فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {يا أيها الناس ضُرب مَثَل}.
قال الأخفش: إِن قيل: أين المَثَل؟
فالجواب: أنه ليس هاهنا مثَل، وإِنما المعنى: يا أيها الناس ضُرب لي مَثَل، أي: شبّهت بي الأوثان {فاستمعوا} لهذا المثل.
وتأويل الآية: جعل المشركون الأصنام شركائي فعبدوها معي فاستمِعوا حالها؛ ثم بيَّن ذلك بقوله: {إِن الذين تدْعُون} أي: تعبدون {من دون الله}، وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، وابن أبي عبلة: {يدعون} بالياء المفتوحة.
وقرأ ابن السميفع، وأبو رجاء، وعاصم الجحدري: {يُدْعون} بضم الياء وفتح العين، يعني: الأصنام، {لن يَخْلُقوا ذُبابًا} والذباب واحد، والجمع القليل: أذِبَّة، والكثير: الذّبّان، مثل: غُراب وأَغْرِبة وغِرْبان؛ وقيل: إِنما خص الذُّباب لمهانته واستقذاره وكثرته.
{ولو اجتمعوا} يعني: الأصنام {له} أي: لخَلْقِه، {وإِن يَسلبهم} يعني: الأصنام؛ قال ابن عباس: كانوا يطلون أصنامهم بالزعفران فيجفّ، فيأتي الذباب فيختلسه.
وقال ابن جريج: كانوا إِذا طيَّبوا أصنامهم عجنوا طيبهم بشيء من الحلواء، كالعسل ونحوه، فيقع عليها الذباب فيسلبها إِياه فلا تستطيع الآلهة ولا مَنْ عبَدها أن يمنعه ذلك.
وقال السدي: كانوا يجعلون للآلهة طعامًا، فيقع الذباب عليه فيأكل منه.
قال ثعلب: وإِنما قال: {لا يستنقذوه منه} فجعل أفعال الآلهة كأفعال الآدميين، إِذ كانوا يعظِّمونها ويذبحون لها وتُخاطَب، كقوله: {يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم} [النمل: 18] لمَا خاطبهم جعلهم كالآدميين، ومثله: {رأيتهم لي ساجدين} [يوسف: 4]، وقد بيَّنَّا هذا المعنى في [الأعراف: 191] عند قوله تعالى: {وهم يُخْلَقون}.
قوله تعالى: {ضَعُفَ الطالب والمطلوب} فيه ثلاثة أقوال.
أحدها: أن الطالب: الصنم، والمطلوب: الذباب. رواه عطاء عن ابن عباس.
والثاني: الطالب: الذباب يطلب ما يسلبُه من الطيِّب الذي على الصنم، والمطلوب: الصنم يطلب الذباب منه سَلْبَ ما عليه، روي عن ابن عباس أيضًا.
والثالث: الطالب: عابد الصنم يطلب التقرُّب بعبادته، والمطلوب: الصنم، هذا معنى قول الضحاك، والسدي.
قوله تعالى: {ما قَدَرُوا الله حق قدره} أي: ما عظّموه حق عظمته، إِذ جعلوا هذه الأصنام شركاء له {إِن الله لقويّ} لا يُقْهَر {عزيز} لا يُرَام. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {يا أيها الناس ضُرِبَ مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ}.
هذا متصل بقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا}.
وإنما قال: ضُرِب مَثَلٌ لأن حجج الله تعالى عليهم بضرب الأمثال أقربُ إلى أفهامهم.
فإن قيل: فأين المثل المضروب؛ ففيه وجهان: الأوّل: قال الأخفش: ليس ثَمّ مثل، وإنما المعنى ضربوا لي مثلًا فاستمعوا قولهم؛ يعني أن الكفار جعلوا لله مثلًا بعبادتهم غيره؛ فكأنه قال جعلوا لي شبيهًا في عبادتي فاستمعوا خبر هذا الشبه.
الثاني: قول القُتَبيّ: وأن المعنى يا أيها الناس، مَثَلُ من عبد آلهة لم تستطع أن تخلق ذبابًا وإن سلبها الذباب شيئًا لم تستطع أن تستنقذه منه.
وقال النحاس: المعنى ضرب الله عز وجل ما يُعبد من دونه مثلًا، قال: وهذا من أحسن ما قيل فيه؛ أي بيّن الله لكم شبهًا ولمعبودكم.
{إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} قراءة العامة {تدعون} بالتاء.
وقرأ السُّلَمِيّ وأبو العالِية ويعقوب {يدعون} بالياء على الخبر.
والمراد الأوثان الذين عبدوهم من دون الله، وكانت حول الكعبة، وهي ثلثمائة وستون صنمًا.
وقيل: السادة الذين صرفوهم عن طاعة الله عز وجل.
وقيل: الشياطين الذين حملوهم على معصية الله تعالى؛ والأوّل أصْوب.
{لَن يَخْلُقُواْ ذُبَابًا} الذباب اسم واحد للذكر والأنثى، والجمع القليل أذَّبة والكثير ذِبّان؛ على مثل غُراب وأغْربة وغِرْبان؛ وسُمِّي به لكثرة حركته.
الجوهري: والذباب معروف الواحدة ذُبابة، ولا تقل ذِبّانة.
والمِذَبّة ما يُذَبّ به الذباب.
وذُبَاب أسنان الإبل حَدّها.
وذُباب السيف طَرفه الذي يضرب به.
وذُباب العين إنسانها.
والذُّبَابة البقية من الدَّين.
وذَبّب النهار إذا لم يبق منه إلا بقية.
والتذبذب التحرك.
والذَّبْذَبة نَوْس الشيء المعلّقِ في الهواء.
والذَّبْذَب الذكر لتردّده.
وفي الحديث: «مَن وُقِيَ شَرّ ذَبْذَبِه» وهذا مما لم يذكره، أعني قوله: وفي الحديث.
{وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} الاستنقاذ والإنقاذ التخليص.
قال ابن عباس: كانوا يَطْلُون أصنامهم بالزّعفران فتجِفّ فيأتي فيختلسه.
وقال السُّدِّي: كانوا يجعلون للأصنام طعامًا فيقع عليه الذباب فيأكله.
{ضَعُفَ الطالب والمطلوب} قيل؛ الطالب الآلهة والمطلوب الذباب.
وقيل بالعكس.
وقيل: الطالب عابدُ الصنم والمطلوبُ الصنم؛ فالطالب يطلب إلى هذا الصنم بالتقرّب إليه، والصنم المطلوب إليه.
وقد قيل: {وإنْ يَسْلُبْهم الذّبابُ شيئًا} راجع إلى ألمه في قرص أبدانهم حتى يسلبهم الصبر لهم والوقار معها.
وخصّ الذباب لأربعة أمور تخصه: لمهانته وضعفه ولاستقذاره وكثرته؛ فإذا كان هذا الذي هو أضعف الحيوان وأحقره لا يقدر من عبدوه من دون الله عز وجل على خلق مثله ودفع أذيّته فكيف يجوز أن يكونوا آلهة معبودين وأربابًا مطاعين. وهذا من أقوى حجة وأوضح برهان.
قوله تعالى: {مَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} أي ما عظّموه حق عظمته؛ حيث جعلوا هذه الأصنام شركاء له. وقد مضى في الأنعام.
{إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} تقدّم. اهـ.

.قال أبو حيان:

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ}.
الذباب: الحيوان المعروف يجمع على ذباب بكسر الذال وضمها، وعلى ذبّ والمَذبَّة ما يطرد به الذباب، وذباب السيف طرفه والعين إنسانها، وأسنان الإبل.
سلبت الشيء: اختطفته بسرعة.
استنقذ: استفعل بمعنى أفعل أي أنقذ نحو أبل واستبل.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ}.
لما ذكر تعالى أن الكفار يعبدون ما لا دليل على عبادته لا من سمع ولا من عقل ويتركون عبادة من خلقهم، ذكر ما عليه معبوداتهم من انتفاء القدرة على خلق أقل الأشياء بل على ردّ ما أخذه ذلك الأقل منه، وفي ذلك تجهيل عظيم لهم حيث عبدوا من هذه صفته لقوله: {إن الذين تدعون} بتاء الخطاب.
وقيل: خطاب للمؤمنين أراد الله أن يبين لهم خطأ الكافرين فيكون {تدعون} خطابًا لغيرهم الكفار عابدي غير الله.
وقيل: الخطاب عام يشمل من نظر في أمر عبادة غير الله، فإنه يظهر له قبح ذلك.
و{ضُرب} مبني للمفعول، والظاهر أن ضارب المثل هو الله تعالى، ضرب مثلًا لما يعبد من دونه أي بين شبهًا لكم ولمعبودكم.
وقيل: ضارب المثل هم الكفار، جعلوا مثلًا لله تعالى أصنامهم وأوثانهم أي فاسمعوا أنتم أيها الناس لحال هذا المثل ونحوه ما قال الأخفش قال: ليس هاهنا {مثل} وإنما المعنى جعل الكفار لله مثلًا.
وقيل: هو {مثل} من حيث المعنى لأنه {ضرب مثل} من يعبد الأصنام بمن يعبد ما لا يخلق ذبابًا.
وقال الزمخشري: فإن قلت: الذي جاء به ليس بمثل فكيف سماه مثلًا؟ قلت: قد سميت الصفة أو القصة الرائقة المتلقاة بالاستحسان والاستغراب مثلًا تشبيهًا لها ببعض الأمثال المسيرة لكونها مستحسنة مستغربة عندهم انتهى.
وقرأ الجمهور {تدعون} بالتاء، وقرأ الحسن ويعقوب وهارون والخفاف ومحبوب عن أبي عمرو بالياء وكلاهما مبني للفاعل، وقرأ اليماني وموسى الأسواري بالياء من أسفل مبنيًّا للمفعول، وقال الزمخشري {لن} أخت لا في نفي المستقبل إلاّ أن تنفيه نفيًّا مؤكدًا، وتأكيده هنا الدلالة على أن خلق الذباب منهم مستحيل مناف لأحوالهم كأنه قال: محال أن يخلقوا انتهى.
وهذا القول الذي قاله في {لن} هو المنقول عنه أن {لن} للنفي على التأييد، ألا تراه فسر ذلك بالاستحالة وغيره من النحاة يجعل {لن} مثل لا في النفي ألا ترى إلى قوله: {أفمن يخلق كمن لا يخلق} كيف جاء النفي بلا وهو الصحيح، والاستدلال عليه مذكور في النحو.
وبدأ تعالى بنفي اختراعهم وخلقهم أقل المخلوقات من حيث إنّ الاختراع صفة له تعالى ثابتة مختصة لا يشركه فيها أحد، وثنى بالأمر الذي بلغ بهم غاية التعجيز وهو أمر سلب {الذباب} وعدم استنقاذ شيء مما {يسلبهم} وكان الذباب كثيرًا عند العرب، وكانوا يضمخون أوثانهم بأنواع الطيب فكان الذباب يذهب بذلك.
وعن ابن عباس: كانوا يطلونها بالزعفران ورؤوسها بالعسل ويغلقون عليها فيدخل الذباب من الكوى فيأكله.
وموضع {ولو اجتمعوا له} قال الزمخشري: نصب على الحال كأنه قال مستحيل: أن يخلقوا الذباب مشروطًا عليهم اجتماعهم جميعًا لخلقه، وتعاونهم عليه انتهى.
وتقدم لنا الكلام على نظير {ولو} هذه، وتقرر أن الواو فيه للعطف على حال محذوفة، كأنه قيل {لن يخلقوا ذبابًا} على كل حال ولو في هذه الحال التي كانت تقتضي أن يخلقوا لأجل اجتماعهم، ولَكِنه ليس في مقدورهم ذلك.
{ضعف الطالب والمطلوب} قال ابن عباس: الصنم والذباب، أي ينبغي أن يكون الصنم طالبًا لما سلب من طيبهم على معهود الأنفة في الحيوان.
وقيل {المطلوب} الآلهة و{الطالب} الذباب فضعف الآلهة أن لا منعة لهم، وضعف الذباب في استلابه ما على الآلهة.
وقال الضحاك: العابد والمعبود فضعف العابد في طلبهم الخير من غير جهته، وضعف المعبود في إيصال ذلك لعابده.
وقال الزمخشري: وقوله: {ضعف الطالب والمطلوب} كالتسوية بينهم وبين الذباب في الضعف، ولو حققت وجدت الطالب أضعف وأضعف لأن الذباب حيوان وهو جماد وهو غالب، وذاك مغلوب والظاهر أنه إخبار بضعف الطالب والمطلوب. وقيل: معناه التعجب أي ما أضعف الطالب والمطلوب.
{ما قدروا الله حق قدره} أي ما عرفوه حق معرفته حيث عبدوا من هو منسلخ عن صفاته وسموه باسمه، ولم يؤهلوا خالقهم للعبادة ثم ختم بصفتين منافيتين لصفات آلهتهم من القوة والغلبة. اهـ.

.قال أبو السعود:

{يا أَيُّهَا الناس ضُرِبَ مَثَلٌ} أي بُيِّن لكم حالٌ مستغربةٌ أو قصَّةٌ بديعةٌ رائعةٌ حقيقةٌ بأنْ تُسمَّى مثلًا وتسيرَ في الأمصارِ والأعصارِ أو جُعل لله مثلٌ أي مثل في استحقاقِ العبادةِ وأُريد بذلك ما حُكي عنهم من عبادتِهم للأصنامِ {فاستمعوا لَهُ} أي للمثلِ نفسِه استماعَ تدبر وتفكُّرٍ أو فاستمعُوا لأجلِه ما أقولُ فقوله تعالى: {إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} الخ، بيانٌ للمثل وتفسيرٌ له على الأوَّلِ وتعليلٌ لبطلان جعلهم الأصنامَ مثلَ الله سبحانه في استحقاق العبادةِ على الثَّاني وقرئ بياء الغَيبةِ مبنيًّا للفاعلِ ومبنيًّا للمفعولِ والرَّاجع إلى الموصولِ على الأولين محذوفٌ {لَن يَخْلُقُواْ ذُبَابًا} أي لن يقدروا على خلقه أبدًا مع صغره وحقارتِه فإنَّ لن بما فيها من تأكيد النَّفيِ دالَّةٌ على مُنافاة ما بين المنفيِّ والمنفيِّ عنه {وَلَوِ اجتمعوا لَهُ} أي لخلقه وجواب لو محذوفٌ لدلالة ما قبله عليه والجملةُ معطوفةٌ على شرطيةٍ أُخرى محذوفةٍ ثقةً بدلالة هذه عليها أي لو لم يجتمعوا عليه لن يخلقُوه ولو اجتمعُوا له لن يخلقُوه كما مرَّ تحقيقُه مرارًا وهما في موضع الحالِ كأنَّه قيل: لن يخلقُوا ذُبابًا على كلِّ حالٍ {وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئًا} بيان لعجزهم عن الامتناع عمَا يفعل بهم الذُّبابُ بعد بيانِ عجزِهم عن خلقِه أي إنْ يأخذِ الذُّبابُ منهم شيئًا {لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} مع غايةِ ضعفِه ولقد جُهلوا غايةَ التَّجهيلِ في إشراكِهم بالله القادرِ على جميع المقدوراتِ المتفرِّدِ بإيجاد كافةِ الموجوداتِ تماثيلَ هي أعجزُ الأشياءِ وبين ذلك بأنَّها لا تقدرُ على أقل الأحياءِ وأذلِها ولو اتَّفقُوا عليه بل لا تقوى على مقاومةِ هذا الأقلِ الأذلِّ وتعجز عن ذبِّه عن نفسِها واستنقاذِ ما يختطفُه منها.
قيل: كانُوا يطيِّبونها بالطِّيبِ والعسلِ ويُغلقون عليها الأبوابَ فيدخل الذُّبابُ من الكُوى فيأكلُه {ضَعُفَ الطالب والمطلوب} أي عابدُ الصَّنمِ ومعبودُه أو الذُّبابُ الطَّالبُ لما يسلبُه من الصَّنمِ من الطِّيبِ والصَّنمُ المطلوبُ منه ذلك أو الصَّنمُ والذُّبابُ كأنَّه يطلبه ليستنقذَ منه ما يسلبه ولو حقَّقتَ وجدتَ الصَّنمَ أضعفَ من الذُّبابِ بدرجاتٍ وعابدَه أجهلَ من كلِّ جاهلٍ وأضلَّ من كلِّ ضالَ.
{مَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} أي ما عرفُوه حقَّ معرفتِه حيث أشركُوا به وسمَّوا باسمه ما هو أبعدُ الأشياءِ عنه مناسبةً {إِنَّ الله لَقَوِىٌّ} على خلق الممكناتِ بأسرها وإفناءِ الموجوداتِ عن آخرها {عَزِيزٌ} غالبٌ على جميع الأشياءِ وقد عرفتَ حالَ آلهتِهم المقهورةِ لأذلها العجزة عن أقلها والجملةُ تعليلٌ لما قبلها من نفيِ معرفتهم له تعالى. اهـ.