فصل: قال الجصاص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الجصاص:

قوله تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هم نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّك فِي الْأَمْرِ}.
قِيلَ: إنَّ الْمَنْسَكَ الْمَوْضِعُ الْمُعْتَادُ لِعَمَلِ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَهُوَ الْمَالَفُ لِذَلِكَ، وَمَنَاسِكُ الْحَجِّ مَوَاضِعُ الْعِبَادَاتِ فِيهِ، فَهِيَ مُتَعَبَّدَاتُ الْحَجِّ.
وَقال ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْسَكًا عِيدًا وَقال مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: مُتَعَبَّدًا فِي إرَاقَةِ الدَّمِ بِمِنًى وَغَيْرِهِ.
وَقال عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ أَيْضًا وَعِكْرِمَةُ ذَبَائِحُ هُمْ ذَابِحُوهُ.
وَقِيلَ إنَّ الْمَنْسَكَ جَمِيعُ الْعِبَادَاتِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا.
قال أَبُو بَكْرٍ: قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حديث الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يَوْمَ الْأَضْحَى فَقال صلى الله عليه وسلم: إنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي يَوْمِنَا هذا الصَّلَاةُ ثُمَّ الذَّبْحُ فَجَعَلَ الصَّلَاةَ وَالذَّبْحَ جَمِيعًا نُسُكًا»، وَهذا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْمَ النُّسُكِ يَقَعُ عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ، إلَّا أَنَّ الْأَظْهَرَ الْأَغْلَبَ فِي الْعَادَةِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ الذَّبْحُ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ، قال اللَّهُ تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ جَمِيعَ الْعِبَادَاتِ وَيَكُونَ الذَّبْحُ أَحَدَ مَا أُرِيدَ بِالآية، فَيُوجِبُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونُوا مَامُورِينَ بِالذَّبْحِ لِقوله تعالى: {فَلَا يُنَازِعُنَّك فِي الْأَمْرِ} وَإِذْ كُنَّا مَامُورِينَ بِالذَّبْحِ سَاغَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فِي إيجَابِ الْأُضْحِيَّةِ لِوُقُوعِهَا عَامَّةً فِي الْمُوسِرِينَ كَالزَّكَاةِ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ عَلَى الذَّبْحِ الْوَاجِبِ فِي الْحَجِّ كَانَ خَاصًّا فِي دَمِ القران وَالْمُتْعَةِ؛ إذْ كَانَا نُسُكَيْنِ فِي الْحَجِّ دُونَ غَيْرِهِمَا مِنْ الدِّمَاءِ؛ إذْ كَانَتْ سَائِرُ الدِّمَاءِ فِي الْحَجِّ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى جِهَةِ جُبْرَانُ نَقْصٍ وَجِنَايَةٍ فَلَا يَكُونُ إيجَابُهُ عَلَى وَجْهِ ابْتِدَاءِ الْعِبَادَةِ بِهِ، وقوله تعالى: {جَعَلْنَا مَنْسَكًا هم نَاسِكُوهُ} يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ ابْتِدَاءَ إيجَابِ الْعِبَادَةِ بِهِ.
وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ، فَرَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ أَبِي سَرِيحَةَ قال: «رَأَيْت أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وما يُضَحِّيَانِ».
وَقال عِكْرِمَةُ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَبْعَثُنِي يَوْمَ الْأَضْحَى بِدِرْهَمَيْنِ أَشْترى لَهُ لَحْمًا وَيقول: مَنْ لَقِيت فَقُلْ هَذِهِ أُضْحِيَّةُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقال ابْنُ عُمَرَ: لَيْسَتْ بِحَتْمٍ وَلَكِن سُنَّةٌ وَمَعْرُوفٌ.
وَقال أَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ: إنِّي لَأَدَعُ الْأَضْحَى وَأَنَا مُوسِرٌ مَخَافَةَ أَنْ يَرَى جِيرَانِي أَنَّهُ حَتْمٌ على.
وَقال إبراهيم النَّخَعِيُّ: الْأُضْحِيَّةُ وَاجِبَةٌ إلَّا عَلَى مُسَافِرٍ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قال: كَانُوا إذَا شَهِدُوا ضَحَّوْا وَإِذَا سَافَرُوا لَمْ يُضَحُّوا.
وَرَوَى يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ مَكْحُولٍ قال: الْأُضْحِيَّةُ وَاجِبَةٌ.
وَقال أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: الْأُضْحِيَّةُ وَاجِبَةٌ عَلَى أَهْلِ الْيَسَارِ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى الْمُقِيمِينَ دُونَ الْمُسَافِرِينَ، وَلَا أُضْحِيَّةَ عَلَى الْمُسَافِرِ وَإِنْ كَانَ مُوسرًّا، وَحَدُّ الْيَسَارِ فِي ذَلِكَ مَا تَجِبُ فِيهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مِثْلُ ذَلِكَ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ وَهِيَ سُنَّةٌ.
وَقال مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ أُضْحِيَّةٌ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ، وَمَنْ تَرَكَهَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَبِئْسَ مَا صَنَعَ.
وَقال الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ.
وَقال الثَّوْرِيُّ: لَا بَأْسَ بِتَرْكِهَا.
وَقال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ: يُؤْثِرُ بِهَا أَبَاهُ أَحَبُّ إلى مِنْ أَنْ يُضَحِّيَ.
قال أَبُو بَكْرٍ: وَمَنْ يُوجِبُهَا يَحْتَجُّ بِهَذِهِ الآية، وَيُحْتَجُّ لَهُ بِقوله: {قُلْ إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْت} قَدْ اقْتَضَى الْأَمْرُ بِالْأُضْحِيَّةِ؛ لِأَنَّ النُّسُكَ فِي هذا الْمَوْضِعِ الْمُرَادِ بِهِ الْأُضْحِيَّةُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «يَا فَاطِمَةُ اشْهَدِي أُضْحِيَّتَك فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَك بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهَا كُلُّ ذَنْبٍ عُمْلَتَيْهِ وَقُولِي: {إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}».
وَرُوِيَ أَنَّ عليًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يقول عِنْدَ ذَبْحِ الْأُضْحِيَّةِ: {إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ} الآية.
وَقال أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ يَوْمَ الْأَضْحَى: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي عَجَّلْت بِنُسُكِي.
وَقال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي يَوْمِنَا هذا الصَّلَاةُ ثُمَّ الذَّبْحُ» فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هذا النُّسُكَ قَدْ أُرِيدَ بِهِ الْأُضْحِيَّةُ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَامُورٌ بِهِ بِقوله: {وَبِذَلِكَ أُمِرْت} وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ.
وَيُحْتَجُّ فِيهِ بِقوله: {فَصَلِّ لِرَبِّك وَانْحَرْ} قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ أراد صَلَاةَ الْعِيدِ وَبِالنَّحْرِ الْأُضْحِيَّةَ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ، وَإِذَا وَجَبَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَيْنَا لِقوله تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ} وَقوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} وَيُحْتَجُّ لِلْقَائِلِينَ بِإِيجَابِهَا مِنْ جِهَةِ الْأَثَرِ بِمَا رَوَاهُ زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشٍ قال: حَدَّثَنِي الْأَعْرَجُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال: قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ لَهُ يَسَارٌ فَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا».
وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ مَرْفُوعًا جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قال: حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُبَارَكِ قال: حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ خَارِجَةَ قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال: قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَدَرَ عَلَى سَعَةٍ فَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا».
وَرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ يَعْلَى أَيْضًا مَرْفُوعًا، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قال: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ قال: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ النُّعْمَانِ الْفَرَّاءُ قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَعْلَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشٍ أَوْ عَبَّاسٍ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال: قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ وَجَدَ سَعَةً فَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا».
وَرَوَاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال: «مَنْ وَجَدَ سَعَةً فَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا».
وَيُقال إنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي جَعْفَرٍ فَوْقَ ابْنِ عَيَّاشٍ فِي الضَّبْطِ وَالْجَلَالَةِ، فَوَقَفَهُ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَمْ يَرْفَعْهُ، وَيُقال إنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ غَيْرُ مَرْفُوعٍ.
وَيُحْتَجُّ لِإِيجَابِهَا أَيْضًا بِحديث أَبِي رَمْلَةَ الْحَنَفِيِّ عَنْ مِخْنَفِ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: «عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ فِي عَامٍ أُضْحِيَّةٌ وَعَتِيرَةٌ».
قال أَبُو بَكْرٍ: وَالْعَتِيرَةُ مَنْسُوخَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَهِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَصُومُونَ رَجَبَ ثُمَّ يَعْتَرُونَ، وَهِيَ الرَّجَبِيَّةُ، وَقَدْ كَانَ ابْنُ سِيرِينَ وَابْنُ عَوْنٍ يَفْعَلَانِهِ، وَلَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى نَسْخِ الْأُضْحِيَّةِ فَهِيَ وَاجِبَةٌ بِمُقْتَضَى الْخَبَرِ، إلَّا أَنَّهُ ذُكِرَ فِي هذا الحديث: «عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ أُضْحِيَّةٌ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْ الْأُضْحِيَّةِ لَا يُجْزِئُ عَنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَإِنَّمَا يُجْزِئُ عَنْ وَاحِدٍ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْإِيجَابَ.
وَمِمَا يُحْتَجُّ لِمُوجِبِهَا مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قال: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي عَوْنٍ الْبَزْوَرِيِّ قال: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ إسْمَاعِيلُ بْنُ إبراهيم قال: حَدَّثَنَا أَبُو إسْمَاعِيلَ الْمُؤَدِّبُ عَنْ مُجَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرٍ وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قالا: قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى مِنْبَرِهِ يَوْمَ الْأَضْحَى فَقال: «مَنْ صَلَّى مَعَنَا هذه الصَّلَاةَ فَلْيَذْبَحْ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَقَامَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ فَقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي ذَبَحْت لِيَأْكُلَ مَعَنَا أَصْحَابُنَا إذَا رَجَعْنَا، قال: لَيْسَ بِنُسُكٍ قال: عِنْدِي جَذَعَةٌ مِنْ الْمَعْزِ، قال: تُجْزِي عَنْك وَلَا تُجْزِي عَنْ غَيْرِك»، فَيُسْتَدَلُّ مِنْ هذا الْخَبَرِ بِوُجُوهٍ عَلَى الْوُجُوبِ، أَحَدُهَا: قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَلَّى مَعَنَا هذه الصَّلَاةَ وَشَهِدَ مَعَنَا فَلْيَذْبَحْ بَعْدَ الصَّلَاةِ» وَهُوَ أَمْرٌ بِالذَّبْحِ يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ الْوُجُوبَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قوله صلى الله عليه وسلم: «تُجْزِي عَنْك وَلَا تُجْزِي عَنْ غَيْرِك».
وَمَعْنَاهُ: تَقْضِي عَنْك؛ لِأَنَّهُ يُقال جَزَى عَنِّي كَذَا بِمَعْنَى قَضَى عَنِّي، وَالْقَضَاءُ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ وَاجِبٍ فَقَدْ اقْتَضَى ذَلِكَ الْوُجُوبَ.
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ هذا الحديث: «فَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيُعِدْ أُضْحِيَّتَهُ» وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ قال لِأَبِي بُرْدَةَ: «أَعِدْ أُضْحِيَّتَك»، وَمَنْ يَأْبَى ذَلِكَ يقول: إنَّ قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَلَّى مَعَنَا هذه الصَّلَاةَ وَشَهِدَ مَعَنَا فَلْيَذْبَحْ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْإِيجَابَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا لَا يَتَعَلَّقُ بِشُهُودِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَلَمَا عَمَّ الْجَمِيعَ وَلَمْ يُخَصِّصْ بِهِ الْأَغْنِيَاءَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أراد النَّدْبَ، وَأَمَا قوله: {تُجْزِي عَنْك} فَإِنَّمَا أراد بِهِ جَوَازَ قُرْبَةٍ، وَالْجَوَازُ وَالْقَضَاءُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا جَوَازُ قُرْبَةٍ، وَالآخر جَوَازُ فَرْضٍ، فَلَيْسَ فِي ظَاهِرِ إطْلَاقِ لَفْظِ الْجَوَازِ وَالْقَضَاءِ دَلَالَةٌ عَلَى الْوُجُوبِ.
وَأَيْضًا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو بُرْدَةَ قَدْ كَانَ أَوْجَبَ الْأُضْحِيَّةَ نَذْرًا، فَأَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ، فَإِذًا لَيْسَ فِيمَا خَاطَبَ بِهِ أَبَا بُرْدَةَ دَلَالَةٌ عَلَى الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ فِي شَخْصٍ مُعَيَّنٍ لَيْسَ بِعُمُومِ لَفْظٍ فِي إيجَابِهَا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ أراد الْقَضَاءَ عَنْ وَاجِبٍ لَسَأَلَهُ عَنْ قِيمَتِهِ لِيُوجِبَ عَلَيْهِ مِثْلَهُ.
قِيلَ لَهُ: قَدْ قال أَبُو بُرْدَةَ: «إنَّ عِنْدِي جَذَعَةً خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ» فَكَانَتْ الْجَذَعَةُ خَيْرًا مِنْ الأولى.
وَمِمَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى الْوُجُوبِ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى لُزُومِهَا بِالنَّذْرِ، فَلَوْلَا أَنَّ لَهَا أَصْلًا فِي الْوُجُوبِ لَمَا لَزِمَتْ بِالنَّذْرِ، كَسَائِرِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ فِي الْوُجُوبِ فَلَا تَلْزَمُ بِالنَّذْرِ.
وَمِمَا يُحْتَجُّ بِهِ لِلْوُجُوبِ مَا رَوَى جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قال: نَسَخَتْ الْأُضْحِيَّةُ كُلَّ ذَبْحٍ كَانَ قَبْلَهَا، وَنَسَخَتْ الزَّكَاةُ كُلَّ زَكَاةٍ كَانَتْ قَبْلَهَا، وَنَسَخَ صَوْمُ رَمَضَانَ كُلَّ صَوْمٍ كَانَ قَبْلَهُ، وَنَسَخَ غُسْلُ الْجَنَابَةِ كُلَّ غُسْلٍ كَانَ قَبْلَهُ، قالوا: فَهذا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْأَضْحَى؛ لِأَنَّهُ نُسِخَ بِهِ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَلَا يَكُونُ الْمَنْسُوخُ بِهِ إلَّا وَاجِبًا، أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ مَا ذَكَرَهُ أَنَّهُ نَاسِخٌ لِمَا قَبْلَهُ فَهُوَ فَرْضٌ أَوْ وَاجِبٌ؟ قال أَبُو بَكْرٍ: وَهذا عِنْدِي لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ نَسْخَ الْوَاجِبِ هُوَ بَيَانُ مُدَّةِ الْوُجُوبِ، فَإِذَا بَيَّنَ بِالنَّسْخِ أَنَّ مُدَّةَ الْإِيجَابِ كَانَتْ إلَى هذا الْوَقْتِ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مَا يَقْتَضِي إيجَابَ شَيْءٍ آخَرَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قال قَدْ نُسِخَتْ عَنْكُمْ الْعَتِيرَةُ وَالْعَقِيقَةُ وَسَائِرُ الذَّبَائِحِ الَّتِي كَانَتْ تُفْعَلُ لَمْ تَكُنْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ ذَبِيحَةٍ أُخْرَى؟ فَلَيْسَ إذًا فِي قوله: نَسَخَتْ الْأُضْحِيَّةُ كُلَّ ذَبِيحَةٍ كَانَتْ قَبْلَهَا دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ، وَإِنَّمَا فَائِدَةُ ذِكْرِ النَّسْخِ فِي هذا الْمَوْضِعِ بِالْأُضْحِيَّةِ أَنَّهُ بَعْدَمَا نَدَبَنَا إلَى الْأُضْحِيَّةِ لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ ذَبِيحَةٌ أُخْرَى وَاجِبَةٌ.
وَمِمَا يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ نَفَى وُجُوبَهَا مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قال: حَدَّثَنَا إبراهيم بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْخَطَّابِ قال: حَدَّثَنَا مَنْدَلُ بن علي عَنْ أَبِي حُبَابٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْأَضْحَى على فَرِيضَةٌ وَهُوَ عَلَيْكُمْ سُنَّةٌ».
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قال: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو عُثْمَانَ الْأَنْجَذَانِيُّ قال: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ حَمَادٍ قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحْرِزٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قال: قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْت بِالْأَضْحَى وَالْوِتْرِ وَلَمْ تُعْزَمْ عَلَيَّ».
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن علي بْنِ الْعَبَّاسِ الْفَقِيهِ قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ قال: حَدَّثَنَا أَبَانُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «ثَلَاثٌ هُنَّ على فَرِيضَةٌ وَلَكُمْ تَطَوُّعٌ: الْأَضْحَى وَالْوِتْرُ وَالضُّحَى» فَفِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ عَلَيْنَا، إلَّا أَنَّ الْأَخْبَارَ لَوْ تَعَارَضَتْ لَكَانَتْ الْأَخْبَارُ الْمُقْتَضِيَةُ لِلْإِيجَابِ أَوْلَى بِالِاسْتِعْمَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِيجَابَ طَارِئٌ عَلَى إبَاحَةِ التَّرْكِ، وَالثَّانِي: أَنَّ فِيهِ حَظْرَ التَّرْكِ وَفِي نَفْيِهِ إبَاحَةُ التَّرْكِ، وَالْحَظْرُ أَوْلَى مِنْ الْإِبَاحَةِ.
وَمِمَا يُحْتَجُّ بِهِ فِي نَفْيِ الْوُجُوبِ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قال: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قال: حَدَّثَنَا هارُون بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ قال: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَيُّوبَ قال: حَدَّثَنِي عَيَّاشُ الْقِتْبَانِيُّ عَنْ عِيسَى بْنِ هِلَالٍ الصَّدَفِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «أُمِرْت بِيَوْمِ الْأَضْحَى عِيدًا جَعَلَهُ اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ فَقال رَجُلٌ: أَرَأَيْت إنْ لَمْ أَجِدْ إلَّا مَنِيحَةً أُنْثَى أَفَأُضَحِّي بِهَا؟ قال: لَا، وَلَكِن تَأْخُذُ مِنْ شَعْرِك وَأَظْفَارِك وَتَقُصُّ شَارِبَك وَتَحْلِقُ عَانَتَك فَتِلْكَ تَمَامُ أُضْحِيَّتِك عِنْدَ اللَّهِ عز وجل» فَلَمَا جَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ بِمَنْزِلَةِ الْأُضْحِيَّةِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ؛ إذْ كَانَ فِعْلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ غَيْرَ وَاجِبٍ.
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قال: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قال: حَدَّثَنِي إبراهيم بْنُ مُوسَى الرَّازِيّ قال: حَدَّثَنَا عِيسَى قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي عَيَّاشٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قال: «ذَبَحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ كَبْشَيْنِ أَقَرْنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ مُوجِئَيْنِ، فَلَمَا وَجَّهَهُمَا قال: إنِّي وَجَّهْت وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السماوات وَالأرض عَلَى مِلَّةِ إبراهيم حَنِيفًا وما أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ، إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْت وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ مِنْك وَلَك عَنْ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ، بِاسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ ثُمَّ ذَبَحَ».
قالوا: فَفِي ذَبْحِهِ عَنْ الْأُمَّةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَمْ تَجُزْ شَاةٌ عَنْ جَمِيعِ الْأُمَّةِ.
قال أَبُو بَكْرٍ: وَهذا لَا يَنْفِي الْوُجُوبَ؛ لِأَنَّهُ تَطَوُّعٌ بِذَلِكَ، وَجَائِزٌ أَنْ يَتَطَوَّعَ عَمَّنْ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ كَمَا يَتَطَوَّعُ الرَّجُلُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يُسْقِطُ ذَلِكَ عَنْهُ وُجُوبَ مَا يَلْزَمُهُ.
وَمِمَا يَحْتَجُّ مَنْ نَفَى الْوُجُوبَ مَا قَدَّمْنَا رِوَايَتَهُ عَنْ السَّلَفِ مِنْ نَفْيِ إيجَابِهِ، وَفِيهِ الدَّلَالَةُ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى ذَلِكَ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ مِنْ أَحَدٍ مِنْ نُظَرَائِهِمْ مِنْ السَّلَفِ خِلَافُهُ، وَقَدْ اسْتَفَاضَ عَمَّنْ ذَكَرْنَا قولهمْ مِنْ السَّلَفِ نَفْيَ إيجَابِهِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا مَعَ عُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَوْقِيفٌ لِأَصْحَابِهِ عَلَى وُجُوبِهِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَرَدَ النَّقْلُ بِهِ مُسْتَفِيضًا مُتَوَاتِرًا وَكَانَ لَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ وُرُودُهُ فِي وَزْنِ وُرُودِ إيجَابِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَفِي عَدَمِ النَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى نَفْيِ الْوُجُوبِ.
وَيُحْتَجُّ فِيهِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا وَهُوَ حَقٌّ فِي مَالٍ لَمَا اخْتَلَفَ حُكْمُ الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ فِيهِ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، فَلَمَا لَمْ يُوجِبْهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى الْمُسَافِرِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ.
وَيُحْتَجُّ فِيهِ أَيْضًا بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا وَهُوَ حَقٌّ فِي مَالٍ لَمَا أَسْقَطَهُ مُضِيُّ الْوَقْتِ، فَلَمَا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّهُ يَسْقُطُ بِمُضِيِّ أَيَّامِ النَّحْرِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ؛ إذْ كَانَتْ سَائِرُ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ فِي الْأَمْوَالِ نَحْوُ الزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْعُشْرِ وَنَحْوُهَا لَا يُسْقِطُهَا مُضِيُّ الْأَوْقَاتِ. اهـ.