فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ اركعوا واسجدوا}.
تقدّم في أوّل السورة أنها فضلت بسجدتين، وهذه السجدة الثانية لم يرها مالك وأبو حنيفة من العزائم؛ لأنه قرن الركوع بالسجود، وأن المراد بها الصلاةُ المفروضة؛ وخصّ الركوع والسجود تشريفًا للصلاة.
وقد مضى القول في الركوع والسجود مبيَّنًا في البقرة والحمد الله وحده.
قوله تعالى: {وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ} أي امتثلوا أمره.
{وافعلوا الخير} نَدْب فيما عدا الواجبات التي صح وجوبها من غير هذا الموضع.
قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ}.
قيل: عنى به جهاد الكفار.
وقيل: هو إشارة إلى امتثال جميع ما أمر الله به، والانتهاء عن كل ما نهى الله عنه؛ أي جاهدوا أنفسكم في طاعة الله وردّها عن الهوى، وجاهدوا الشيطان في ردّ وسوسته، والظَّلمةَ في رد ظلمهم، والكافرين في ردّ كفرهم.
قال ابن عطية: وقال مقاتل وهذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {فاتقوا الله مَا استطعتم} [التغابن: 16].
وكذا قال هبة الله: إن قوله: {حَقَّ جِهاده} وقوله في الآية الأخرى: {حَقَّ تُقاتِهِ} منسوخ بالتخفيف إلى الاستطاعة في هذه الأوامر.
ولا حاجة إلى تقدير النسخ؛ فإن هذا هو المراد من أوّل الحكم؛ لأن {حق جهاده} ما ارتفع عنه الحرج.
وقد روى سعيد بن المسيّب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيرُ دينكم أيْسَرُه» وقال أبو جعفر النحاس.
وهذا مما لا يجوز أن يقع فيه نسخ؛ لأنه واجب على الإنسان، كما روى حَيْوَة بن شُريح يرفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «المجاهد من جاهد نفسه لله عز وجل» وكما روى أبو غالب عن أبي أمامة: أن رجلًا سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم: أيّ الجهاد أفضل؟ عند الجمرة الأولى فلم يجبه، ثم سأله عند الجمرة الثانية فلم يجبه، ثم سأله عند جمرة العقبة؛ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أين السائل؟ فقال أنا ذا، فقال عليه السلام: كلمةُ عَدْل عند سلطان جائر».
قوله تعالى: {هُوَ اجتباكم} أي اختاركم للذبّ عن دينه والتزام أمره؛ وهذا تأكيد للأمر بالمجاهدة، أي وجب عليكم أن تجاهدوا لأن الله اختاركم له.
قوله تعالى: {وما جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ} فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {مِنْ حَرَجٍ} أي من ضِيق. وقد تقدّم في الأنعام.
وهذه الآية تدخل في كثير من الأحكام؛ وهي مما خص الله بها هذه الأمة.
روى معمر عن قتادة قال: أعطِيتْ هذه الأمة ثلاثًا لم يُعْطَها إلا نبيّ: كان يقال للنبيّ اذهب فلا حرج عليك، وقيل لهذه الأمة: {وما جعل عليكم في الدِّين من حرج}.
والنبيّ شهيد على أمته، وقيل لهذه الأمة: {لتكونوا شهداء على الناس}.
ويقال للنبيّ: سلْ تُعْطَه، وقيل لهذه الأمة: {ادعوني أستجِبْ لكم}.
الثانية: واختلف العلماء في هذا الحَرَج الذي رفعه الله تعالى؛ فقال عكرمة: هو ما أحِلّ من النساء مَثْنَى وثلاثَ ورُباع، وما ملكتْ يَمينك.
وقيل: المراد قصر الصلاة، والإفطارُ للمسافِر، وصلاةُ الإيماء لمن لا يقدر على غيره، وحَطُّ الجهاد عن الأعمى والأعرج والمريض والعَدِيم الذي لا يجد ما ينفق في غَزْوه، والغَرِيم ومن له والدان، وحَطّ الإصْر الذي كان علي بني إسرائيل. وقد مضى تفصيل أكثر هذه الأشياء.
وروي عن ابن عباس والحسن البصري أن هذه في تقديم الأهِلّة وتأخيرها في الفطر والأضحى والصوم؛ فإذا أخطأت الجماعة هلال ذي الحجة فوقفوا قبل يوم عرفة بيوم أو وقفوا يوم النحر أجزأهم، على خلاف فيه بيناه في كتاب المقتبس في شرح موطأ مالك بن أنس رضي الله عنه.
وما ذكرناه هو الصحيح في الباب.
وكذلك الفطر والأضحى؛ لما رواه حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن المُنْكَدِر عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فِطركم يوم تُفْطِرون وأضحاكم يوم تضحون» خرجه أبو داود والدَّارَقُطْنِيّ، ولفظه ما ذكرناه. والمعنى: باجتهادكم من غير حرج يلحقكم.
وقد روى الأئمة أنه عليه السلام سئل يوم النحر عن أشياء، فما يُسأل عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم الأمور بعضها قبل بعض وأشباهها إلا قال فيها: «افعل ولا حرج».
الثالثة: قال العلماء: رفع الحَرَج إنما هو لمن استقام على منهاج الشرع، وأما السلاّبة والسُّرّاق وأصحاب الحدود فعليهم الحرج، وهم جاعلوه على أنفسهم بمفارقتهم الدّين، وليس في الشرع أعظم حرجًا من إلزام ثبوت رجل لاثنين في سبيل الله تعالى؛ ومع صحة اليقين وجودة العزم ليس بحرج.
قوله تعالى: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ} قال الزجاج: المعنى اتبعوا ملة أبيكم.
الفرّاء: انتصب على تقدير حذف الكاف؛ كأنه قال كمِلّة.
وقيل: المعنى وافعلوا الخير فعل أبيكم، فأقام الفعل مقام الملة.
وإبراهيم هو أبو العرب قاطبة.
وقيل: الخطاب لجميع المسلمين، وإن لم يكن الكل من ولده؛ لأن حرمة إبراهيم على المسلمين كحرمة الوالد على الولد.
{هُوَ سَمَاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ} قال ابن زيد والحسن: {هو} راجع إلى إبراهيم؛ والمعنى: هو سماكم المسلمين من قبل النبيّ صلى الله عليه وسلم.
{وَفِي هذا} أي وفي حكمه أن من اتبع محمدًا صلى الله عليه وسلم فهو مسلم.
قال ابن زيد: وهو معنى قوله: {رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} [البقرة: 128].
قال النحاس: وهذا القول مخالف لقول عظماء الأمة.
روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: سماكم الله عز وجل المسلمين من قبلُ، أي في الكتب المتقدمة وفي هذا القرآن؛ قاله مجاهد وغيره.
{لِيَكُونَ الرسول شَهِيدًا عَلَيْكُمْ} أي بتبليغه إياكم.
{وَتَكُونُواْ شهداء عَلَى الناس} أن رسلهم قد بلّغتهم؛ كما تقدّم في البقرة.
{فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة واعتصموا بالله هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير} قد تقدم مستوفًى والحمد لله رب العالمين. اهـ.

.قال أبو حيان:

ولما ذكر تعالى أنه اصطفى رسلًا من البشر إلى الخلق أمرهم بإقامة ما جاءت به الرسل من التكاليف وهو الصلاة قيل: كان الناس أول ما أسلموا يسجدون بلا ركوع ويركعون بلا سجود، فأمروا أن تكون صلاتهم بكوع وسجود واتفقوا على مشروعية السجود في آخر آية: {ألم تر أن الله يسجد له} وأما في هذه الآية فمذهب مالك وأبي حنيفة أنه لا يسجد فيها، ومذهب الشافعي وأحمد أنه يسجد فيها وبه قال عمر وابنه عبد الله وعثمان وأبو الدرداء وأبو موسى وابن عباس {واعبدوا ربكم} أي افردوه بالعبادة {وافعلوا الخير} قال ابن عباس: صلة الأرحام ومكارم الأخلاق، ويظهر في هذا الترتيب أنهم أمروا أولًا بالصلاة وهي نوع من العبادة، وثانيًّا بالعبادة وهي نوع من فعل الخير، وثالثًا بفعل الخير وهو أعم من العبادة فبدأ بخاص ثم بعام ثم بأعم.
{وجاهدوا في الله} أمر بالجهاد في دين الله وإعزاز كلمته يشمل جهاد الكفار والمبتدعة وجهاد النفس.
وقيل: أمر بجهاد الكفار خاصة {حق جهاده} أي استفرغوا جهدكم وطاقتكم في ذلك، وأضاف الجهاد إليه تعالى لما كان مختصًا بالله من حيث هو مفعول لوجهه ومن أجله، فالإضافة تكون بأدنى ملابسة.
قال الزمخشري: ويجوز أن يتسع في الظرف كقوله:
ويوم شهدناه سليمًا وعامرًا

انتهى.
يعني بالظرف الجار والمجرور، كأنه كان الأصل حق جهاد فيه فاتسع بأن حذف حرف الجر وأضيف جهاد إلى الضمير.
و{حق جهاده} من باب هو حق عالم وجد عالم أي عالم حقًّا وعالم جدًّا.
وعن مجاهد والكلبي أنه منسوخ بقوله: {فاتقوا الله ما استطعتم} {هو اجتباكم} أي اختاركم لتحمل تكليفاته وفي قوله: {هو} تفخيم واختصاص، أي هو لا غيره.
{من حرج} من تضييق بل هي حنيفية سمحة ليس فيها تشديد بني إسرائيل بل شرع فيها التوبة والكفارات والرخص.
وانتصب {ملة أبيكم} بفعل محذوف، وقدره ابن عطية جعلها {ملة} وقال الزمخشري: نصب الملة بمضمون ما تقدّمها كأنه قيل وسع دينكم توسعة ملة أبيكم، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه أو على الاختصاص أي أعني بالدين {ملة أبيكم} كقوله: الحمد لله الحميد، وقال الحوفي وأبو البقاء: اتبعوا ملة إبراهيم.
وقال الفراء: هو نصب على تقدير حذف الكاف، كأنه قيل كلمة {أبيكم} بالإضافة إلى أبيه الرسول، وأمة الرسول في حكم أولاده فصار أبًا لأمته بهذه الوساطة.
وقيل: لما كان أكثرهم من ولده كالرسول ورهطه وجميع العرب طلب الأكثر فأضيف إليهم.
وجاء قوله: {ملة} {إبراهيم} باعتبار عبادة الله وترك الأوثان وهو المسوق له الآيات المتقدمة، فلا يدل ذلك على الاتباع في تفاصيل الشرائع.
والظاهر أن الضمير في {هو سماكم} عائد على {إبراهيم} وهو أقرب مذكور ولكل نبيّ دعوة مستجابة ودعا إبراهيم فقال: {ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك} فاستجاب الله له فجعلها أمة محمد عليه الصلاة والسلام، وقاله ابن زيد والحسن.
وقيل: يعود {هو} إلى الله وهو قول ابن عباس وقتادة ومجاهد والضحاك.
وعن ابن عباس: إن الله {سماكم المسلمين من قبل} أي في كل الكتب {وفي هذا} أي القرآن، ويدل على أن الضمير لله قراءة أبيّ الله {سماكم}.
قال ابن عطية: وهذه اللفظة يعني قوله: {وفي هذا} تضعيف قول من قال الضمير لإبراهيم، ولا يتوجه إلاّ على تقدير محذوف من الكلام مستأنف انتهى.
وتقدير المحذوف وسميتم في هذا القرآن المسلمين، والمعنى أنه فضلكم على الأمم وسماكم بهذا الاسم.
{ليكون الرسول شهيدًا عليكم} أنه قد بلغكم {وتكونوا شهداء على الناس} بأن الرسل قد بلغتهم، وإذ قد خصكم بهذه الكرامة والأثرة فاعبدوه وثقوا به ولا تطلبوا النصرة والولاية إلاّ منه فهو خير مولى وناصر.
وعن قتادة أعطيت هذه الأمة ما لم يعطه إلاّ نبي.
قيل للنبي: أنت شهيد على أمتك.
وقيل له: ليس عليك حرج.
وقيل له: سل تعط.
وقيل: لهذه الأمة: {وتكونوا شهداء على الناس} وقيل لهم {ما جعل عليكم في الدين من حرج} وقيل لهم {ادعوني أستجب لكم} {واعتصموا} قال ابن عباس سلوا ربكم أن يعصمكم من كل ما يكره.
وقال الحسن: تمسكوا بدين الله. اهـ.