فصل: قال الجصاص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أما قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فقيل معناه لتفلحوا، والفلاح الظفر بنعيم الآخرة، وقال الإمام أبو القاسم الأنصاري لعل كلمة للترجية فإن الإنسان قلما يخلو في أداء الفريضة من تقصير وليس هو على يقين من أن الذي أتي به هل هو مقبول عند الله تعالى والعواقب أيضًا مستورة «وكل ميسر لما خلق له» الرابع: قوله تعالى: {وجاهدوا في الله حَقَّ جهاده} قال صاحب الكشاف {في الله} أي في ذات الله، ومن أجله. يقال هو حق عالم وجد عالم أي عالم حقًّا وجدًّا ومنه {حَقَّ جهاده}.
وهاهنا سؤالات:
السؤال الأول: ما وجه هذه الإضافة وكان القياس حق الجهاد فيه أو حق جهادكم فيه كما قال: {وجاهدوا في الله حَقَّ جهاده}؟ والجواب: الإضافة تكون بأدنى ملابسة واختصاص، فلما كان الجهاد مختصًا بالله من حيث إنه مفعول لوجهه ومن أجله صحت الإضافة إليه.
السؤال الثاني: ما هذا الجهاد؟ الجواب: فيه وجوه: أحدها: أن المراد قتال الكفار خاصة، ومعنى {حَقَّ جهاده} أن لا يفعل إلا عبادة لا رغبة في الدنيا من حيث الاسم أو الغنيمة والثاني: أن يجاهدوا آخرًا كما جاهدوا أولًا فقد كان جهادهم في الأول أقوى وكانوا فيه أثبت نحو صنعهم يوم بدر، روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لعبد الرحمن بن عوف: أما علمت أنا كنا نقرأ {وجاهدوا في الله حَقَّ جهاده} في آخر الزمان كما جاهدتموه في أوله، فقال عبد الرحمن ومتى ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال إذا كانت بنو أمية الأمراء وبنو المغيرة الوزراء، واعلم أنه يبعد أن تكون هذه الزيادة من القرآن وإلا لنقل كنقل نظائره، ولعله إن صح ذلك عن الرسول فإنما قاله كالتفسير للآية، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ: وجاهدوا في الله حق جهاده كما جاهدتم أول مرة.
فقال عمر من الذي أمرنا بجهاده؟ فقال قبيلتان من قريش مخزوم وعبد شمس، فقال صدقت والثالث: قال ابن عباس: حق جهاده، لا تخافوا في الله لومة لائم والرابع: قال الضحاك: واعملوا لله حق عمله والخامس: استفرغوا وسعكم في إحياء دين الله وإقامة حقوقه بالحرب باليد واللسان وجميع ما يمكن وردوا أنفسكم عن الهوى والميل والوجه السادس: قال عبد الله ابن المبارك: حق جهاده، مجاهدة النفس والهوى.
ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك قال: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» والأولى أن يحمل ذلك على كل التكاليف، فكل ما أمر به ونهى عنه فالمحافظة عليه جهاد.
السؤال الثالث: هل يصح ما نقل عن مقاتل والكلبي أن هذه الآية منسوخة بقوله: {فاتقوا الله مَا استطعتم} [التغابن: 16] كما أن قوله: {اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] منسوخ بذلك؟ الجواب: هذا بعيد لأن التكليف مشروط بالقدرة لقوله تعالى: {لاَ يُكَلّفُ الِلَّهِ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] فكيف يقول الله وجاهدوا في الله على وجه لا تقدرون عليه، وكيف وقد كان الجهاد في الأول مضيقًا حتى لا يصح أن يفر الواحد من عشرة، ثم خففه الله بقوله: {الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ} [الأنفال: 66] أفيجوز مع ذلك أن يوجبه على وجه لا يطاق حتى يقال إنه منسوخ.
النوع الثالث: بيان ما يوجب قبول هذه الأوامر وهو ثلاثة: الأول: قوله: {هُوَ اجتباكم} ومعناه أن التكليف تشريف من الله تعالى للعبد، فلما خصكم بهذا التشريف فقد خصكم بأعظم التشريفات واختاركم لخدمته والاشتغال بطاعته، فأي رتبة أعلى من هذا، وأي سعادة فوق هذا، ويحتمل في اجتباكم خصكم بالهداية والمعونة والتيسير.
أما قوله تعالى: {وما جَعَلَ عَلَيْكمْ في الدين مِنْ حَرَجٍ} فهو كالجواب عن سؤال يذكر وهو أن التكليف وإن كان تشريفًا واجبًا كما ذكرتم لَكِنه شاق شديد على النفس؟ فأجاب الله تعالى عنه بقوله: {وما جَعَلَ عَلَيْكمْ في الدين مِنْ حَرَجٍ} روي أن أبا هريرة رضي الله عنه قال كيف قال الله تعالى: {وما جَعَلَ عَلَيْكمْ في الدين مِنْ حَرَجٍ} مع أنه منعنا عن الزنا والسرقة؟ فقال ابن عباس رضي الله عنهما: بلى ولَكِن الإصر الذي كان علي بني إسرائيل وضع عنكم.
وهاهنا سؤالات:
السؤال الأول: ما الحرج في أصل اللغة؟
الجواب: روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لبعض هذيل ما تعدون الحرج فيكم؟ قال الضيق، وعن عائشة رضي الله عنها: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال الضيق»
السؤال الثاني: ما المراد من الحرج في الآية؟
الجواب: قيل هو الإتيان بالرخص، فمن لم يستطع أن يصلي قائمًا فليصل جالسًا ومن لم يستطع ذلك فليؤم، وأباح للصائح الفطر في السفر والقصر فيه.
وأيضًا فإنه سبحانه لم يبتل عبده بشيء من الذنوب إلا وجعل له مخرجًا منها إما بالتوبة أو بالكفارة، وعن ابن عمر رضي الله عنهما: «أنه من جاءته رخصة فرغب عنها كلف يوم القيامة أن يحمل ثقل تنين حتى يقضي بين الناس» وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا اجتمع أمران فأحبهما إلى الله تعالى أيسرهما» وعن كعب: أعطى الله هذه الأمة ثلاثًا لم يعطهم إلا للأنبياء: «جعلهم شهداء على الناس، وما جعل عليهم في الدين من حرج، وقال أدعوني أستجب لكم».
السؤال الثالث: استدلت المعتزلة بهذه الآية في المنع من تكليف مالا يطاق، فقالوا: لما خلق الله الكفر والمعصية في الكافر والعاصي ثم نهاه عنهما كان ذلك من أعظم الحرج وذلك منفي بصريح هذا النص والجواب: لما أمره بترك الكفر وترك الكفر يقتضي انقلاب علمه جهلًا فقد أمر الله المكلف بقلب علم الله جهلًا وذلك من أعظم الحرج، ولما استوى القدمان زال السؤال.
الموجب الثاني: لقبول التكليف قوله: {مّلَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم هُوَ سماكم المسلمين مِن قَبْلُ} وفي نصب الملة وجهان: أحدهما: وهو قول الفراء أنها منصوبة بمضمون ما تقدمها كأنه قيل وسع دينكم توسعة ملة أبيكم إبراهيم، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه والثاني: أن يكون منصوبًا على المدح والتعظيم أي أعني بالدين ملة أبيكم إبراهيم، واعلم أن المقصود من ذكره التنبيه على أن هذه التكاليف والشرائع هي شريعة إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
والعرب كانوا محبين لإبراهيم عليه السلام لأنهم من أولاده، فكان التنبيه على ذلك كالسبب لصيروتهم منقادين لقبول هذا الدين.
وهاهنا سؤالات:
السؤال الأول: لم قال: {مّلَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم} ولم يدخل في الخطاب المؤمنون الذين كانوا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يكن من ولده؟
والجواب: من وجهين:
أحدهما: لما كان أكثرهم من ولده كالرسول ورهطه وجميع العرب جاز ذلك وثانيهما: وهو قول الحسن أن الله تعالى جعل حرمة إبراهيم عليه السلام على المسلمين كحرمة الوالد على ولده، ومنه قوله تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] فجعل حرمته كحرمة الوالد على الولد، وحرمة نسائه كحرمة الوالدة على ما قال تعالى: {وأزواجه أمهاتهم} [الأحزاب: 6].
السؤال الثاني: هذا يقتضي أن تكون ملة محمد كملة إبراهيم عليهما السلام سواء، فيكون الرسول ليس له شرع مخصوص ويؤكده قوله تعالى: {أَنِ اتبع مِلَّةَ إبراهيم} [النحل: 123]،
الجواب: هذا الكلام إنما وقع مع عبدة الأوثان، فكأنه تعالى قال: عبادة الله وترك الأوثان هي ملة إبراهيم فأما تفاصيل الشرائع فلا تعلق لها بهذا الموضع.
السؤال الثالث: ما معنى قوله تعالى: {هُوَ سماكم المسلمين مِن قَبْلُ}؟
الجواب: فيه قولان: أحدهما: أن الَكِناية راجعة إلى إبراهيم عليه السلام، فإن لكل نبي دعوة مستجابة وهو قول إبراهيم عليه الصلاة وسلم: {رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} [البقرة: 128] فاستجاب الله تعالى له فجعلها أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وروي أنه عليه الصلاة والسلام أخبر بأن الله تعالى سيبعث محمدًا بمثل ملته وأنه ستسمى أمته بالمسلمين والثاني: أن الَكِناية راجعة إلى الله تعالى في قوله: {هُوَ اجتباكم} فروى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن الله سماكم المسلمين من قبل أي في كل الكتب، وفي هذا أي في القرآن.
وهذا الوجه أقرب لأنه تعالى قال: {لِيَكُونَ الرسول شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شهداء عَلَى الناس} فبين أنه سماهم بذلك لهذا الغرض وهذا لا يليق إلا بالله، ويدل عليه أيضًا قراءة أبي بن كعب {الله سماكم} والمعنى أنه سبحانه في سائر الكتب المتقدمة على القران، وفي القرآن أيضًا بين فضلكم على الأمم وسماكم بهذا الاسم الأكرم، لأجل الشهادة المذكورة. فلما خصكم الله بهذه الكرامة فاعبدوه ولا تردوا تكاليفه.
وهذا هو العلة الثالثة: الموجبة لقبول التكليف، وأما الكلام في أنه كيف يكون الرسول شهيدًا علينا، وكيف تكون أمته شهداء على الناس؟ فقد تقدم في سورة البقرة، وبينا أنه أخذ منه ما يدل على أن الإجماع حجة.
قال الشيخ: أكثر الناس يقولون: الضمير يعود على إبراهيم- عليه السلام- والصواب أنه يعود على الله- تعالى- لأن الله تعالى قال في أول الآية: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} وقال: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ} ولأن الإسلام موجود قبل إبراهيم- عليه السلام- قال تعالى على لسان نوح- عليه السلام- في سورة يونس {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72)}.
ثم قال الشيخ: بلغ عنى هذا الكلام، وكان المجلس من المجالس النادرة في حياتى.
النوع الرابع: شرح ما يجري مجرى المؤكد لما مضى، وهو قوله: {فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} ويجب صرفها إلى المفروضات لأنها هي المعهودة {واعتصموا بالله} أي بدلائله العقلية والسمعية وألطافه وعصمته، قال ابن عباس: سلوا الله العصمة عن كل المحرمات وقال القفال: اجعلوا الله عصمة لكم مما تحذرون هو مولاكم وسيدكم المتصرف فيكم فنم المولى ونعم البصير، فكأنه سبحانه قال أنا مولاك بل أنا ناصرك وحسبك، واعلم أن المعتزلة احتجوا بهذه الآيات من وجوه: أحدها: أن قوله: {لّتَكُونُواْ شهداء عَلَى الناس} يدل على أنه سبحانه أراد الإيمان من الكل، لأنه تعالى لا يجعل الشهيد على عباده إلا من كان عدلًا مرضيًّا، فإذا أراد أن تكونوا شهداء على الناس فقد أراد تكونوا جميعًا صالحين عدولًا، وقد علمنا أن منهم فاسقًا، فدل ذلك على أن الله تعالى أراد من الفسق كونه عدلًا وثانيها: قوله: {واعتصموا بالله} وكيف يمكن الاعتصام به مع أن الشر لا يوجد إلا منه؟ وثالثها: قوله: {فَنِعْمَ المولى} لأنه لو كان كما يقوله أهل السنة من أنه خلق أكثر عباده ليخلق فيهم الكفر والفساد ثم يعذبهم لما كان نعم المولى، بل كان لا يوجد من شرار الموالي أحد إلا وهو شر منه.
فكان يجب أن يوصف بأنه بئس المولى وذلك باطل فدل على أنه سبحانه ما أراد من جميعهم إلا الصلاح.
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون نعم المولى للمؤمنين خاصة كما أنه نعم النصير لهم خاصة؟ قلنا إنه تعالى مولى المؤمنين والكافرين جميعًا فيجب أن يقال إنه نعم المولى للمؤمنين وبئس المولى للكافرين.
فإن ارتكبوا ذلك فقد ردوا القران والإجماع وصرحوا بشتم الله تعالى، ورابعها: أن قوله: {سماكم المسلمين مِن قَبْلُ} يدل على إثبات الأسماء الشرعية وأنها من قبل الله تعالى لأنها لو كانت لغة لما أضيفت إلى الله تعالى على وجه الخصوص.
والجواب: عن الأول وهو قوله كونه تعالى مريدًا لكونه شاهدًا يستلزم كونه مريدًا لكونه عدلًا، فنقول: إن كانت أرادة الشيء مستلزمة لأرادة لوازمه فأرادة الإيمان من الكافر توجب أن تكون مستلزمة لأرادة جهل الله تعالى فيلزم كونه تعالى مريدًا لجهل نفسه. وإن لم يكن ذلك واجبًا سقط الكلام.
وأما قوله: {واعتصموا بالله} فيقال هذا أيضًا وارد عليكم فإنه سبحانه خلق الشهوة في قلب الفاسق وأكدها وخلق المشتهي وقربه منه ورفع المانع ثم سلط عليه الشياطين من الإنس والجن وعلم أنه لا محالة يقع في الفجور والضلال، وفي الشاهد كل من فعل ذلك فإنه يكون بئس المولى، فإن صح قياس الغائب على الشاهد فهذا لازم عليكم وإن بطل سقط كلامكم بالكلية. اهـ.

.قال الجصاص:

قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} إلَى قوله: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم} قيلَ: مَعْنَاهُ جَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ وَاتَّبِعُوا مِلَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم، وَلِذَلِكَ نُصِبَ.
قال بَعْضُهُمْ: نُصِبَ؛ لِأَنَّهُ أراد كَمِلَّةِ أَبِيكُمْ، إلَّا أَنَّهُ لَمَا حُذِفَ الْجَارُّ اتَّصَلَ الِاسْمُ بِالْفِعْلِ فَنُصِبَ.
قال أَبُو بَكْرٍ: وَفِي هَذِهِ الآية دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ عَلَيْنَا اتِّبَاعَ شَرِيعَةِ إبراهيم إلَّا مَا ثَبَتَ نَسْخُهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم وَقِيلَ: إنَّهُ إنَّمَا قال مِلَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم؛ لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي مِلَّةِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُ كَمِلَّةِ أَبِيكُمْ إبراهيم، فَإِنَّهُ يَعْنِي أَنَّ الْجِهَادَ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ كَمِلَّةِ أَبِيكُمْ إبراهيم عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ لِأَنَّهُ جَاهَدَ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ.
قال ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ}: جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: لَا تَخَافُوا فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَهُوَ الْجِهَادُ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ.
وَقال الضَّحَّاكُ: يَعْنِي اعْمَلُوا بِالْحَقِّ لِلَّهِ عز وجل.
قوله تعالى: {وما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} قال ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ ضِيقٍ.
وَكَذَلِكَ قال مُجَاهِدٌ.
وَيُحْتَجُّ بِهِ فِي كُلِّ مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَوَادِثِ أَنَّ مَا أَدَّى إلَى الضِّيقِ فَهُوَ مَنْفِيٌّ وما أَوْجَبَ التَّوْسِعَةَ فَهُوَ أَوْلَى، وَقَدْ قِيلَ: {وما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} أَنَّهُ مِنْ ضِيقٍ لَا مَخْرَجَ مِنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مِنْهُ مَا يُتَخَلَّصُ مِنْهُ بِالتَّوْبَةِ وَمِنْهُ مَا تُرَدُّ بِهِ الْمَظْلِمَةُ، فَلَيْسَ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ مَا لَا سَبِيلَ إلَى الْخَلَاصِ مِنْ عُقُوبَتِهِ.
وَقوله: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم} الْخِطَابُ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ كُلُّهُمْ رَاجِعًا بِنَسَبِهِ إلَى أَوْلَادِ إبراهيم، فَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ أراد أَنَّ حُرْمَةَ إبراهيم عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَحُرْمَةِ الْوَالِدِ عَلَى الْوَلَدِ كَمَا قال تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} وَفِي بَعْضِ القراءات: وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ.
قوله تعالى: {هُوَ سَمَاكُمْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} قال ابْنُ عَبَّاسٍ وَمجاهد: يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ سَمَاكُمْ الْمُسْلِمِينَ.
وَقِيلَ: إنَّ إبراهيم سَمَاكُمْ الْمُسْلِمِينَ لِقوله تعالى حَاكِيًّا عَنْ إبراهيم: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَك} وقوله تعالى: {مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا} قال مجاهد: مِنْ قبل القرآن وَفي القرآن.
وقوله تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ عُدُولٌ مَرْضِيُّونَ، وَفِي ذَلِكَ بُطْلَانُ طَعْنِ الطَّاعِنِينَ عَلَيْهِمْ؛ إذْ كَانَ اللَّهُ لَا يَجْتَبِي إلَّا أَهْلَ طَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِ مَرْضَاتِهِ، وَفِي ذَلِكَ مَدْحٌ لِلصَّحَابَةِ الْمُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ وَدَلِيلٌ عَلَى طَهَارَتِهِمْ.
قوله تعالى: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شهداء عَلَى النَّاسِ} فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ إجْمَاعِهِمْ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ: لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ بِطَاعَةِ مَنْ أَطَاعَ فِي تَبْلِيغِهِ وَعِصْيَانِ مَنْ عَصَى وَتَكُونُوا شهداء عَلَى النَّاسِ بِأَعْمَالِهِمْ فِيمَا بَلَّغْتُمُوهُمْ مِنْ كِتَابِ رَبِّهِمْ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ، وَهَذِهِ الآية نَظِيرُ قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شهداء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} فَبَدَأَ بِمَدْحِهِمْ وَوَصْفِهِمْ بِالْعَدَالَةِ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ شهداء وَحُجَّةٌ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ، كَمَا قال هُنَا: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} إلَى قوله: {وَتَكُونُوا شهداء عَلَى النَّاسِ} قوله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} رُبَّمَا يَحْتَجُّ بِهِ الْمُحْتَجُّ فِي إيجَابِ قُرْبَةٍ مُخْتَلَفٍ فِي وُجُوبِهَا، وَهذا عِنْدَنَا لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فِي إيجَابِ شَيْءٍ وَلَا يَصِحُّ اعْتِقَادُ الْعُمُومِ فِيهِ. اهـ.