسل منهم؟ فقال: «ثلثمائة وثلاثة عشر» والفرق بينهما أن الرسول من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه، والنبي من لم ينزل عليه كتاب وإنما أمر أن يدعو إلى شريعة من قبله.
وقيل: الرسول واضع شرع والنبي حافظ شرع غيره {إِلاَّ إِذَا تمنى} قرأ، قال:
تمنى كتاب الله أول ليلة ** تمنى داود الزبور على رسل

{أَلْقَى الشيطان في أمنيته} تلاوته.
قالوا: إنه عليه السلام كان في نادي قومه يقرأ والنجم فلما بلغ قوله: {ومناة الثلاثة الأخرى} [النجم: 20] جرى على لسانه تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى ولم يفطن له حتى أدركته العصمة فتنبه عليه.
وقيل: نبهه جبريل عليه السلام فأخبرهم أن ذلك كان من الشيطان.
وهذا القول غير مرضي لأنه لا يخلوا إما أن يتكلم النبي عليه السلام بها عمدًا وإنه لا يجوز لأنه كفر ولأنه بعث طاعنًا للأصنام لا مادحًا لها، أو أجرى الشيطان ذلك على لسان النبي عليه السلام جبرًا بحيث لا يقدر على الامتناع منه وهو ممتنع لأن الشيطان لا يقدر على ذلك في حق غيره لقوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان} [الإسراء: 65] ففي حقه أولى، أو جرى ذلك على لسانه سهوًا وغفلة وهو مردود أيضًا لأنه لا يجوز مثل هذه الغفلة عليه في حال تبليغ الوحي ولو جاز ذلك لبطل الاعتماد على قوله، ولأنه تعالى قال في صفة المنزل عليه {لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42] وقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} [الحجر: 9] فلما بطلت هذه الوجوه لم يبق إلا وجه واحدٍ وهو أنه عليه السلام سكت عند قوله: {ومناة الثالثة الأخرى} فتكلم الشيطان بهذه الكلمات متصلًا بقراءة النبي صلى الله عليه وسلم فوقع عند بعضهم أنه عليه السلام هو الذي تكلم بها، فيكون هذا إلقاء في قراءة النبي عليه السلام وكان الشيطان يتكلم في زمن النبي عليه السلام ويسمع كلامه، فقد رُوي أنه نادى يوم أحد ألا إن محمدًا قد قتل وقال يوم بدر: {لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ} [الأنفال: 48]
{فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان} أي يذهب به ويبطله ويخبر أنه من الشيطان {ثُمَّ يُحْكِمُ الله آياته} أي يثبتها ويحفظها من لحوق الزيادة من الشيطان {والله عَلِيمٌ} بما أوحى إلى نبيه وبقصد الشيطان {حَكِيمٌ} لا يدعه حتى يكشفه ويزيله. ثم ذكر أن ذلك ليفتن الله تعالى به قوما بقوله: {لّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان فِتْنَةً} محنة وابتلاء {لّلَّذِينَ في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} شك ونفاق {والقاسية قُلُوبُهُمْ} هم المشركون المكذبون فيزدادوا به شكًا وظلمة {وَإِنَّ الظالمين} أي المنافقين والمشركين وأصله وإنهم فوضع الظاهر موضع الضمير قضاء عليهم بالظلم {لَفِي شِقَاقٍ} خلاف {بَعِيدٍ} عن الحق.
{وَلِيَعْلَمَ الذين أُوتُواْ العلم} بالله وبدينه وبالآيات {أَنَّهُ} أي القرآن {الحق مِن رَّبّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ} بالقران {فَتُخْبِتَ} فتطمئن {لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الله لَهَادِ الذين ءامَنُواْ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} فيتأولون ما يتشابه في الدين بالتأويلات الصحيحة ويطلبون لما أشكل منه المحمل الذي تقتضيه الأصول المحكمة حتى لا تلحقهم حيرة ولا تعتريهم شبهة {وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ في مِرْيَةٍ} شك {مِنْهُ} من القرآن أو من الصراط المستقيم {حتى تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً} فجأة {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} يعني يوم بدر فهو عقيم عن أن يكون للكافرين فيه فرج أو راحة كالريح العقيم لا تأتي بخير.
أو شديد لا رحمة فيه أو لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه.
وعن الضحاك أنه يوم القيامة وأن المراد بالساعة مقدماته.
{الملك يَوْمَئِذٍ} أي يوم القيامة والتنوين عوض عن الجملة أي يوم يؤمنون أو يوم تزول مريتهم {لِلَّهِ} فلا منازع له فيه {يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} أي يقضي.
ثم بين حكمه فيهم بقوله: {فالذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات في جنات النعيم والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} ثم خص قوما من الفريق الأول بفضيلة فقال: {والذين هَاجَرُواْ في سَبِيلِ الله} خرجوا من أوطانهم مجاهدين {ثُمَّ قُتِلُواْ} شامي {أَوْ مَاتُواْ} حتف أنفهم {لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله رِزْقًا حَسَنًا} قيل: الرزق الحسن الذي لا ينقطع أبدًا {وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرازقين} لأنه المخترع للخلق بلا مثال، المتكفل للرزق بلا ملال {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلًا} بفتح الميم مدني والمراد الجنة {يَرْضَوْنَهُ} لأن فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين {وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ} بأحوال من قضى نحبه مجاهدًا، وآمال من مات وهو ينتظر معاهدًا {حَلِيمٌ} بإمهال من قاتلهم معاندًا.
رُوي أن طوائف من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا نبي الله: هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله من الخير ونحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا معك؟ فأنزل الله هاتين الآيتين. اهـ.

.قال البيضاوي:

{إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين ءَامَنُواْ}.
غائلة المشركين، وقرأ نافع وابن عامر والكوفيون {يُدَافِعُ} أي يبالغ في الدفع مبالغة من يغالب فيه. {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ} في أمانة الله. {كَفُورٍ} لنعمته كمن يتقرب إلى الأصنام بذبيحته فلا يرتضي فعلهم ولا ينصرهم.
{أُذِنَ} رخص، وقرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي على البناء للفاعل وهو الله. {لِلَّذِينَ يقاتلون} المشركين والمأذون فيه محذوف لدلالته عليه، وقرأ نافع وابن عامر وحفص بفتح التاء أي الذين يقاتلهم المشركون. {بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ} بسبب أنهم ظلموا وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان المشركون يؤذونهم وكانوا يأتونه من بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه فيقول لهم: اصبروا فإني لم أومر بالقتال حتى هاجر فأنزلت. وهي أول آية نزلت في القتال بعدما نهي عنه في نيف وسبعين آية. {وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} وعد لهم بالنصر كما وعد بدفع أذى الكفار عنهم.
{الذين أُخْرِجُواْ مِن ديارهم} يعني مكة. {بِغَيْرِ حَقٍّ} بغير موجب استحقوه به. {إِلاَّ أَن يقولواْ رَبُّنَا الله} على طريقة قول النابغة:
وَلاَ عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُم ** بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قراع الكَتَائِبِ

وقيل منقطع. {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُم بِبَعْضٍ} بتسليط المؤمنين منهم على الكافرين. {لَّهُدّمَتْ} لخربت باستيلاء المشركين على أهل الملل، وقرأ نافع {دفاع} وقرأ نافع وابن كثير {لَّهُدّمَتْ} بالتخفيف. {صوامع} صوامع الرهبانية. {وَبِيَعٌ} بيع النصارى. {وصلوات} كنائس اليهود، سميت بها لأنها يصلى فيها، وقيل أصلها صلوتا بالعبرانية فعربت. {ومساجد} مساجد المسلمين. {يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيرًا} صفة للأربع أو لمساجد خصت بها تفضيلًا. {وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ} من ينصر دينه، وقد أنجز وعده بأن سلط المهاجرين والأنصار على صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرتهم وأورثهم أرضهم وديارهم. {إِنَّ الله لَقَوِىٌّ} على نصرهم. {عَزِيزٌ} لا يمانعه شيء.
{الذين إِنْ مكناهم في الأرض أَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكوة وَأَمَرُواْ بالمعروف وَنَهَوْاْ عَنِ المنكر} وصف للذين أخرجوا وهو ثناء قبل بلاء، وفيه دليل على صحة أمر الخلفاء الراشدين إذ لم يستجمع ذلك غيرهم من المهاجرين. وقيل بدل ممن ينصره. {وَلِلَّهِ عاقبة الأمور} فإن مرجعها إلى حكمه، وفيه تأكيد لما وعده.
{وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إبراهيم وَقَوْمُ لُوطٍ وأصحاب مَدْيَنَ} تسلية له صلى الله عليه وسلم بأن قومه إن كذبوه فهو ليس بأحودي في التكذيب، فإن هؤلاء قد كذبوا رسلهم قبل قومه. {وَكُذِّبَ موسى} غير فيه النظم وبنى الفعل للمفعول لأن قومه بنو إسرائيل، ولم يكذبوه وإنما كذبه القبط ولأن تكذيبه كان أشنع وآياته كانت أعظم وأشيع. {فَأمْلَيْتُ للكافرين} فأمهلتهم حتى انصرمت آجالهم المقدرة. {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي إنكاري عليهم بتغيير النعمة محنة والحياة هلاكًا والعمارة خرابًا.
{فَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أهلَكِناها} بإهلاك أهلها، وقرأ البصريان بغير لفظ التعظيم. {وهي ظالمة} أي أهلها. {فَهِىَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا} ساقطة حيطانها على سقوفها بأن تعطل بنيانها فخرت سقوفها ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف، أو خالية مع بقاء عروشها وسلامتها فيكون الجار متعلقًا بـ: {خَاوِيَةٌ}، ويجوز أن يكون خبرًا بعد خبر أي هي خالية وهي على عروشها أي: مطلة عليها بأن سقطت وبقيت الحيطان مائلة مشرفة عليها، والجملة معطوفة على {أهلَكِناها} لا على {وهي ظالمة} فإنها حال والإِهلاك ليس حال خوائها فلا محل لها إن نصبت كأي بمقدر يفسره {أهلَكِناها} وإن رفعته بالابتداء فمحلها الرفع. {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ} عطف على {قَرْيَةٍ} أي وكم بئر عامرة في البوادي تركت لا يستقى منها لهلاك أهلها، وقرئ بالتخفيف من أعطله بمعنى عطله.
{وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} مرفوع أو مجصص أخليناه عن ساكنيه، وذلك يقوي أن معنى {خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا} خالية مع بقاء عروشها، وقيل المراد بـ: {بئر} بئر في سفح جبل بحضرموت وبقصر قصر مشرف على قلته كانا لقوم حنظلة بن صفوان من قوم صالح فلما قتلوه أهلكهم الله تعالى وعطلهما.
{أَفَلَمْ يَسِيرُواْ في الأرض} حث لهم على أن يسافروا ليروا مصارع المهلكين فيعتبروا، وهم وإن كانوا قد سافروا فلم يسافروا لذلك. {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} ما يجب أن يعقل من التوحيد بما حصل لهم من الاستبصار والاستدلال. {أَوْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} ما يجب أن يسمع من الوحي والتذكير بحال من شاهدوا آثارهم. {فَإِنَّهَا} الضمير للقصة أو مبهم يفسره الأبصار. وفي {تَعْمَى} راجع إليه والظاهر أقيم مقامه. {لاَ تَعْمَى الأبصار ولَكِن تعمى القلوب التى في الصدور} عن الاعتبار أي ليس الخلل في مشاعرهم وإنما أيفت عقولهم باتباع الهوى والانهماك في التقليد، وذكر {الصدور} للتأكيد ونفي التجوز وفضل التنبيه على أن العمى الحقيقي ليس المتعارف الذي يخص البصر. قيل لما نزل {وَمَن كَانَ في هذه أعمى} قال ابن أم مكتوم يا رسول الله أنا في الدنيا أعمى أفأكون في الآخرة أعمى فنزلت {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار} {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب} المتوعد به. {وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ} لامتناع الخلف في خبره فيصيبهم ما أوعدهم به ولو بعد حين لَكِنه صبور لا يعجل بالعقوبة. {وَإِنَّ يَوما عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَا تَعُدُّونَ} بيان لتناهي صبره وتأنيه حتى استقصر المدد الطوال، أو لتمادي عذابه وطول أيامه حقيقة، أو من حيث إن أيام الشدائد مستطالة، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالياء.
{وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ} وكم من أهل قرية فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه في الإعراب، ورجع للضمائر والأحكام مبالغة في التعميم والتهويل وإنما عطف الأولى بالفاء وهذه بالواو، لأن الأولى بدل من قوله: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} وهذه في حكم ما تقدمها من الجملتين لبيان أن المتوعد به يحيق بهم لا محالة وأن تأخيره لعادته تعالى. {أَمْلَيْتُ لَهَا} كما أمهلتكم. {وهي ظالمة} مثلكم. {ثُمَّ أَخَذْتُهَا} بالعذاب. {وإلي المصير} وإلى حكمي مرجع الجميع.
{قُلْ يَا أَيُّهَا الناس إِنَّمَا أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أوضح لكم ما أنذركم به، والاقتصار على الإِنذار مع عموم الخطاب وذكر الفريقين لأن صدر الكلام ومساقه للمشركين، وإنما ذكر المؤمنين وثوابهم زيادة في غيظهم.
{فالذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ} لما بدر منهم. {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} هي الجنة وال {كَرِيمٌ} من كل نوع ما يجمع فضائله.
{والذين سَعَوْاْ في ءاياتنا} بالرد والإِبطال. {معاجزين} مسابقين مشاقين للساعين فيها بالقبول والتحقيق، من عاجزه فأعجزه وعجزه إذا سابقه فسبقه لأن كلا من المتسابقين يطلب إعجاز الآخر عن اللحوق به، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {معاجزين} على أنه حال مقدرة. {أولئك أصحاب الجحيم} النار الموقدة، وقيل اسم دركة.
{وما أرسلنا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىٍّ} الرسول من بعثه الله بشريعة مجددة يدعو الناس إليها، والنبي يعمه ومن بعثه لتقرير شرع سابق كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهم السلام، ولذلك شبه النبي صلى الله عليه وسلم علماء أمته بهم، فالنبي أعم من الرسول ويدل عليه أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن الأنبياء فقال: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا، قيل فكم الرسل منهم قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر جمًا غفيرًا» وقيل الرسول من جمع إلى المعجزة كتابًا منزلًا عليه، والنبي غير الرسول من لا كتاب له. وقيل الرسول من يأتيه الملك بالوحي، والنبي يقال له ولمن يوحى إليه في المنام. {إِلاَّ إِذَا تمنى} زور في نفسه ما يهواه. {أَلْقَى الشيطان في أمنيته} في تشهيه ما يوجب اشتغاله بالدنيا كما قال عليه الصلاة والسلام «وإنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة» {فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِى الشيطان} فيبطله ويذهب به بعصمته عن الركون إليه والإِرشاد إلى ما يزيحه. {ثُمَّ يُحْكِمُ الله آياته} ثم يثبت آياته الداعية إلى الاستغراق في أمر الآخرة. {والله عَلِيمٌ} بأحوال الناس. {حَكِيمٌ} فيما يفعله بهم، قيل حدث نفسه بزوال المسكنة فنزلت. وقيل تمنى لحرصه على إيمان قومه أن ينزل عليه ما يقربهم إليه واستمر به ذلك حتى كان في ناديهم فنزلت عليه سورة والنجم فأخذ يقرؤها فلما بلغ {ومناة الثالثة الأخرى} وسوس إليه الشيطان حتى سبق لسانه سهوًا إلى أن قال: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى، ففرح به المشركون حتى شايعوه بالسجود لمَا سجد في آخرها، بحيث لم يبق في المسجد مؤمن ولا مشرك إلا سجد، ثم نبهه جبريل عليه السلام فاغتم لذلك فعزاه الله بهذه الآية. وهو مردود عند المحققين وإن صح فابتلاء يتميز به الثابت على الإِيمان عن المتزلزل فيه، وقيل تمنى قرأ كقوله:
تمنى كتاب الله أول ليلة ** تَمَنِّيَ دَاوُدُ الزَّبُورَ عَلَى رسلِ

وأمنيته قراءته وإلقاء الشيطان فيها أن تكلم بذلك رافعًا صوته بحيث ظن السامعون أنه من قراءة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد رد أيضًا بأنه يخل بالوثوق على القران ولا يندفع بقوله: {فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِى الشيطان ثُمَّ يُحْكِمُ الله آياته} لأنه أيضًا يحتمله، والآية تدل على جواز السهو على الأنبياء وتطرق الوسوسة إليهم.
{لّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان} علة لتمكين الشيطان منه، وذلك يدل على أن الملقى أمر ظاهر عرفه المحق والمبطل. {فِتْنَةً لّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} شك ونفاق. {والقاسية قُلُوبُهُمْ} المشركين. {وَإِنَّ الظالمين} يعني الفريقين فوضع الظاهر موضع ضميرهم قضاء عليهم بالظلم. {لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} عن الحق أو عن الرسول والمؤمنين.
{وَلِيَعْلَمَ الذين أُوتُواْ العلم أَنَّهُ الحق مِن رَّبّكَ} أن القران هو الحق النازل من عند الله، أو تمكين الشيطان من الإِلقاء هو الحق الصادر من الله لأنه مما جرت به عادته في الإِنس من لدن آدم. {فَيُؤْمِنُواْ بِهِ} بالقران أو بالله. {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} بالإِنقياد والخشية. {إِنَّ اللهَ لَهَادِي الَّذِينَ ءَامَنُواْ} فيما أشكل. {إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} هو نظر صحيح يوصلهم إلى ما هو الحق فيه.
{وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ} في شك. {مِنْهُ} من القرآن أو الرسول، أو مما ألقى الشيطان في أمنيته يقولون ما باله ذكرها بخير ثم ارتد عنها. {حتى تَأْتِيَهُمُ الساعة} القيامة أو أشراطها أو الموت. {بَغْتَةً} فجأة. {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} يوم حرب يقتلون فيه كيوم بدر، سمي به لأن أولاد النساء يقتلون فيه فيصرن كالعقم، أو لأن المقاتلين أبناء الحرب فإذا قتلوا صارت عقيمًا، فوصف اليوم بوصفها اتساعًا أو لأنه لا خير لهم فيه، ومنه الريح العقيم لما لم تنشيء مطرًا ولم تلقح شجرًا، أو لأنه لا مثل له لقتال الملائكة فيه، أو يوم القيامة على أن المراد بـ: {الساعة} غيره أو على وضعه، موضع ضميرها للتهويل.
{الملك يَوْمَئِذٍ للَّهِ} التنوين فيه ينوب عن الجملة التي دلت عليها الغاية أي: يوم تزول مريتهم. {يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} بالمجازاة، والضمير يعم المؤمنين والكافرين لتفصيله بقوله: {فالذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فِي جنات النعيم}.
{والذين كَفَرُواْ بآياتنا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} وإدخال الفاء في خبر الثاني دون الأول تنبيه على أن إثابة المؤمنين بالجنات تفضل من الله تعالى، وأن عقاب الكافرين مسبب عن أعمالهم فلذلك قال: {لَهُمْ عَذَابَ} ولم يقل: هم في عذاب.
{والذين هَاجَرُواْ في سَبِيلِ الله ثُمَّ قُتِلُواْ} في الجهاد. {أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله رِزْقًا حَسَنًا} الجنة ونعيمها، وإنما سوى بين من قتل في الجهاد ومن مات حتف أنفه في الوعد لاستوائهما في القصد وأصل العمل. روي أن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم قالوا: يا نبي الله هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله تعالى من الخير ونحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا فنزلت. {وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرازقين} فإنه يرزق بغير حساب.
{لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ} هو الجنة فيها ما يحبونه. {وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ} بأحوالهم وأحوال معادهم. {حَلِيمٌ} لا يعاجل في العقوبة. اهـ.