فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{ذلك} خبرُ مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك والجملةُ لتقرير ما قبله والتَّنبيهِ على أنَّ ما بعده كلامٌ مستأنفٌ {وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} أي لم يَزد في الاقتصاصِ وإنَّما سُمِّي الابتداء بالعقابِ الذي هو جزاءُ الجنايةِ للمشاكلةِ أو لكونِه سببًا له {ثُمَّ بُغِىَ عَلَيْهِ} بالمعاودة إلى العُقوبة {لَيَنصُرَنَّهُ الله} على مَن بغى عليه لا محالة {إِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} أي مبالغٌ في العفوِ والغُفرانِ فيعفُو عن المنتصرِ ويغفرُ له ما صدرَ عنه من ترجيحِ الانتقامِ على العفوِ والصبرِ المندوبِ إليهما بقوله تعالى: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ} أي ما ذُكر من الصَّبرِ والمغفرةِ {لَمِنْ عَزْمِ الأمور} فإنَّ فيه حثًّا بليغًا على العفوِ والمغفرةِ فإنَّه تعالى مع كمالِ قُدرتِه لمَا كانَ يعفُو ويغفُر فغيرُه أَوْلى بذلك وتنبيهًا على أنَّه تعالى قادرٌ على العقوبةِ إذ لا يُوصف بالعفوِ إلاَّ القادرُ على ضدِّهِ.
{ذلك} إشارةٌ إلى النَّصر وما فيه من معنى البُعد للإيذانِ بعلوِّ رُتبته. ومحلُّه الرَّفعُ على الابتداء خبرُه قوله تعالى: {بِأَنَّ الله يُولِجُ الليل في النهار وَيُولِجُ النهار في الليل} أي بسببِ أنَّه تعالى من شأنِه وسُنَّتِه تغليبُ بعض مخلوقاته على بعضٍ والمداولةُ بين الأشياءِ المتضادَّةِ وعبَّر عن ذلك بإدخالِ أحدِ المَلَوين في الآخر بأنْ يزيد فيه ما يُنقص عن الآخر أو بتحصيلِ أحدِهما في مكانِ الآخرلكونِه أظهرَ الموادِّ وأوضحَها {وَأَنَّ الله سَمِيعٌ} بكلِّ المسموعاتِ التي من جُملتها قول المعاقِبِ {بَصِيرٌ} بجميع المُبصراتِ ومن جُملتها أفعاله.
{ذلك} أي الاتِّصافُ بما ذُكر من كمالِ القُدرةِ والعلمِ وما فيه من معنى البُعد لما مَرَّ آنِفًا وهو مبتدأٌ خبرُه قوله تعالى: {بِأَنَّ الله هُوَ الحق} الواجبُ لذاته الثَّابتُ في نفسِه وصفاتِه وأفعالِه وحدَهُ فإنَّ وجوبَ وجودِه ووحدتِه يقتضيانِ كونَه مبدًا لكُلِّ ما يُوجدُ من الموجوداتِ عالِمًا بكلِّ المعلوماتِ أو الثَّابتُ إلهية فلا يصلحُ إلاَّ مَن كان عالمًا قادرًا {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ} إلها. وقرئ على البناءِ للمفعولِ على أنَّ الواوَ لما فاته عبارة عن الآلهة. وقرئ بالتَّاءِ على خطابِ المُشركين {هُوَ الباطل} أي المعدومُ في حدِّ ذاتِه أو الباطلُ ألوهيَّتُه {وَأَنَّ الله هُوَ العلى} على جميعِ الأشياءِ {الكبير} عن أنْ يكون له شريكٌ لا شيء أعلى منه شأنًا وأكبر سلطانًا. اهـ.

.قال الألوسي:

{ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} أي من جازى الجاني بمثل ماجنى به عليه، وتسمية ما وقع ابتداء عقابًا مع أن العقاب كما قال غير واحد جزاء الجناية لأنه يأتي عقبها وهو في الأصل شيء يأتي عقب شيء للمشاكلة أو لأن الابتداء لما كان سببًا للجزاء أطلق عليه مجازًا مرسلًا بعلاقة السببية، وقال بعض المحققين: يجوز أن يقال: لا مشاكلة ولا مجاز بناء على أن العرف جار على إطلاقه على ما يعذب به وإن لم يكن جزاء جناية، و{مِنْ} موصولة وجوز أن تكون شرطية سد جواب القسم الآتي مسد جوابها، والجملة مستأنفة، والباء في الموضعين قيل للسبب لا للآلة وإليه ذهب أبو البقاء، وقال الخفاجي: باء {بِمَثَلٍ} آلية لا سببية لئلا يتكرر مع قوله تعالى: {بِهِ} والمنساق إلى ذهني القاصر كونها في الموضعين للآلة وفيما ذكره الخفاجي نظر فتأمل.
{ثُمَّ بُغِىَ عَلَيْهِ} بالمعاودة إلى العقاب {لَيَنصُرَنَّهُ الله} على من بغى عليه لا محالة عند كره للانتقام منه {إِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} تعليل للنصرة حيث كانت لمن ارتكب خلاف الأولى من العفو عن الجاني المندوب إليه والمستوجب للمدح عنده تعالى ولم ينظر في قوله تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله} [الشورى: 40]. {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ للتقوى} [البقرة: 237]. {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: 43] بأن ذلك لأنه لا يلوم على ترك الأولى إذا روعى الشريطة وهي عدم العدوان.
وفيه تعريض بمكان أولية العفو لأن ذكر الصفتين يدل على أن هناك شبه جناية، وإظهار الاسم الجليل في مقام الإضمار للإشارة إلى أن ذلك من مقتضى الألوهية.
وحمل الجملة على ما ذكر أحد أوجه ثلاثة ذكرها الزمخشري في بيان مطابقة ذكر العفو الغفور هذا الموضع.
وثانيها: أنه دل بذلك على أنه تعالى قادر على العقوبة لأنه لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده.
قال في الكشف: فهو أي {إِنَّ الله} الخ على هذا أيضًا تعليل للنصرة وأن المعاقب يستحق فوق ذلك وإنما الاكتفاء بالمثل لمكان عفو الله تعالى وغفرانه سبحانه، وفيه إدماج أيضًا للحث على العفو وهذا وجه وجيه. اهـ.
وثالثها: أنه دل بذلك على نفي اللوم على ترك الأولى حسبما قرر أولًا إلا أن الجملة عليه خبر ثان لقوله تعالى: {مِنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} والخبر الآخر قوله تعالى: {لَيَنصُرَنَّهُ الله} فيكون قد أخبر عنه بأنه لا يلومه على ترك العفو وأنه ضامن لنصره في إخلاله ثانيًّا بذلك.
وجعل ذلك بعضهم من التقديم والتأخير ولا ضرورة إليه، وقيل: إن العفو ليس لارتكاب المعاقب خلاف الأولى بل لأن المماثلة من كل الوجوه متعسرة فيحتاج للعفو عما وقع فيها وليس بذاك.
ونقل الطيبي عن الإمام أن الآية نزلت في قوم مشركين لقوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم فقالوا: إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يكرهون القتال في الشهر الحرام فاحملوا عليهم فناشدهم المسلمون بأن يكفوا عن القتال فأبوا فقاتلوهم فنصر الملسمون ووقع في أنفسهم شيء من القتال في الشهر الحرام فأنزل الله تعالى الآية، ثم قال: فعلى هذا أمر المطابقة ظاهر ويكون أوفق لتأليف النظم، وذلك أن لفظة {ذلك} فصل للخطاب وقوله تعالى: {وَمَنْ عَاقَبَ} شروع في قصة أخرى لأولئك السادة بعد قوله سبحانه: {والذين هاجروا} الآيتين. اهـ.
وتعقب بأن الآية تقتضي ابتداء ثم جزاء ثم بغيًّا ثم جزاء والقصة لم تدل عليه إلا أن يجعل ما بينهم من التعادي معاقبة بالمثل ويجعل البغي مناواتهم لقتال المسلمين في الشهر الحرام وهو خلاف الظاهر، وأما الموافقة لتأليف النظم فعلى ما ذكره غيره أبين لأنه لما ذكر حال المقتولين منهم والميتين منهم قيل الأمر ذلك فيما يرجع إلى حال الآخرة وفيما يرجع إلى حال الدنيا إنهم لهم المنصورون لأنهم بين معاقب وعاف وكلاهما منصوران أما الأول فنصًا وأما الثاني فمن فحوى الخطاب أعني مفهوم الموافقة، وفيه وعيد شديد للباغي وأنه مخذول في الدارين مسلوك في قرن من كان في مرية حتى أتته الساعة أو العذاب اهـ. وهو كلام رصين، ولا يعكر عليه قولهم: إنه أتى بذلك للاقتضاب فتأمل.
وعن الضحاك أن الآية مدنية وهي في القصاص والجراحات، واستدل بها الشافعي على وجوب رعاية المماثلة في القصاص، وعندنا لا قود إلا بالسيف كما جاء في الخبر والمراد به السلاح وخبر {مِنْ} لم يصح وبتسليم صحته محمول على السياسة، وينبغي أن يعلم أن المعاقبة بالمثل على الإطلاق غير مشروعة فإن الرجل قد يعاقب بنحو يا زاني وقد قالوا: إنه إذا قيل له ذلك فقال لا بل أنت زان حد هو والقائل الأول فليحفظ.
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61)}.
إشارة إلى النصر المدلول عليه بقوله تعالى: {لَيَنصُرَنَّهُ} [الحج: 60] وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو رتبته، وقيل لعدم ذكر المشار إليه صريحًا، ومحله الرفع على الابتداء وخبره قوله سبحانه: {ذلك بِأَنَّ الله يُولِجُ الليل في النهار وَيُولِجُ النهار في} والباء فيه سببية، والسبب ما دل عليه ما بعد بطريق اللزوم أي ذلك النصر كائن لسبب أن الله تعالى شأنه قادر على تغليب بعض مخلوقاته على بعض والمداولة بين الأشياء المتضادة ومن شأنه ذلك.
وعبر عن ذلك بإدخال أحد الملوين في يالآخر بأن يزيد فيه ما ينقص من الآخر كما هو الأوفق بالإيلاج أو بتحصيل أحدهما في مكان الآخر كما قيل لا بأن يجعل بن كل نهارين ليلًا وبين كل ليلين نهارًا كما قد توهم لكونه أظهر المواد وأوضحها أو كائن بسبب أنه تعالى خالق الليل والنهار ومصرفهما فلا يخفى ما يجري فيهما على أيدي عباده من الخير والشر والبغي والانتصار كما قيل، وعلى الأول قوله تعالى: {وَأَنَّ الله سَمِيعٌ} بكل المسموعات التي من جملتها ما يقول المعاقب {بَصِيرٌ} بكل المبصرات التي من جملتها ما يقع منه من الأفعال من تتمة الحكم لابد منه إذ لابد للناصر من القدرة على نصر المظلوم ومن العلم بأنه كذلك، وعلى الثاني هو تتميم وتأكيد والأول أولى، وقيل: لا يبعد أن يكون المعنى ذلك النصر بسبب تعاقب الليل والنهار وتناوب الأزمان والأدوار إلى أن يجيء الوقت الذي قدوه الملك الجبار لانتصار المظلوم وغلبته، وفيه أنه لا محصل له ما لم يلاحظ قدرة الفاعل لذلك، وقيل: يجوز أن تكون الإشارة إلى الاتصاف بالعفو والغفران أي ذلك الاتصاف بسبب أنه تعالى لم يؤاخذ الناس بذنوبهم فيجعل الليل والنهار سرمدًا فتتعطل المصالح، وفيه أنه مع كون لا يناسب السياق غير ظاهر لاسيما إذا لوحظ عطف قوله تعالى: {وَأَنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ} على مدخول الباء فيما قبل، نعم الإشارة إلى الاتصاف {ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق} فالمعنى ذلك الاتصاف بكمال القدرة الدال عليه قوله تعالى: {يُولِجُ الليل في النهار} [الحج: 61] الخ وكمال العلم الدال عليه {سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 61] بسبب أن الله تعالى الواجب لذاته الثابت في نفسه وحده فإن وجوب وجوده ووحدته يستلزمان أن يكون سبحانه هو الموجد لسائر المصنوعان ولابد في إيجاده لذلك حيث كان على أبدع وجه وأحكمه من كمال العلم على ما بين في موضعه، وقيل: إن وجوب الوجود وحده متكفل بكل كمال حتى الوحدة أو المعنى ذلك الاتصاف بسبب أن الله تعالى الثابت الإلهية وحده ولا يصح لها إلا من كان كامل القدرة كامل العلم {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ} إلهًا {هُوَ الباطل} أي المعدوم في حد ذاته أو الباطل الإلهية، والحصر يحتمل أن يكون غير مراد وإنما جيء به للمشاكلة ويحتمل أن يكون مرادًا على معنى أن جميع ما يدعون من دونه هو الباطل لا بعضه دون بعض.
وقيل هو باعتبار كمال بطلانه وزيادة هو هنا دون ما في سورة لقمان من نظير هذه الآية لأن ما هنا وقع بين عشر آيات كل آية مؤكدة مرة أو مرتين ولهذا أيضًا زيدت اللام في قوله تعالى الآتي {وَإِنَّ الله لَهُوَ الغنى الحميد} [الحج: 64] دون نظيره في تلك السورة، ويمكن أن يقال تقدم في هذه السورة ذكر الشيطان فلهذا ذكرت هذه المؤكدات بخلاف سورة لقمان فإنه لم يتقدم ذكر الشيطان هناك بنحو ما ذكر هاهنا قاله النيسابوري، ويجوز أن يكون زيادة {هُوَ} في هذا الموضع لأن المعلل فيه أزيد من في ذلك الموضع فتأمل {وَأَنَّ الله هُوَ العلى} على جميع الأشياء {الكبير} عن أن يكون له سبحانه شريك لا شيء أعلى منه تعالى شأنًا وأكبر سلطانًا.
وقرأ الحسن {وَإِن مَا} بكسر الهمزة، وقرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر، وأبو بكر {تَدْعُونَ} بالتاء على خطاب المشركين، وقرأ مجاهد، واليماني، وموسى الإسواري {يَدَّعُونَ} بالياء التحتية مبنية للمفعول على أن الواو لما فإنه عبارة عن الآلهة، وأمر التعبير عنها بما ثم إرجاع ضمير العقلاء إليها ظاهر فلا تغفل. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ}.
اسم الإشارة للفصل بين الكلامين لفتًا لأذهان السامعين إلى ما سيجيء من الكلام لأنّ ما بعده غير صالح لأن يكون خبرًا عن اسم الإشارة.
وقد تقدم نظيره عند قوله: {ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه} [الحج: 30].
وجملة {ومن عاقب} الخ، معطوفة على جملة {والذين هاجروا في سبيل الله} [الحج: 58] الآية.
والغرض منها التهيئة للجهاد والوعد بالنصر الذي أشير إليه سابقًا بقوله تعالى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير} إلى قوله: {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز} [الحج: 3940]، فإنه قد جاء معترضًا في خلال النّعي على تكذيب المكذبين وكفرِهم النعمَ، فأكمل الغرض الأول بما فيه من انتقالات، ثمّ عطف الكلام إلى الغرض الذي جرت منه لمحة فعاد الكلام هنا إلى الوعد بنصر الله القوم المعتدى عليهم كما وعدهم بأن يدخلهم في الآخرة مدخلًا يرضونه.
وجيء بإشارة الفصل للتنبيه على أهمية ما بعده.
وما صْدَقُ مَن الموصولة العموم لقوله فيما سلف {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا} [الحج: 39]، فنبه على أن القتال المأذون فيه هو قتال جَزاء على اعتداء سابق كما دلّ عليه أيضًا قوله: {بأنهم ظلموا} [الحج: 39].
وتغيير أسلوب الجمع الذي في قوله: {أذن للذين يقاتلون} [الحج: 39] إلى أسلوب الإفراد في قوله: {ومن عاقب} للإشارة إلى أرادة العموم من هذا الكلام ليكون بمنزلة القاعدة الكلية لسنّة من سنن الله تعالى في الأمم.
ولما أتي في الصلة هنا بفعل {عاقَب} مع قصد شمول عموم الصلة للذين أُذِن لهم بأنهم ظُلموا عَلم السامع أنّ القتال المأذون لهم به قتال جزاء على ظلم سابق.
وفي ذلك تحديد لقانون العقاب أن يكون مماثلًا للعدوان المجزى عليه، أي أن لا يكون أشدّ منه.
وسُميّ اعتداء المشركين على المؤمنين عقابًا في قوله: {بمثل ما عوقب به} لأن الذي دفع المعتدين إلى الاعتداء قصد العقاب على خروجهم عن دين الشرك ونبذ عبادة أصنامهم.
ويعلم أنّ ذلك العقاب ظلم بقوله فيما مضى: {الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله} [الحج: 40].
ومعنى {بمثل ما عوقب به} المماثلةُ في الجنس فإن المشركين آذوا المسلمين وأرْغموهم على مغادرة موطنهم فيكون عقابهم على ذلك بإخراج من يمكنهم أن يخرجوه من ذلك الوطن.
ولا يستطيعون ذلك إلا بالجهاد لأنّ المشركين كانوا أهل كثرة وكانوا مستعصمين ببلدهم فإلجاء من يمكن إلجاؤه إلى مفارقة وطنه، إما بالقتال فهو إخراج كامل، أو بالأسر.
و{ثمّ} من قوله: {ثم بغي عليه} عطف على جملة {ومن عاقب بمثل ما عوقب به}، فـ: ثم للتراخي الرتبي فإن البغي عليه أهم من كونه عاقب بمثل ما عوقب به إذ كان مبدوءًا بالظلم كما يقال البادىء أظلم. فكان المشركون محقوقين بأن يعاقبوا لأنهم بغوا على المسلمين.
ومعنى الآية في معني قوله: {ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدأوكم أول مرة} [التوبة: 13].
وكان هذا شرعًا لأصول الدفاع عن البيضة، وأما آيات الترغيب في العفو فليس هذا مقام تنزيلها وإنما هي في شرع معاملات الأمة بعضها مع بعض، وقد أكد لهم الله نصره إن هم امتثلوا لما أذنوا به وعاقبوا بمثل ما عُوقبوا به، وللمفسرين في تقرير هذه الآية تكلفات تنبىء عن حَيرة في تلئيم معانيها.