فصل: من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}.
ذَكَرَ الْجَلَالُ أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى نَزَلَتْ فِيمَنْ حَرَّمَ السَّوَائِبَ وَنَحْوَهَا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ، وَقَدْ كَانَ هَذَا فِي طَوَائِفَ مِنَ الْعَرَبِ كَمُدْلِجٍ وَبَنِي صَعْصَعَةَ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَوْ صَحَّ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ لَمَا كَانَ مُقْتَضِيًا فَصْلَ الْآيَةِ مِمَّا قَبْلَهَا وَجَعْلَهَا كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّ الْكَلَامَ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ أَتَمَّ الِاتِّصَالِ. فَإِنَّ الْآيَاتِ الْأُولَى بَيَّنَتْ حَالَ مُتَّخِذِي الْأَنْدَادِ وَمَا سَيُلَاقُونَ مِنْ عَذَابِ اللهِ تَعَالَى، وَقَدْ قُلْنَا فِي تَفْسِيرِهَا: إِنَّ الْأَنْدَادَ قِسْمَانِ: قِسْمٌ يُتَّخَذُ شَارِعًا يُؤْخَذُ بِرَأْيِهِ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ بَلَاغًا عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ، بَلْ يُجْعَلُ قَوْلُهُ وَفِعْلُهُ حُجَّةً بِذَاتِهِ لَا يُسْأَلُ مِنْ أَيْنَ أَخَذَهُ وَهَلْ هُوَ فِيهِ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِ أَمْ لَا، وَقِسْمٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَيُدْعَى فِي دَفْعِ الْمَضَارِّ وَجَلْبِ الْمَنَافِعِ مِنْ طَرِيقِ السُّلْطَةِ الْغَيْبِيَّةِ لَا مِنْ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ، حَتَّى إِنَّهُمْ لَيَعْتَمِدُونَ عَلَى إِغَاثَةِ هَؤُلَاءِ الْأَنْدَادِ لِلنَّاسِ بَعْدَ مَوْتِهِمْ وَخُرُوجِهِمْ مِنْ عَالَمِ الْأَسْبَابِ، ثُمَّ بَيَّنَتْ أَنَّ النَّاسَ يَتَّبِعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي ذَلِكَ، وَأَنْ سَيَتَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا عِنْدَ رُؤْيَةِ الْعَذَابِ وَتَقَطُّعِ الْأَسْبَابِ بَيْنَهُمْ، وَقُلْنَا فِي تَفْسِيرِهَا: إِنَّ الْأَسْبَابَ هِيَ الْمَنَافِعُ الَّتِي يَجْنِيهَا الرُّؤَسَاءُ مِنَ الْمَرْءُوسِينَ وَالْمَصَالِحُ الدُّنْيَوِيَّةُ الَّتِي تَصِلُ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ. وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ يُبَيِّنُ تَعَالَى أَنَّ تِلْكَ الْأَسْبَابَ مُحَرَّمَةٌ؛ لِأَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى أَكْلِ الْخَبَائِثِ وَاتِّبَاعِ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَنَهَى عَنْهَا، وَبَيَّنَ سَبَبَ جُمُودِهِمْ عَلَى الْبَاطِلِ وَالضَّلَالِ وَهُوَ الثِّقَةُ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْآبَاءُ مِنْ غَيْرِ عَقْلٍ وَلَا هُدًى. فَالْكَلَامُ مُتَمِّمٌ لِمَا قَبْلَهُ قَطْعًا.
قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} الْحَلَالُ: هُوَ غَيْرُ الْحَرَامِ الَّذِي نُصَّ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} [6: 145] فَمَا عَدَا هَذَا فَكُلُّهُ مُبَاحٌ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ طَيِّبًا؛ أَيْ غَيْرَ خَبِيثٍ. وَفَسَّرَ الْجَلَالُ الطَّيِّبَ بِالْحَلَالِ- عَلَى أَنَّهُ تَأْكِيدٌ- أَوْ بِالْمُسْتَلَذِّ، وَالْأَوَّلُ لَا مَحَلَّ لَهُ وَالتَّأْسِيسُ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّأْكِيدِ، وَالثَّانِي لَا يُظْهِرُ تَقْيِيدَ الْإِبَاحَةِ الْعَامَّةِ لِمَا فِي الْأَرْضِ بِهِ، وَرَجَّحَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَنَّ الطَّيِّبَ مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ وَهُوَ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِحَصْرِ الْمُحَرَّمِ فِيمَا ذُكِرَ الْمُحَرَّمُ لِذَاتِهِ الَّذِي لَا يَحِلُّ إِلَّا لِلْمُضْطَرِّ، وَبَقِيَ الْمُحَرَّمُ لِعَارِضٍ فَتَعَيَّنَ بَيَانُهُ وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ وَيُؤْخَذُ بِغَيْرِ وَجْهٍ صَحِيحٍ، كَمَا يَكُونُ فِي أَكْلِ الرُّؤَسَاءِ مِنَ الْمَرْءُوسِينَ بِلَا مُقَابِلٍ إِلَّا أَنَّهُمْ رُؤَسَاؤُهُمُ الْمُسَيْطِرُونَ عَلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ أَكْلِ الْمَرْءُوسِينَ بِجَاهِ الرُّؤَسَاءِ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَمُدُّ الْآخَرَ لِيَسْتَمِدَّ مِنْهُ فِي غَيْرِ الْوُجُوهِ الْمَشْرُوعَةِ الَّتِي يَتَسَاوَى فِيهَا جَمِيعُ النَّاسِ، وَيَخْرُجُ بِذَلِكَ الرِّبَا وَالرَّشْوَةُ وَالسُّحْتُ وَالْغَصْبُ وَالْغِشُّ وَالسَّرِقَةُ فَكُلُ ذَلِكَ خَبِيثٌ، وَكَذَا مَا عَرَضَ لَهُ الْخُبْثُ بِتَغَيُّرِهِ كَالطَّعَامِ الْمُنْتِنِ، وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ يَتَحَرَّرُ مَا أَبَاحَهُ الدِّينُ وَتَلْتَئِمُ الْآيَةُ مَعَ مَا قَبْلَهَا، وَأَتْبَعَ الْأَمْرَ النَّهْيَ فَقَالَ: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} قَرَأَ الْأَئِمَّةُ {خُطُوَاتِ} بِضَمَّتَيْنِ: جَمْعُ خُطْوَةٍ بِالضَّمِّ وَهِيَ مَا بَيْنَ الْقَدَمَيْنِ- وَبِفَتْحَتَيْنِ جَمْعُ خُطْوَةٍ وَهِيَ الْمَرَّةُ مِنْ خَطَا يَخْطُو فِي مَشْيِهِ، وَالْمَعْنَى لَا تَتَّبِعُوا سِيرَتَهُ فِي الْإِغْوَاءِ، وَوَسْوَسَتَهُ فِي الْأَمْرِ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ، وَهُوَ مَا يُبَيِّنُهُ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ، وَعَلَّلَ النَّهْيَ بِكَوْنِهِ عَدُوًّا لِلنَّاسِ بَيِّنُ الْعَدَاوَةِ. وَالْعِلْمُ بِعَدَاوَتِهِ لَنَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ ذَاتِهِ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ الشَّيْطَانُ بِهَذَا الْأَثَرِ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَيْهِ وَهُوَ وَحْيُ الشَّرِّ وَخَوَاطِرُ الْبَاطِلِ وَالسُّوءِ فِي النَّفْسِ، فَهُوَ مَنْشَأُ هَذَا الْوَحْيِ وَالْخَوَاطِرِ الرَّدِيئَةِ، قَالَ تَعَالَى: {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [6: 112] وَلَا أَبْيَنَ وَأَظْهَرَ مِنْ عَدَاوَةِ دَاعِيَةِ الشَّرِّ وَالضَّلَالِ، فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى خَوَاطِرِهِ وَيَضَعَ لَهَا مِيزَانًا، فَإِذَا مَالَتْ نَفْسُهُ إِلَى بَذْلِ الْمَالِ لِمَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ، أَوْ عَرَضَ لَهُ سَبَبُ مُعَاوَنَةِ عَامِلٍ عَلَى خَيْرٍ، أَوْ صَدَقَةٍ عَلَى بَائِسٍ فَقِيرٍ، فَعَارَضَهُ خَاطِرُ التَّوْفِيرِ وَالِاقْتِصَادِ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنْ وَحْيِ الشَّيْطَانِ، وَلَا يَنْخَدِعْ لِمَا يُسَوِّلُهُ لَهُ مِنْ إِرْجَاءِ هَذَا الْعَطَاءِ لِأَجْلِ وَضْعِهِ فِي مَوْضِعٍ أَنْفَعَ، أَوْ بَذْلِهِ لِفَقِيرٍ أَحْوَجَ، وَإِذَا هَمَّ بِدِفَاعٍ عَنْ حَقٍّ أَوْ أَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ فَخَطَرَ لَهُ مَا يُثَبِّطُ عَزْمَهُ أَوْ يُمْسِكُ لِسَانَهُ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنْ وَسْوَاسِ الشَّيْطَانِ.
وَأَظْهَرُ وَحْيِ الشَّيَاطِينِ مَا يُجَرِّئُ عَلَى التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ لِأَجْلِ الْمَنَافِعِ الَّتِي تَلْبَسُ عَلَى الْمُتَجَرِّئِ عَلَيْهَا بِالْمَصْلَحَةِ وَسِيَاسَةِ النَّاسِ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَتَّبِعُوا وَحْيَ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ وَخَوَاطِرَهَمَا تُلِمُّ بِكُمْ وَتَطُوفُ بِنُفُوسِكُمْ، فَإِنَّهُمَا مِنْ إِغْوَاءِ الشَّيْطَانِ عَدُوِّكُمْ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ بِمَا يُفِيدُ إِثْبَاتَ الْعَدَاوَةِ مِنْ تَعْلِيلِ النَّهْيِ فَقَالَ: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ} دُونَ غَيْرِهِمَا مِنَ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ، فَأَمَّا السُّوءُ فَهُوَ كُلُّ مَا يَسُوءُكَ وُقُوعُهُ أَوْ عَاقِبَتُهُ، فَمِنَ الشُّرُورِ مَا يَقْدُمُ عَلَيْهِ الْمَرْءُ مُنْدَفِعًا بِتَزْيِينِ الشَّيْطَانِ لَهُ، حَتَّى إِذَا فَعَلَ الشَّرَّ فَاجَأَهُ السُّوءُ وَعَاجَلَهُ الضَّرَرُ، وَمِنَ الْأَعْمَالِ مَا لَا يَظْهَرُ السُّوءُ فِي بِدَايَتِهِ، وَلَكِنَّهُ يَتَّصِلُ بِنِهَايَتِهِ، كَمَنْ يَصُدُّهُ عَنْ طَلَبِ الْعِلْمِ أَنَّ بَعْضَ الْمُتَعَلِّمِينَ أَضَاعَ وَقْتَهُ وَبَذَلَ كَثِيرًا مِنْ مَالِهِ ثُمَّ لَمْ يَسْتَفِدْ مِنَ التَّعْلِيمِ شَيْئًا، فَهَذَا قِيَاسٌ شَيْطَانِيٌّ يَصْرِفُ بَعْضَ النَّاسِ عَنْ طَلَبِ الْعِلْمِ بِأَنْفُسِهِمْ، وَبَعْضَ الْآبَاءِ عَنْ تَعْلِيمِ أَوْلَادِهِمْ، فَتَكُونُ عَاقِبَتُهُمُ السَّوْءَى ذَاتِ نَاحِيَتَيْنِ: سَلْبِيَّةٌ وَهِيَ الْحِرْمَانُ مِنْ فَوَائِدِ الْعِلْمِ، وَإِيجَابِيَّةٌ وَهِيَ مَصَائِبُ الْجَهْلِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا دِينِيٌّ وَدُنْيَوِيٌّ، فَلابد مِنَ الْبَصِيرَةِ وَالتَّأَمُّلِ فِي تَمْيِيزِ بَعْضِ الْخَوَاطِرِ مِنْ بَعْضٍ، فَإِنَّ الشَّيْطَانِيَّةَ مِنْهَا رُبَّمَا لَا تَظْهَرُ بَادِيَ الرَّأْيِ، وَأَمَّا الْفَحْشَاءُ فَكُلُّ مَا يَفْحُشُ قُبْحُهُ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْآثَامِ، وَلَا يَخْتَصُّ بِنَحْوِ الزِّنَا كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: وَالْفَحْشَاءُ فِي الْغَالِبِ أَقْبَحُ وَأَشَدُّ مِنَ السُّوءِ، وَأَسْوَأُ السُّوءِ- مَبْدَأً وَعَاقِبَةً- تَرْكُ الْأَسْبَابِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي قَضَتْ حِكْمَةُ الْبَارِي بِرَبْطِ الْمُسَبَّبَاتِ بِهَا اعْتِمَادًا عَلَى أَشْخَاصٍ مِنَ الْمَوْتَى أَوِ الْأَحْيَاءِ يَظُنُّ بَلْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ لَهُمْ نَصِيبًا مِنَ السُّلْطَةِ الْغَيْبِيَّةِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْأَكْوَانِ بِدُونِ اتِّخَاذِ الْأَسْبَابِ، وَمِثْلُهُ اتِّخَاذُ رُؤَسَاءَ فِي الدِّينِ يُؤْخَذُ بِقَوْلِهِمْ وَيُعْتَمَدُ عَلَى فِعْلِهِمْ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا وَتَبْلِيغًا لِمَا جَاءَ عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ، فَإِنَّ فِي هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِنَ السُّوءِ إِهْمَالًا لِنِعْمَةِ الْعَقْلِ وَكُفْرًا بِالْمُنْعِمِ بِهَا، وَإِعْرَاضًا عَنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى وَجَهْلًا بِاطِّرَادِهَا، وَصَاحِبُهُ كَمَنْ يَطْلُبُ مِنَ السَّرَابِ الْمَاءَ، أَوْ يَنْعَقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ غَيْرَ الدُّعَاءِ وَالنِّدَاءِ، وَهَذَا شَأْنُ مُتَّخِذِي الْأَنْدَادِ {وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [13: 33] وَأَمَّا الرُّؤَسَاءُ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَامَّةَ عَلَى هَذَا التَّقْلِيدِ فِي الْأَمْرَيْنِ فَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى اتِّبَاعَهُمْ لِوَحْيِ الشَّيْطَانِ بِقَوْلِهِ: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} أَيْ: وَيَأْمُرُكُمْ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ فِي دِينِهِ الَّذِي دَانَ بِهِ عِبَادَهُ مَا لَا تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّ اللهَ شَرَعَهُ لَهُمْ مِنْ عَقَائِدَ وَأَوْرَادَ وَأَعْمَالٍ تَعَبُّدِيَّةٍ وَشَعَائِرَ دِينِيَّةٍ، أَوْ تَحْلِيلِ مَا الْأَصْلُ فِيهِ التَّحْرِيمُ، وَتَحْرِيمِ مَا الْأَصْلُ فِيهِ الْإِبَاحَةُ، وَلَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ مِنْ قِيَاسٍ وَاسْتِحْسَانٍ؛ لِأَنَّهُمَا ظَنٌّ لَا عِلْمٌ، فَالْقَوْلُ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ اعْتِدَاءٌ عَلَى حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ بِالتَّشْرِيعِ، وَهُوَ شِرْكٌ صَرِيحٌ، وَهَذَا أَقْبَحُ مَا يَأْمُرُ بِهِ الشَّيْطَانُ، فَإِنَّهُ الْأَصْلُ فِي إِفْسَادِ الْعَقَائِدِ وَتَحْرِيفِ الشَّرَائِعِ، وَاسْتِبْدَالِ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ.
أَلَيْسَ مِنَ الْقَوْلِ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ زَعْمُ هَؤُلَاءِ الرُّؤَسَاءِ أَنَّ لِلَّهِ وُسَطَاءَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ لَا يَفْعَلُ سُبْحَانَهُ شَيْئًا بِدُونِ وَسَاطَتِهِمْ، فَحَوَّلُوا بِذَلِكَ قُلُوبَ عِبَادِهِ عَنْهُ وَعَنْ سُنَّتِهِ فِي خَلْقِهِ، وَوَجَّهُوهَا إِلَى قُبُورٍ لَا تُعَدُ وَلَا تُحْصَى، وَإِلَى عَبِيدٍ ضُعَفَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا؟ وَقَدْ يُسَمُّونَ هَذَا تَوَسُّلًا إِلَيْهِ؛ أَيْ: يَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِ بِالشِّرْكِ بِهِ، وَدُعَاءِ غَيْرِهِ مِنْ دُونِهِ أَوْ مَعَهُ. وَهُوَ يَقُولُ: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا} [72: 18] وَيَقُولُ: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} [6: 41] أَيْ: دُونَ غَيْرِهِ.
أَلَيْسَ مِنَ الْقَوْلِ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ مَا اخْتَلَقُوهُ مِنَ الْحِيَلِ لِهَدْمِ رُكْنِ الزَّكَاةِ وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ؟
أَلَيْسَ مِنَ الْقَوْلِ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ مَا زَادُوهُ فِي الْعِبَادَةِ وَأَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ عَمَّا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُبَيِّنَةِ لَهُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عَنِ اللهِ تَعَالَى: {وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا}؟
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا: كُلُّ مَنْ يَزِيدُ فِي الدِّينِ عَقِيدَةً أَوْ حُكْمًا مِنْ غَيْرِ اسْتِنَادٍ إِلَى كِتَابِ اللهِ أَوْ كَلَامِ الْمَعْصُومِ فَهُوَ مِنَ الَّذِينَ يَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا يَعْلَمُونَ. وَمَثَّلَ لِذَلِكَ بِالزَّائِرَاتِ لِلْقُبُورِ وَمَا يَأْتِينَهُ هُنَاكَ مِنَ الْبِدَعِ وَالْمُنْكَرَاتِ بِاسْمِ الدِّينِ، وَبِتَشْيِيعِ الْجَنَائِزِ بِقِرَاءَةِ الْبُرْدَةِ وَنَحْوِهَا بِالنَّغْمَةِ الْمَعْرُوفَةِ. وَبِحَمْلِ الْمَبَاخِرِ الْفِضِّيَّةِ وَالْأَعْلَامِ أَمَامَهَا، وَبِالِاجْتِمَاعِ لِقِرَاءَةِ الدَّلَائِلِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْأَوْرَادِ بِالصِّيَاحِ الْخَاصِّ، وَقَالَ: إِنَّ كُلَّ هَذَا جَاءَ مِنِ اسْتِحْسَانِ مَا عِنْدَ الطَّوَائِفِ الْأُخَرِ. وَلَيْسَ فِي الْإِسْلَامِ صَيْحَةٌ غَيْرُ صَيْحَةِ الْأَذَانِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الصَّلَاةِ: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} [17: 110] وَأَمَّا التَّلْبِيَةُ فَلَمْ يُشْرَعْ فِيهَا رَفْعُ الصَّوْتِ وَالصِّيَاحُ الشَّدِيدَ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْعَجِيجُ مِنْ كَثْرَةِ النَّاسِ وَاخْتِلَافِ أَصْوَاتِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَرْفَعُوا عَقِيرَتَهُمْ جَهْدَ الْمُسْتَطَاعِ كَمَا يَفْعَلُ مُقَلِّدَةُ التَّصَوُّفِ. قَالَ: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْبِدَعِ فِي الْعَقَائِدِ وَالْأَحْكَامِ قَدْ دَخَلَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِتَسَاهُلِ رُؤَسَاءِ الدِّينِ وَتَوَهُّمِهِمْ أَنَّهَا تُقَوِّي أَصْلَ الْعَقِيدَةِ وَتُخْضِعُ الْعَامَّةَ لِسُلْطَانِ الدِّينِ، أَوْ لِسُلْطَانِهِمُ الْمُسْتَنِدِ إِلَى الدِّينِ. وَلَقَدْ دَخَلْتُ كَنِيسَةَ بَيْتِ لَحْمٍ فَسَمِعْتُ هُنَاكَ أَصْوَاتًا خُيِّلَ إِلَيَّ أَنَّهَا أَصْوَاتُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الطَّرِيقِ يَقْرَءُونَ حِزْبَ الْبِرِّ مَثَلًا ثُمَّ عَلِمْتُ أَنَّهُمْ قِسِّيسُونَ، فَهَذِهِ الْبِدَعُ قَدْ سَرَتْ إِلَيْنَا مِنْهُمْ كَمَا سَرَتْ إِلَيْهِمْ مِنَ الْوَثَنِيِّينَ؛ اسْتِحْسَانًا مِنْهُمْ مَا اسْتَحْسَنُوهُ مِنْ أُولَئِكَ تَوَهُّمًا أَنَّهُ يُفِيدُ الدِّينَ أُبَّهَةً وَفَخَامَةً وَيَزِيدُ النَّاسَ بِهِ اسْتِمْسَاكًا، فَكَانَ أَنْ تَرَكَ النَّاسُ مُهِمَّاتِ الدِّينِ اكْتِفَاءً بِهَذِهِ الْبِدَعِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الصَّائِحِينَ فِي الْأَضْرِحَةِ وَقِبَابِ الْأَوْلِيَاءِ وَفِي الطُّرُقِ وَالْأَسْوَاقِ بِالْأَوْرَادِ وَالْأَحْزَابِ لَا يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ، وَمَنْ عَسَاهُ يُصَلِّي مِنْهُمْ فَإِنَّهُ لَا يَحْرِصُ عَلَى الْجَمَاعَةِ بَعْضَ حِرْصِهِ عَلَى الِاجْتِمَاعِ لِلصِّيَاحِ بِقِرَاءَةِ الْحِزْبِ فِي لَيْلَةِ الْوَلِيِّ فُلَانٍ، وَلَقَدْ أَنِسَ النَّاسُ بِهَذِهِ الْبِدَعِ وَاسْتَوْحَشُوا مِنْ شَعَائِرِ الدِّينِ وَالسُّنَنِ حَتَّى ظَهَرَ فِيهِمْ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} أَيْ: وَإِذَا قِيلَ لِمُتَّبِعِي خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ عَلَمٍ وَلَا بُرْهَانٍ: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلُ إِلَيْكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ}، قَالُوا: لَا، نَحْنُ لَا نَعْرِفُ مَا أَنْزَلَ اللهُ، بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا؛ أَيْ: وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا، وَهُوَ مَا تَقَلَّدْنَاهُ مِنْ سَادَتِنَا وَكُبَرَائِنَا، وَشُيُوخِ عُلَمَائِنَا. لَمْ يُخَاطِبْ هَؤُلَاءِ بِبُطْلَانِ مَا هُمْ عَلَيْهِ وَتَشْنِيعِهِ خِطَابًا لَهُمْ بَلْ حَكَى عَنْهُمْ حِكَايَةً بَيَّنَ فَسَادَ مَذْهَبِهِمْ فِيهَا، كَأَنَّهُ أَنْزَلَهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ لَا يَفْهَمُ الْخِطَابَ وَلَا يَعْقِلُ الْحُجَجَ وَالدَّلَائِلَ، كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ بِالتَّمْثِيلِ الْآتِي. وَلَوْ كَانَ لِلْمُقَلِّدِينَ قُلُوبٌ يَفْقَهُونَ بِهَا لَكَانَتْ هَذِهِ الْحِكَايَةُ كَافِيَةً بِأُسْلُوبِهَا لِتَنْفِيرِهِمْ مِنَ التَّقْلِيدِ، فَإِنَّهُمْ فِي كُلِّ مِلَّةٍ وَجِيلٍ يَرْغَبُونَ عَنِ اتِّبَاعِ مَا أَنْزَلَ اللهُ اسْتِئْنَاسًا بِمَا أَلِفُوهُ مِمَّا أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ عَلَيْهِ، وَحَسْبُكَ بِهَذَا شَنَاعَةً؛ إِذِ الْعَاقِلُ لَا يُؤْثِرُ عَلَى مَا أَنْزَلُ اللهُ تَقْلِيدَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ وَإِنْ كَبُرَ عَقْلُهُ وَحَسُنَ سَيْرُهُ؛ إِذْ مَا مِنْ عَاقِلٍ إِلَّا وَهُوَ عُرْضَةٌ لِلْخَطَأِ فِي فِكْرِهِ، وَمَا مِنْ مُهْتَدٍ إِلَّا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَضِلَّ فِي بَعْضِ سَيْرِهِ، فَلَا ثِقَةَ فِي الدِّينِ إِلَّا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ، وَلَا مَعْصُومَ إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللهُ، فَكَيْفَ يَرْغَبُ الْعَاقِلُ عَمَّا أَنْزَلَ اللهُ إِلَى اتِّبَاعِ الْآبَاءِ مَعَ دَعْوَاهُ الْإِيمَانَ بِالتَّنْزِيلِ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا بِالْوَحْيِ لَوَجَبَ أَنْ يُنَفِّرَهُ عَنِ التَّقْلِيدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}؟! فَإِنَّ هَذَا حُجَّةٌ عَقْلِيَّةٌ لَا تُنْقَضُ.
أَقُولُ: الْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ، وَهِيَ دَاخِلَةٌ عَلَى فِعْلٍ حُذِفَ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنَ الْقَرِينَةِ، و{لَوْ} لِلْغَايَةِ لَا تَحْتَاجُ إِلَى جَوَابٍ وَجَزَاءٍ. وَالتَّقْدِيرُ أَيَتَّبِعُونَ مَا أَلْفَوْا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ فِي كُلِّ حَالٍ وَفِي كُلِّ شَيْءٍ، وَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا مِنْ عَقَائِدِ الدِّينِ إِذْ لَا يَسْلُكُونَ طَرِيقَ الْعَقْلِ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ حَقٌّ، وَلَا يَهْتَدُونَ فِي أَحْكَامِهِ وَأَعْمَالِهِ بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ جَاءَهُمْ بِهِ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ؟ أَيْ حَتَّى فِي تَجَرُّدِهِمْ مِنْ دَلِيلَيِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ، هَذَا مَا أَفْهَمُهُ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: أَيْ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ جَهَلَةً لَا يُفَكِّرُونَ فِي أَمْرِ الدِّينِ وَلَا يَهْتَدُونَ إِلَى الْحَقِّ لَاتَّبَعُوهُمْ. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ التَّقْلِيدِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَى النَّظَرِ أَوِ الِاجْتِهَادِ، أَمَّا اتِّبَاعُ الْغَيْرِ فِي الدِّينِ إِذَا عَلِمَ بِدَلِيلٍ مَا أَنَّهُ مُحِقٌّ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمُجْتَهِدِينَ فِي الْأَحْكَامِ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِتَقْلِيدٍ بَلِ اتِّبَاعٍ لِمَا أَنْزَلَ اللهُ. اهـ. وَنَقَلَهُ عَنْهُ الْأُلُوسِيُّ بِغَيْرِ عَزْوٍ وَوَصَلَهُ بِآيَةِ: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [16: 43] وَفِيهِ: أَنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ فِي التَّقْلِيدِ بَيْنَ الْقَطْعِيِّ الْمَعْلُومِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِيهِ أَلْبَتَّةَ بَلْ لَا مَحَلَّ لَهُ، وَبَيْنَ الْأُمُورِ الِاجْتِهَادِيَّةِ كَأَحْكَامِ الْقَضَاءِ وَسِيَاسَةِ الْأُمَّةِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقُدْرَةُ عَلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اتِّبَاعِ النَّبِيِّ الْمَعْصُومِ- فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنِ اللهِ تَعَالَى لِمَنْ قَامَتْ عِنْدَهُ الْحُجَّةُ عَلَى نُبُوَّتِهِ فَهُوَ لَا يَكُونُ إِلَّا مُحِقًّا- وَبَيْنَ الْمُجْتَهِدِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ مُحِقٌّ إِلَّا بِالْوُقُوفِ عَلَى دَلِيلِهِ وَفَهْمِهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} فِي طَلَبِ السُّؤَالِ عَنْ أَمْرٍ قَطْعِيٍّ مَعْلُومٍ بِالضَّرُورَةِ وَهُوَ كَوْنُ الرُّسُلِ رِجَالًا يُوحَى إِلَيْهِمْ لَا عَنْ رَأْيٍ اجْتِهَادِيٍّ.
وَقَالَ الْجَلَالُ وَغَيْرُهُ: لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الدِّينِ. وَتَعَقَّبَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِقَوْلِهِ:
عَقْلُ الشَّيْءِ: مَعْرِفَتُهُ بِدَلَائِلِهِ وَفَهْمُهُ بِأَسْبَابِهِ وَنَتَائِجِهِ، وَأَقْرَبُ النَّاسِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ الْبَاحِثُونَ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ فِي الدَّلَائِلِ بِقَصْدٍ صَحِيحٍ وَلَوْ فِي غَيْرِ الْحَقِّ؛ لِأَنَّ الْبَاحِثَ الْمُسْتَدِلَّ إِذَا أَخْطَأَ يَوْمًا فِي طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ أَوْ فِي مَوْضُوعِ الْبَحْثِ فَقَدْ يُصِيبُ فِي يَوْمٍ آخَرَ، لِأَنَّ عَقْلَهُ يَتَعَوَّدُ الْفِكْرَ الصَّحِيحَ، وَاسْتِفَادَةَ الْمَطَالِبِ مِنَ الدَّلَائِلِ، وَأَبْعَدُ النَّاسِ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ الْمُقَلِّدُونَ الَّذِينَ لَا يَبْحَثُونَ وَلَا يَسْتَدِلُّونَ، لِأَنَّهُمْ قَطَعُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ طَرِيقَ الْعِلْمِ وَسَجَّلُوا عَلَى عُقُولِهِمُ الْحِرْمَانَ مِنَ الْفَهْمِ، فَهُمْ لَا يُوصَفُونَ بِإِصَابَةٍ؛ لِأَنَّ الْمُصِيبَ هُوَ مَنْ يَعْرِفُ أَنَّ هَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَالْمُقَلِّدُ إِنَّمَا يَعْرِفُ أَنَّ فُلَانًا يَقُولُ إِنْ هَذَا هُوَ الْحَقُّ فَهُوَ عَارِفٌ بِالْقَوْلِ فَقَطْ؛ وَلِذَلِكَ ضَرَبَ لَهُمُ الْمَثَلَ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ بَعْدَمَا سَجَّلَ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةَ بِعَدَمِ اسْتِعْمَالِ عُقُولِهِمْ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا تَمْنَعُ اتِّبَاعَ غَيْرِ مَنْ يَعْقِلُ الْحَقَّ وَيَهْتَدِي إِلَى حُسْنِ الْعَمَلِ وَالصَّوَابِ فِي الْحُكْمِ، وَلَكِنَّهَا لَا تَمْنَعُ مِنْ تَقْلِيدِ الْعَاقِلِ الْمُهْتَدِي.
نَقُولُ: وَمِنْ أَيْنَ يَعْرِفُ الْمُقَلِّدُ أَنَّ مَتْبُوعَهُ يَعْقِلُ وَيَهْتَدِي إِذَا هُوَ لَمْ يَقِفْ عَلَى دَلِيلِهِ؟ فَإِنْ هُوَ اتَّبَعَهُ فِي طَرِيقَةِ الِاسْتِدْلَالِ حَتَّى وَصَلَ إِلَى مَا وَصَلَ عَلَى بَصِيرَةٍ فَإِنَّ الْآيَةَ لَا تَنْعِي عَلَيْهِ هَذَا، إِذْ هُوَ اسْتِفَادَةٌ لِلْعِلْمِ مَحْمُودَةٌ لَا تَقْلِيدَ فِي الْمَعْلُومِ أَوِ الْمَظْنُونِ لِغَيْرِهِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: رَأَيْتُ لِبَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ أَنَّ شَخْصًا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ وَسَمِعَ قَوْلَهُ وَاقْتَدَى بِهِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي نُبُوَّتِهِ يُؤَدِّي إِلَى الْوُصُولِ إِلَى اعْتِقَادِ صِحَّتِهَا بِالدَّلِيلِ لَعُدَّ مُقَلِّدًا، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى بَصِيرَةٍ كَمَا أَمَرَ اللهُ الْمُؤْمِنَ أَنْ يَكُونَ وَأَقُولُ إِنَّ هَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [12: 108] وَقَدْ فَسَّرُوا الْبَصِيرَةَ بِالْحُجَّةِ الْوَاضِحَةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ بِنُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّظَرُ الِاسْتِدْلَالِيُّ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ؛ بَلْ يَكْفِي فِيهَا اطْمِئْنَانُ النَّفْسِ لِصِدْقِهِ بِمَعْرِفَةِ حَالِهِ وَحُسْنِ مَا دَعَا إِلَيْهِ، وَلَكِنَّ مَرْتَبَةَ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ وَإِثْبَاتِ دِينِهِ بِالْحُجَّةِ لَا يَرْتَقِي إِلَيْهَا كُلُّ مُؤْمِنٍ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
هَذَا وَإِنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا} بَحْثًا، فَقَدْ يُشْكِلُ هَذَا الْعُمُومُ فِيهِ عَلَى بَعْضِ الْأَفْهَامِ، وَقَدْ بَيَّنَ لَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ لَا يَسْتَعْمِلُونَ عُقُولَهُمْ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَجِبُ الْعِلْمُ بِهِ، بَلْ يَكْتَفُونَ فِيهِ كُلِّهِ بِالتَّسْلِيمِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلَا بَحْثٍ وَهُوَ مَا مَرَّ.
وَثَانِيهَا: أَنَّهُ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْبُلَغَاءِ فِي الْمُبَالَغَةِ بِجَعْلِ الْغَالِبِ أَمْرًا كُلِّيًّا عَامًّا. يَقُولُونَ فِي الضَّالِّ فِي عَامَّةِ شُئُونِهِ: إِنَّهُ لَا يَعْقِلُ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدِي إِلَى الصَّوَابِ. وَيَقُولُونَ فِي الْبَلِيدِ إِنَّهُ لَا يَفْهَمُ شَيْئًا، وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنْ يَعْقِلَ الْأَوَّلُ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ وَيَفْهَمَ الثَّانِي بَعْضَ الْمَسَائِلِ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَيْسَ الْغَرَضُ مِنَ الْعِبَارَةِ نَفْيَ الْعَقْلِ عَنْ آبَائِهِمْ بِالْفِعْلِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مِنْهَا: أَيَتَّبِعُونَ آبَاءَهُمْ لِذَوَاتِهِمْ كَيْفَمَا كَانَ حَالُهُمْ حَتَّى لَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ وَلَا يَهْتَدُونَ؟ كَأَنَّهُ يَقُولُ إِنَّ اتِّبَاعَ الشَّخْصِ لِذَاتِهِ مُنْكَرٌ لَا يَنْبَغِي، وَهَذَا قَوْلٌ مَأْلُوفٌ، فَمَنْ يَقُولُ: أَنَا أَتَّبِعُ فُلَانًا فِي كُلِّ مَا يَعْمَلُ، يُقَالُ لَهُ: أَتَتَّبِعُهُ وَلَوْ كَانَ لَا يَعْمَلُ خَيْرًا؟ أَيْ: أَنَّ مِنْ شَأْنِ مَنْ يَتَّبِعُ آخَرَ لِذَاتِهِ لَا لِكَوْنِهِ مُحَسِنًا وَمُصِيبًا أَنْ يَتَّبِعَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَإِنْ كَانَ كُلُّ عَمَلِهِ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ إِلَّا مَنْ يَنْظُرُ وَيُمَيِّزُ، وَهَذَا لَا يَتَّبِعُ أَحَدًا لِذَاتِهِ كَيْفَمَا كَانَ حَالُهُ.
{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}.
بَعْدَمَا بَيَّنَ تَعَالَى فَسَادَ مَا عَلَيْهِ الْمُقَلِّدُونَ مِنِ اتِّبَاعِ مَا وَجَدُوا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلَا اسْتِدْلَالٍ، وَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا زِيَادَةً فِي تَقْبِيحِ شَأْنِهِمْ، وَالزِّرَايَةِ عَلَيْهِمْ، بِقَوْلِهِ: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أَيْ: صِفَتُهُمْ فِي تَقْلِيدِهِمْ لِآبَائِهِمْ وَرُؤَسَائِهِمْ {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} أَيْ: كَصِفَةِ الرَّاعِي لِلْبَهَائِمِ السَّائِمَةِ يَنْعِقُ وَيَصِيحُ بِهَا فِي سَوْقِهَا إِلَى الْمَرْعَى وَدَعْوَتِهَا إِلَى الْمَاءِ وَزَجْرِهَا عَنِ الْحِمَى فَتُجِيبُ دَعْوَتَهُ وَتَنْزَجِرُ بِزَجْرِهِ بِمَا أَلِفَتْ مِنْ نُعَاقِهِ بِالتَّكْرَارِ، شَبَّهَ حَالَهُمْ بِحَالِ الْغَنَمِ مَعَ الرَّاعِي يَدْعُوهَا فَتُقْبِلُ، وَيَزْجُرُهَا فَتَنْزَجِرُ، وَهِيَ لَا تَعْقِلُ مِمَّا يَقُولُ شَيْئًا وَلَا تَفْهَمُ لَهُ مَعْنًى، وَإِنَّمَا تَسْمَعُ أَصْوَاتًا تُقْبِلُ لِبَعْضِهَا وَتُدْبِرُ لِلْآخَرِ بِالتَّعْوِيدِ، وَلَا تَعْقِلُ سَبَبًا لِلْإِقْبَالِ وَلَا لِلْإِدْبَارِ، وَمَعْنَى الْمَثَلِ هُنَا- كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ- أَنَّ صِفَةَ الْكُفَّارِ وَشَأْنَهُمْ كَشَأْنِ النَّاعِقِ بِالْغَنَمِ، وَلَا يَقْتَضِي هَذَا أَنْ يَكُونَ كُلُّ جُزْءٍ مِنَ الْمُشَبَّهِ كَمُقَابِلِهِ مِنَ الْمُشَبَّهِ بِهِ، وَهُوَ مَا سَمَّاهُ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ بَعْدَ سِيبَوَيْهِ بِالتَّمْثِيلِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَشْبِيهِ مُتَعَدِّدٍ بِمُتَعَدِّدٍ، وَالْكُفْرُ جُحُودُ الْحَقِّ وَالْإِعْرَاضُ عَنِ النَّظَرِ فِي الدَّلِيلِ عَلَيْهِ عِنْدَ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الضَّلَالِ، فَإِنَّ الضَّالَّ مَنْ أَخْطَأَ طَرِيقَ الْحَقِّ مَعَ طَلَبِهِ أَوْ جَهْلِهِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ بِنَفْسِهِ وَلَا بِدَلَالَةِ غَيْرِهِ. وَأَمَّا الْكَافِرُ فَهُوَ يَرَى الْحَقَّ وَيُعْرِضُ عَنْهُ، وَيَصْرِفُ نَفْسَهُ عَنْ دَلَائِلِهِ وَآيَاتِهِ فَلَا يَنْظُرُ فِيهَا، فَهُوَ كَالْحَيَوَانِ يَرْضَى بِأَلَّا يَكُونَ لَهُ فَهْمٌ وَلَا عِلْمٌ، بَلْ يَقُودُهُ غَيْرُهُ وَيَصْرِفُهُ كَيْفَ شَاءَ، فَهُوَ مَعَ مَنْ قَلَّدَهُمْ مِنَ الرُّؤَسَاءِ كَالْغَنَمِ مَعَ الرَّاعِي تُقْبِلُ بِدُعَائِهِ وَتَنْزَجِرُ بِنِدَائِهِ، مُسَخَّرَةً لِإِرَادَتِهِ وَقَضَائِهِ، وَلَا تَفْهَمُ لِمَاذَا دَعَا وَلِمَاذَا زَجَرَ؟ فَدَعْوَتُهَا إِلَى الرَّعْيِ وَإِلَى الذَّبْحِ سَوَاءٌ. وَكَذَلِكَ شَأْنُ كُلِّ مَنْ يُسَلِّمُ اعْتِقَادًا بِلَا دَلِيلٍ، وَيَقْبَلُ تَكْلِيفًا بِغَيْرِ فِقْهٍ وَلَا تَعْلِيلٍ.
وَالْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ التَّقْلِيدَ بِغَيْرِ عَقْلٍ وَلَا هِدَايَةٍ هُوَ شَأْنُ الْكَافِرِينَ، وَأَنَّ الْمَرْءَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا إِلَّا إِذَا عَقَلَ دِينَهُ وَعَرِفَهُ بِنَفْسِهِ حَتَّى اقْتَنَعَ بِهِ. فَمَنْ رُبِّيَ عَلَى التَّسْلِيمِ بِغَيْرِ عَقْلٍ، وَالْعَمَلِ- وَلَوْ صَالِحًا- بِغَيْرِ فِقْهٍ، فَهُوَ غَيْرُ مُؤْمِنٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ الْقَصْدُ مِنَ الْإِيمَانِ أَنْ يُذَلَّلَ الْإِنْسَانُ لِلْخَيْرِ كَمَا يُذَلَّلُ الْحَيَوَانُ، بَلِ الْقَصْدُ مِنْهُ أَنْ يَرْتَقِيَ عَقْلُهُ وَتَتَزَكَّى نَفْسُهُ بِالْعِلْمِ بِاللهِ وَالْعِرْفَانِ فِي دِينِهِ، فَيَعْمَلُ الْخَيْرَ؛ لِأَنَّهُ يَفْقَهُ أَنَّهُ الْخَيْرُ النَّافِعُ الْمُرْضِيُّ لِلَّهِ، وَيَتْرُكُ الشَّرَّ؛ لِأَنَّهُ يَفْهَمُ سُوءَ عَاقِبَتِهِ وَدَرَجَةَ مَضَرَّتِهِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَيَكُونُ فَوْقَ هَذَا عَلَى بَصِيرَةٍ وَعَقْلٍ فِي اعْتِقَادِهِ، فَلَا يَأْخُذُهُ بِالتَّسْلِيمِ لِأَجْلِ آبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ، وَلِذَلِكَ وَصَفَ اللهُ الْكَافِرِينَ بَعْدَ تَقْرِيرِ الْمَثَلِ بِأَنَّهُمْ {صُمٌّ} لَا يَسْمَعُونَ الْحَقَّ سَمَاعَ تَدَبُّرٍ وَفَهْمٍ {بُكْمٌ} لَا يَنْطِقُونَ بِهِ عَنِ اعْتِقَادٍ وَعِلْمٍ {عُمْيٌ} لَا يَنْظُرُونَ فِي آيَاتِ اللهِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي الْآفَاقِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ {فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} مَبْدَأَ مَا هُمْ فِيهِ وَلَا غَايَتَهُ كَمَا يُطْلَبُ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَإِنَّمَا يَنْقَادُونَ لِغَيْرِهِمْ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْحَيَوَانِ، وَلِذَلِكَ اتَّبَعُوا مَنْ لَا يَعْقِلُونَ وَلَا يَهْتَدُونَ، فَالْعَاقِلُ لَا يُقَلِّدُ عَاقِلًا مِثْلَهُ، فَأَجْدَرُ بِهِ أَلَّا يُقَلِّدَ جَاهِلًا ضَالًّا هُوَ دُونَهُ.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى حَالَ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْأَنْدَادَ مِنْ دُونِهِ وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ حُبُّ الْحُطَامِ، وَارْتِبَاطُ مَصَالِحِ الْمَرْءُوسِينَ بِمَصَالِحِ الرُّؤَسَاءِ فِي الرِّزْقِ وَالْجَاهِ، وَخَاطَبَ النَّاسَ كُلَّهُمْ بِأَنْ يَأْكُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ إِذْ أَبَاحَ لَهُمْ جَمِيعَ خَيْرَاتِهَا وَبَرَكَاتِهَا بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ حَلَالًا طَيِّبًا، وَبَيَّنَ سُوءَ حَالِ الْكَافِرِينَ الْمُقَلِّدِينَ الَّذِينَ يَقُودُهُمُ الرُّؤَسَاءُ كَمَا يَقُودُ الرَّاعِي الْغَنَمَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا اسْتِقْلَالَ لَهُمْ فِي عَقْلٍ وَلَا فَهْمٍ، ثُمَّ وَجَّهَ الْخِطَابَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُمْ أَحَقُّ بِالْفَهْمِ، وَأَجْدَرُ بِالْعِلْمِ وَأَحْرَى بِالِاهْتِدَاءِ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} الْأَمْرُ هُنَا لِلْوُجُوبِ لَا لِلْإِبَاحَةِ، وَالطَّيِّبَاتُ مَا طَابَ كَسْبُهُ مِنَ الْحَلَالِ، وَيَسْتَلْزِمُ عَدَمُ تَحْرِيمِ شَيْءٍ مِنْهَا وَالِامْتِنَاعُ عَنْهَا تَدَيُّنًا لِتَعْذِيبِ النَّفْسِ، وَهَذَا تَنْبِيهٌ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ إِلَى عَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَى أُولَئِكَ الْحَمْقَى الَّذِينَ أُبِيحَتْ لَهُمْ خَيْرَاتُ الْأَرْضِ فَطَفِقُوا يُحِلُّونَ بَعْضَهَا وَيُحَرِّمُونَ بَعْضًا بِوَسَاوِسِ شَيَاطِينِهِمْ وَتَقْلِيدِ رُؤَسَائِهِمْ، وَأُعْطُوا مِيزَانًا يُمَيِّزُونَ بِهِ الْخَوَاطِرَ الشَّيْطَانِيَّةَ الضَّارَّةَ مِنْ غَيْرِهَا، فَمَا أَقَامُوا بِهِ وَلَا لَهُ وَزْنًا، وَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَرَامَ مِنَ الْحَلَالِ لَكِنَّهُمْ نَفَضُوا أَيْدِيهِمْ مِنْ عِزِّ الِاسْتِقْلَالِ بِالِاسْتِدْلَالِ، وَهَوَّنَ عَلَيْهِمُ التَّقْلِيدُ ذُلَّ الْقُيُودِ وَالْأَغْلَالِ، فَهُوَ يَقُولُ: كُلُوا مِنْ هَذِهِ الطَّيِّبَاتِ وَلَا تُضَيِّقُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ مِثْلَهُمْ {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} الَّذِي خَلَقَهَا لَكُمْ وَسَهَّلَ عَلَيْكُمْ أَسْبَابَهَا بِأَنْ تَتَّبِعُوا سُنَّتَهُ الْحَكِيمَةَ فِي طَلَبِ هَذِهِ الطَّيِّبَاتِ وَاسْتِخْرَاجِهَا، وَفِي اسْتِعْمَالِهَا فِيمَا خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ، وَبِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ جَلَّ جَلَالُهُ وَعَمَّ نَوَالُهُ، وَاعْتِقَادِ أَنَّ هَذِهِ الطَّيِّبَاتِ مِنْ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ لَيْسَ لِمَنِ اتُّخِذُوا أَنْدَادًا لَهُ تَأْثِيرٌ فِيهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ تَخُصُّونَهُ بِالْعِبَادَةِ وَتُؤْمِنُونَ بِانْفِرَادِهِ بِالسُّلْطَةِ وَالتَّدْبِيرِ فَاشْكُرُوا لَهُ خَلْقَ هَذِهِ النِّعَمِ وَإِبَاحَتَهَا لَكُمْ، وَلَا تَجْعَلُوا لَهُ أَنْدَادًا تَطْلُبُونَ مِنْهُمُ الرِّزْقَ أَوْ تَرْجِعُونَ إِلَيْهِمْ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَهُ وَحْدَهُ وَإِلَّا كُنْتُمْ مُشْرِكِينَ بِهِ كَافِرِينَ لِنِعَمِهِ، كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ جَهِلُوا مَعْنَى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى فَاتَّخَذُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ وُسَطَاءَ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ، وَرُؤَسَاءَ يَشْرَعُونَ لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَشْرَعْهُ، وَيُحِلُّونَ لَهُمْ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ مَا لَمْ يَشْرَعْهُ لَهُمْ. وَمِنَ الشُّكْرِ لَهُ تَعَالَى اسْتِعْمَالُ الْقُوَى الَّتِي غُذِّيَتْ بِتِلْكَ الطَّيِّبَاتِ فِي نَفْعِ أَنْفُسِكُمْ وَأُمَّتِكُمْ وَجِنْسِكُمْ. وَلَيْسَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ مَا يَأْخُذُهُ شُيُوخُ الطَّرِيقِ مِنْ مُرِيدِيهِمْ بَلْ هُوَ مِنَ الْخَبَائِثِ وَالسُّحْتِ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَا يَفْهَمُ هَذِهِ الْآيَةَ حَقَّ فَهْمِهَا إِلَّا مَنْ كَانَ عَارِفًا بِتَارِيخِ الْمِلَلِ عِنْدَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ وَقَبْلَهُ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ كَانُوا فِرَقًا وَأَصْنَافًا، مِنْهُمْ مَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ أَشْيَاءَ مُعَيَّنَةً بِأَجْنَاسِهَا أَوْ أَصْنَافًا كَالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَكَبَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، وَكَانَ الْمَذْهَبُ الشَّائِعُ فِي النَّصَارَى أَنَّ أَقْرَبَ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى تَعْذِيبُ النَّفْسِ وَاحْتِقَارُهَا وَحِرْمَانُهَا مِنْ جَمِيعِ الطَّيِّبَاتِ الْمُسْتَلَذَّةِ، وَاحْتِقَارُ الْجَسَدِ وَلَوَازِمِهِ، وَاعْتِقَادُ أَنْ لَا حَيَاةَ لِلرُّوحِ إِلَّا بِذَلِكَ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَرْضَى مِنَّا إِلَّا إِحْيَاءَ الرُّوحِ، وَكَانَ الْحِرْمَانُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ عَلَى أَنْوَاعٍ، مِنْهَا مَا هُوَ خَاصٌّ بِالْقِدِّيسِينَ، أَوْ بِالرُّهْبَانِ وَالْقِسِّيسِينَ، وَمِنْهَا مَا هُوَ عَامُّ كَأَنْوَاعِ الصَّوْمِ الْكَثِيرَةِ كَصَوْمِ الْعَذْرَاءِ وَصَوْمِ الْقِدِّيسِينَ، وَفِي بَعْضِهَا يُحَرِّمُونَ اللَّحْمَ وَالسَّمْنَ دُونَ السَّمَكِ، وَفِي بَعْضِهَا يُحَرِّمُونَ السَّمَكَ وَاللَّبَنَ وَالْبَيْضَ أَيْضًا، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ قَدْ وَضَعَهَا الرُّؤَسَاءُ وَلَيْسَ لَهَا أَثَرٌ يُنْقَلُ عَنِ التَّوْرَاةِ أَوْ عَنِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبِذَلِكَ كَانُوا أَنْدَادًا، وَنَزَلَ فِي شَأْنِهِمْ {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ} [9: 31] وَتَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ وَقَدْ سَرَتْ إِلَيْهِمْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ بِالْوِرَاثَةِ عَنْ آبَائِهِمُ الْوَثَنِيِّينَ الَّذِينَ كَانُوا يُحَرِّمُونَ كَثِيرًا مِنَ الطَّيِّبَاتِ، وَيَرَوْنَ أَنَّ التَّقَرُّبَ إِلَى اللهِ مَحْصُورٌ فِي تَعْذِيبِ النَّفْسِ وَتَرْكِ حُظُوظِ الْجَسَدِ، إِذْ رَأَوْا فِي دِينِهِمْ وَفِي سِيرَةِ الْمَسِيحِ وَحَوَارِيِّيهِ مِنْ طَلَبِ الْمُبَالَغَةَ فِي الزُّهْدِ مَا يُؤَيِّدُهَا.
وَقَدْ تَفَضَّلَ اللهُ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ بِجَعْلِهَا أُمَّةً وَسَطًا تُعْطِي الْجَسَدَ حَقَّهُ وَالرُّوحَ حَقَّهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} فَأَحَلَّ لَنَا الطَّيِّبَاتِ لِتَتَّسِعَ دَائِرَةُ نِعَمِهِ الْجَسَدِيَّةِ عَلَيْنَا، وَأَمَرَنَا بِالشُّكْرِ عَلَيْهَا لِيَكُونَ لَنَا مِنْهَا فَوَائِدُ رُوحَانِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ، فَلَمْ نَكُنْ جُثْمَانِيِّينَ مَحْضًا كَالْأَنْعَامِ، وَلَا رُوحَانِيِّينَ خُلَّصًا كَالْمَلَائِكَةِ، وَإِنَّمَا جَعَلَنَا أَنَاسِيَ كَمَلَةً بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُعْتَدِلَةِ، فَلَهُ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ وَالثَّنَاءُ الْحَسَنُ.
ظَهَرَ بِهَذَا التَّقْرِيرِ أَنَّ الْآيَةَ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا وَمُتَمِّمَةٌ لَهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَلَهُ وَجْهٌ فِيمَا قَالَ: إِنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ كُلُّهُ فِي الْقُرْآنِ وَالرِّسَالَةِ وَأَحْوَالِ الْمُنْكِرِينَ لِلدَّاعِي، وَمَا جَاءَ فِيهَا مِنَ الْأَحْكَامِ فَإِنَّمَا جَاءَ بِطَرِيقِ الْعَرْضِ وَالِاسْتِطْرَادِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ ابْتِدَاءُ قِسْمٍ جَدِيدٍ مِنَ الْكَلَامِ، وَهُوَ سَرْدُ الْأَحْكَامِ؛ فَإِنَّهُ يَذْكُرُ بَعْدَهَا أَحْكَامَ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ وَأَحْكَامَ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالْقِصَاصِ وَالْوَصِيَّةِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ وَالْعِدَّةِ وَالْإِيلَاءِ وَالرَّضَاعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيَنْتَهِي هَذَا الْقِسْمُ بِمَا قَبْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} [2: 243] الْآيَةَ، وَلَا غَرْوَ فَإِنَّ بَيْنَ كُلِّ قِسْمٍ وَآخَرَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ التَّنَاسُبِ مِثْلُ مَا بَيْنَ كُلِّ آيَةٍ وَأُخْرَى فِي الْقِسْمِ الْوَاحِدِ {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [11: 1].
بَعْدَ ذِكْرَ إِبَاحَةِ الطَّيِّبَاتِ ذَكَرَ الْمُحَرَّمَاتِ فَقَالَ تَبَارَكَ اسْمُهُ: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} هَذَا حَصْرٌ لِمُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ مِنَ الْحَيَوَانِ بِصِيغَةِ إِنَّمَا الدَّالَّةِ عَلَى مَا سَبَقَ الْإِعْلَامُ بِهِ وَهُوَ آيَةُ سُورَةِ الْأَنْعَامِ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا حَصْرُ التَّحْرِيمِ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ بِصِيغَةِ الْإِثْبَاتِ بَعْدَ النَّفْيِ، وَإِنَّمَا حَرَّمَ الْمَيْتَةَ لِمَا فِي الطِّبَاعِ السَّلِيمَةِ مِنِ اسْتِقْذَارِهَا، وَلِمَا يُتَوَقَّعُ مِنْ ضَرَرِهَا، فَإِنَّهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَاتَتْ بِمَرَضٍ سَابِقٍ أَوْ بِعِلَّةٍ عَارِضَةٍ، وَكِلَاهُمَا لَا يُؤْمَنُ مِنْ ضَرَرِهِ؛ لِأَنَّ الْمَرَضَ قَدْ يَكُونُ مُعْدِيًا وَالْمَوْتُ الْفُجَائِيُّ يَقْتَضِي بَقَاءَ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ الضَّارَّةِ فِي الْجِسْمِ كَالْكَرْبُونِ الَّذِي يَكُونُ سَبَبَ الِاخْتِنَاقِ، هَذَا مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ. وَيُزَادُ عَلَيْهِ عَدَمُ الْقَصْدِ إِلَى إِمَاتَتِهَا بِعَمَلِ الْإِنْسَانِ، وَهُوَ سَبَبُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَخْنُوقَةِ وَالْمُنْخَنِقَةِ الَّتِي هِيَ فِي مَعْنَى الْمَيْتَةِ حَتْفَ أَنْفِهَا؛ وَلِذَلِكَ كَانَ فِي مَعْنَى الْمَيْتَةِ كُلُّ مَا زَالَتْ حَيَاتُهُ بِغَيْرِ قَصْدِ الزَّكَاةِ كَالْمُنْخَنِقَةِ وَالْمَوْقُوذَةِ- إِلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ. وَالدَّمَ أَيِ: الْمَسْفُوحَ كَمَا فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ، فَإِنَّهُ قَذِرٌ لَا طَيِّبٌ، وَضَارٌّ كَالْمَيْتَةِ {وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} فَإِنَّهُ قَذِرٌ؛ لِأَنَّ أَشْهَى غِذَاءِ الْخِنْزِيرِ إِلَيْهِ الْقَاذُورَاتُ وَالنَّجَاسَاتُ، وَهُوَ ضَارٌّ فِي جَمِيعِ الْأَقَالِيمِ وَلاسيما الْحَارَةَ كَمَا ثَبَتَ بِالتَّجْرِبَةِ، وَأَكْلُ لَحْمِهِ مِنْ أَسْبَابِ الدُّودَةِ الْوَحِيدَةِ الْقَتَّالَةِ، وَيُقَالُ إِنَّ لَهُ تَأْثِيرًا سَيِّئًا فِي الْعِفَّةِ وَالْغَيْرَةِ {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} وَهُوَ مَا يُذْبَحُ وَيُقَدَّمُ لِلْأَصْنَامِ أَوْ غَيْرِهَا مِمَّا يُعْبَدُ. وَالْمَنْعُ مِنْ هَذَا دِينِيٌّ مَحْضٌ لِحِمَايَةِ التَّوْحِيدِ، لِأَنَّهُ مِنْ أَعْمَالِ الْوَثَنِيَّةِ فَكُلُّ مَنْ أَهَلَّ لِغَيْرِ اللهِ عَلَى ذَبِيحَةٍ فَإِنَّهُ يَتَقَرَّبُ إِلَى مَنْ أَهَلَّ بِاسْمِهِ تَقَرُّبَ عِبَادَةٍ، وَذَلِكَ مِنَ الْإِشْرَاكِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَى غَيْرِ اللهِ تَعَالَى.
وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ كُلَّ مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ اسْمُ غَيْرِ اللهِ وَلَوْ مَعَ اسْمِ اللهِ فَهُوَ مُحَرَّمٌ، وَعَدَّ مِنْهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا يَجْرِي فِي الْأَرْيَافِ كَثِيرًا مِنْ قَوْلِهِمْ عِنْدَ الذَّبْحِ- لاسيما ذَبْحَ الْمَنْذُورِ- بِسْمِ اللهِ، اللهُ أَكْبَرُ، يَا سَيِّدُ، يَدْعُونَ السَّيِّدَ الْبَدَوِيَّ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَيْهِمْ وَيَتَقَبَّلَ النَّذْرَ وَيَقْضِيَ حَاجَةَ صَاحِبِهِ، قَالَ وَكَيْفَمَا أَوَّلْتَهُ فَهُوَ مُحَرَّمُ، وَمِثْلُ ذِكْرِ السَّيِّدِ ذِكْرُ الرَّسُولِ أَوِ الْمَسِيحِ؛ إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُذْكَرَ عِنْدَ الذَّبْحِ غَيْرُ اسْمِ الْمُنْعِمِ بِالْبَهِيمَةِ الْمُبِيحِ لَهَا، فَهِيَ تُذْبَحُ وَتُؤْكَلُ بِاسْمِهِ لَا يُشَارِكُهُ فِي ذَلِكَ سِوَاهُ، وَلَا يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى مَنْ عَدَاهُ مِمَّنْ لَمْ يَخْلُقْ وَلَمْ يُنْعِمْ وَلَمْ يُبِحْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ وَاضِعٍ لِلدِّينِ {فَمَنِ اضْطُرَّ} إِلَى الْأَكْلِ مِمَّا ذُكِرَ بِأَنْ لَمْ يَجِدْ مَا يَسُدُّ بِهِ رَمَقَهُ سِوَاهُ {غَيْرَ بَاغٍ} لَهُ أَيْ: غَيْرُ طَالِبٍ لَهُ، رَاغِبٍ فِيهِ لِذَاتِهِ {وَلَا عَادٍ} مُتَجَاوِزٍ قَدْرَ الضَّرُورَةِ {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} لِأَنَّ الْإِلْقَاءَ بِنَفْسِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ بِالْمَوْتِ جُوعًا أَشَدُّ ضَرَرًا مَنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ أَوِ الدَّمِ أَوْ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ، بَلِ الضَّرَرُ فِي تَرْكِ الْأَكْلِ مُحَقَّقٌ، وَهُوَ فِي فِعْلِهِ مَظْنُونٌ، وَرُبَّمَا كَانَتْ شِدَّةُ الْحَاجَةِ إِلَى الْأَكْلِ مَعَ الِاكْتِفَاءِ بِسَدِّ الرَّمَقِ مَانِعَةٌ مِنَ الضَّرَرِ، وَأَمَّا مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنْ أَكَلَ مِنْهُ مُضْطَرًّا فَهُوَ لَا يَقْصِدُ إِجَازَةَ عَمَلِ الْوَثَنِيَّةِ، وَلَا اسْتِحْسَانَهُ {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} إِذْ حَرَّمَ عَلَى عِبَادِهِ الضَّارَّ، وَجَعَلَ الضَّرُورَاتِ بِقَدْرِهَا، لِيَنْتَفِيَ الْحَرَجُ وَالْعُسْرُ عَنْهُمْ، وَوَكَّلَ تَحْدِيدَهَا إِلَى اجْتِهَادِهِمْ، فَهُوَ يَغْفِرُ لَهُمْ خَطَأَهُمْ فِيهِ لِتَعَذُّرِ ضَبْطِهِ.
وَفَسَّرَ الْجَلَالُ كَلِمَةَ {بَاغٍ} بِالْخَارِجِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ و{عَادٍ} بِالْمُعْتَدِي عَلَيْهِمْ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ قَالَ: وَيَلْحَقُ بِهِمْ كُلُّ عَاصٍ بِسَفَرِهِ كَالْآبِقِ وَالْمِكَاسِ، وَعَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنَّ الْعَاصِيَ كَغَيْرِهِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ إِلْقَاءُ نَفْسِهِ فِي التَّهْلُكَةِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ تَوَقِّي الضَّرَرِ، وَيَجِبُ عَلَيْنَا دَفْعُهُ عَنْهُ إِنِ اسْتَطَعْنَا. فَكَيْفَ لَا تَتَنَاوَلُهُ إِبَاحَةُ الرُّخَصِ؟! ثُمَّ إِنَّ الْمُنَاسِبَ لِلسِّيَاقِ أَنْ تُحَدَّدَ الضَّرُورَةُ الَّتِي تُجِيزُ أَكْلَ الْمُحَرَّمِ، وَتَفْسِيرُ الْبَاغِي وَالْعَادِي بِمَا ذَكَرْنَا هُوَ الْمُحَدِّدُ لَهَا، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلُّغَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ: {مَا نَبْغِي} وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ هَلُمَّ» وَفِي التَّنْزِيلِ {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [18: 28] أَيْ: لَا تَتَجَاوَزْهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ، فَالْكَلَامُ فِي تَحْدِيدِ الضَّرُورَةِ وَتَمَامِ بَيَانِ حُكْمِ مَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ مِنَ الْأَكْلِ، لَا فِي السِّيَاسَةِ وَعُقُوبَةِ الْخَارِجِينَ عَلَى الدَّوْلَةِ وَالْمُؤْذِينَ لِلْأُمَّةِ. وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا التَّحْدِيدُ لَازِمًا لِئَلَّا يَتَّبِعَ النَّاسُ أَهْوَاءَهُمْ فِي تَفْسِيرِ الِاضْطِرَارِ إِذَا هُوَ وُكِّلَ إِلَيْهِمْ بِلَا حَدٍّ وَلَا قَيْدٍ، فَيَزْعُمُ هَذَا أَنَّهُ مُضْطَرٌّ وَلَيْسَ بِمُضْطَرٍّ، وَيَذْهَبُ ذَلِكَ بِشَهْوَتِهِ إِلَى مَا وَرَاءَ حَدِّ الضَّرُورَةِ، فَعُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} كَيْفَ تُقَدَّرُ الضَّرُورَةُ بِقَدْرِهَا، وَالْأَحْكَامُ عَامَّةٌ يُخَاطَبُ بِهَا كُلُّ مُكَلَّفٍ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ أَحَدٍ إِلَّا بِنَصٍّ صَرِيحٍ مِنَ الشَّارِعِ، وَيَذْكُرُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَسَائِلَ خِلَافِيَّةً فِي الْمَيْتَةِ كَحِلِّ الِانْتِفَاعِ بِجِلْدِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ يُؤْكَلُ، وَقَدْ قُلْنَا: إِنَّنَا لَا نَتَعَرَّضُ فِي بَيَانِ الْقُرْآنِ إِلَى الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ الَّتِي لَا تَدُلُّ عَلَيْهَا عِبَارَتُهُ، إِذْ يَجِبُ أَنْ يَبْقَى دَائِمًا فَوْقَ كُلِّ خِلَافٍ.
هَذَا مُلَخَّصُ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ، وَاقْتَصَرْتُ عَلَيْهِ فِي الطَّبْعَةِ الْأُولَى وَقَرَأَهُ هُوَ فِيهَا، وَأَقُولُ الْآنَ: إِنَّهُ رَحِمَهُ اللهُ كَانَتْ خُطَّتُهُ الْغَالِبَةُ فِيهِ تَرْكَ ذِكْرِ الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ الَّتِي لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ، وَهَذَا غَيْرُ الْخِلَافِ فِي مَدْلُولِ عِبَارَاتِهِ كَمَا هُنَا، وَرُبَّمَا يَكُونُ ذِكْرُ الْخِلَافِ وَسِيلَةً إِلَى بَيَانِ كَوْنِهِ فَوْقَ كُلِّ خِلَافٍ.
وَقَدْ زَادَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ- تَبَعًا لِفُقَهَائِهِمْ- مُحَرَّمَاتٍ أُخْرَى اسْتَدَلُّوا عَلَيْهَا بِأَحَادِيثَ آحَادِيَّةٍ فِي دَلَالَتِهَا نَظَرٌ، وَبِعُمُومِ تَحْرِيمِ الْخَبَائِثِ وَهِيَ مُعَارَضَةٌ بِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْحَصْرِ، وَقَدْ حَقَّقْتُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي تَفْسِيرِ {قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ} [6: 145] إِلَخْ. وَفَنَّدْتُ مَا قِيلَ فِي تَأْوِيلِهَا بِمَا ظَهَرَ بِهِ أَنَّ الْقُرْآنَ فَوْقَ كُلِّ خِلَافٍ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ الْبَلَاغَةِ فِي الْآيَةِ أَنَّ ذِكْرَ غَفُورٌ لَهُ فِيهَا نُكْتَةٌ دَقِيقَةٌ لَا تَظْهَرُ إِلَّا لِصَاحِبِ الذَّوْقِ الصَّحِيحِ فِي اللُّغَةِ، فَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ ذِكْرَ وَصْفِ الرَّحِيمِ يُنْبِئُ بِأَنَّ هَذَا التَّشْرِيعَ وَالتَّخْفِيفَ بِالرُّخْصَةِ مِنْ آثَارِ الرَّحْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَأَمَّا الْغَفُورُ فَإِنَّمَا يُنَاسِبُ أَنْ يُذْكَرَ فِي مَقَامِ الْعَفْوِ عَنِ الزَّلَّاتِ وَالتَّوْبَةِ عَنِ السَّيِّئَاتِ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي تَحْدِيدِ الِاضْطِرَارِ دَقِيقٌ جِدًّا، وَمَرْجِعُهُ إِلَى اجْتِهَادِ الْمُضْطَرِّ، وَيَصْعُبُ عَلَى مَنْ خَارَتْ قُوَاهُ مِنَ الْجُوعِ أَنْ يَعْرِفَ الْقَدْرَ الَّذِي يُمْسِكُ الرَّمَقَ وَيَقِي مِنَ الْهَلَاكِ بِالتَّدْقِيقِ وَأَنْ يَقِفَ عِنْدَهُ، وَالصَّادِقُ الْإِيمَانِ يَخْشَى أَنْ يَقَعَ فِي وَصْفِ الْبَاغِي وَالْعَادِي بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، فَاللهُ تَعَالَى يُبَشِّرُهُ بِأَنَّ الْخَطَأَ الْمُتَوَقَّعَ فِي الِاجْتِهَادِ فِي ذَلِكَ مَغْفُورٌ لَهُ مَا لَمْ يَتَعَمَّدْ تَجَاوُزَ الْحُدُودِ. وَاللهُ أَعْلَمُ. اهـ.