فصل: قال النسفي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أخرجه مالك في الموطأ وذهب قوم إلى أنّ في الحج سجدة واحدة وهي الأولى وليس هذه بسجدة وهو قول الحسن وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وسفيان الثوري وأبي حنيفة ومالك بدليل أنه قرن السجود بالركوع فدل ذلك أنها سجدة صلاة لا سجدة تلاوة واختلف العلماء في عدة سجود التلاوة.
فذهب الشافعي وأحمد وأكثر أهل العلم إلى أنها أربع عشرة سجدة لَكِن الشافعي قال في الحج سجدتان وأسقط سجدة ص.
وقال أبو حنيفة في الحج سجدة وأثبت سجدة ص وبه قال أحمد في إحدى الروايتين عنه فعنده أن السجدات خمس عشرة سجدة.
وذهب قوم إلى أن المفصل ليس فيه سجود يروى ذلك عن أبيّ بن كعب وابن عباس وبه قال مالك فعلى هذا يكون سجود القران إحدى عشرة سجدة يدل عليه ما روي عن أبي الدرداء أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «في القرآن إحدى عشرة سجدة» أخرجه أبو داود وقال إسناده واه.
ودليل من قال في القرآن خمس عشرة سجدة ما روي عن عمرو بن العاص قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن خمس عشرة سجدة منها ثلاث في المفصل وهي سورة الحج سجدتان.
أخرجه أبو داود وصح من حديث أبي هريرة قال: «سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في اقرأ وإذا السماء انشقت» أخرجه مسلم وسجود التلاوة سنة للقارئ والمستمع.
وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة هو واجب.
قوله عز وجل: {وجاهدوا في الله حق جهاده} أي جاهدوا في سبيل الله أعداء الله ومعنى حق جهاده هو استفراغ الطاقة فيه قال ابن عباس: وعنه قال لا تخافوا في الله لومة لائم فهو حق الجهاد كما تجاهدون في سبيل الله لا تخافون لومة لائم وقيل معناه اعملوا لله حق عمله واعبدوه حق عبادته قيل نسخها قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} وقال أكثر المفسرين حق الجهاد أن يكون بنية صادقة خالصه لله ولتكون كلمة الله هي العليا بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري وقيل مجاهدة النفس والهوى هو حق الجهاد وهو الجهاد الأكبر روي أنّ النبيّ صلى الله عليه سلم لما رجع من غزوة تبوك قال: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» ذكره البغوي بغير سند قيل أراد بالأصغر جهاد الكفار وبالأكبر جهاد النفس {هو اجتباكم} يعني اختاركم لدينه والاشتغال بخدمته وعبادته وطاعته فأي رتبة أعلى من هذا وأي سعادة فوق هذا {وما جعل عليكم في الدين من حرج} أي ضيق وشدة وهو أن المؤمن لا يبتلى بشيء من الذنوب إلا جعل الله له منه مخرّجًا بعضها بالتوبة وبعضها برد المظالم والقصاص وبعضها بأنواع الكفارات من الأمراض والمصائب وغير ذلك فليس في دين الإسلام ما لا يجد العبد فيه سبيلًا إلى الخلاص من الذنوب ومن العقاب لمن وفق.
وقيل: معناه رفع الضيق في أوقات فروضكم مثل هلال شهر رمضان والفطر ووقت الحج إذا التبس عليكم وسع ذلك عليكم حتى تتيقنوا.
وقيل: معناه الرخص عند الضرورات كقصر الصلاة والفطر في السفر والتيمم عند عدم الماء وأكل الميتة عند الضرورة والصلاة قاعدًا والفطر مع العجز بعذر المرض ونحو ذلك من الرخص التي رخص الله لعباده، قيل أعطى الله هذه الأمة خصلتين لم يعطهما أحدًا غيرهم جعلهم شهداء على الناس وما جعل عليهم في الدين من حرج.
وقال ابن عباس: الحرج ما كان علي بني إسرائيل من الآصار التي كانت عليهم وضعها الله عن هذه الأمة {ملة أبيكم إبراهيم} لأنها داخلة في ملة محمد صلى الله عليه وسلم.
فإن قلت لم يكن إبراهيم أبًا للأمة كلها فكيف سماه أبًا في قوله: {ملة إبيكم إبراهيم}.
قلت إن كان الخطاب للعرب فهو أبو العرب قاطبة وإن كان الخطاب للمسلمين فهو أبو المسلمين.
والمعنى وجوب احترامه وحفظ حقه يجب كما يجب احترام الأب فهو كقوله: {وأزواجه أمهاتهم} وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا لكم كالوالد»
وفي قوله: {هو سماكم المسلمين من قبل} قولان أحدهما: أن الَكِناية ترجع إلى الله تعالى يعني أن الله سماكم المسلمين في الكتب القديمة من قبل نزول القرآن. القول الثاني: أن الَكِناية راجعة إلى إبراهيم يعني أنّ إبراهيم سماكم المسلمين في أيامه من قبل هذا الوقت وهو قوله: {ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك} فاستجاب الله دعاءه فينا {وفي هذا} أي وفي القرآن سماكم المسلمين {ليكون الرسول شهيدًا عليكم} يوم القيامة أن قد بلغكم {وتكونو شهداء على الناس} أي تشهدون يوم القيامة على الأمم أن رسلهم قد بلغتهم {فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله} يعني ثقوا به وتوكلوا عليه وقيل تمسكوا بدين الله.
وقال ابن عباس: سلوا ربكم أن يعصمكم من كل ما يكره وقيل معناه ادعوا ربكم أن يثبتكم على دينه.
وقيل: الاعتصام هو التمسك بالكتاب والسنة {هو مولاكم} يعني وليكم وناصركم وحافظكم {فنعم المولى ونعم النصير} أي الناصر لكم والله تعالى أعلم. اهـ.

.قال النسفي:

{ذلك} أي الأمر ذلك وما بعده مستأنف {وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} سمي الابتداء بالجزاء عقوبة لملابسته له من حيث إنه سبب وذلك مسبب عنه {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ الله} أي من جازى بمثل ما فعل به من الظلم ثم ظلم بعد ذلك فحق على الله أن ينصره {إِنَّ الله لَعَفُوٌّ} يمحو آثار الذنوب {غَفُورٌ} يستر أنواع العيوب.
وتقرير الوصفين بسياق الآية أن المعاقب مبعوث من عند الله على العفو وترك العقوبة بقوله: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله} [الشورى: 40] {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ للتقوى} [البقرة: 237] فحيث لم يؤثر ذلك وانتصر فهو تارك للأفضل وهو ضامن لنصره في الكرة الثانية إذا ترك العفو وانتقم من الباغي، وعرف مع ذلك بما كان أولى به من العفو بذكر هاتين الصفتين، أو دل بذكر العفو والمغفرة على أنه قادر على العقوبة إذ لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده كما قيل العفو عند القدرة.
{ذلك بِأَنَّ الله يُولِجُ الليل في النهار وَيُولِجُ النهار في الليل وَأَنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ} أي ذلك النصر للمظلوم بسبب أنه قادر على ما يشاء، ومن آيات قدرته أنه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل أي يزيد من هذا في ذلك ومن ذلك في هذا، أو بسبب أنه خالق الليل والنهار ومصرفهما فلا يخفى عليه ما يجري فيهما على أيدي عباده من الخير والشر والبغي والإنصاف، وأنه سميع لما يقولون ولا يشغله سمع عن سمع وإن اختلفت في النهار الأصوات بفنون اللغات، بصير بما يفعلون ولا يستر عنه شيء بشيء في الليالي وإن توالت الظلمات.
{ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ} عراقي غير أبي بكر {مِن دُونِهِ هُوَ الباطل وَأَنَّ الله هُوَ العلي الكبير} أي ذلك الوصف بخلقه الليل والنهار وإحاطته بما يجري فيهما وإدراكه قولهم وفعلهم بسبب أن الله الحق الثابت إلاهيته وأن كل ما يدعى إلهًا دونه باطل الدعوة وأنه لا شيء أعلى منه شأنًا وأكبر سلطانًا.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء} مطرًا {فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً} بالنبات بعدما كانت مسودة يابسة وإنما صرف إلى لفظ المضارع ولم يقل فأصبحت ليفيد بقاء أثر المطر زمان بعد زمان كما تقول أنعم على فلان فأروح وأغدوا شاكرًا له ولو قلت فرحت وغدوت لم يقع ذلك الموقع.
وإنما رفع {فتصبح} ولم ينصب جوابًا للاستفهام لأنه لو نصب لبطل الغرض، وهذا لأن معناه إثبات الاخضرار فينقلب بالنصب إلى نفي الاخضرار كما تقول لصاحبك ألم تراني أنعمت عليك فتشكر، إن نصبته نفيت شكره وشكوت من تفريطه فيه، وإن رفعته أثبت شكره {إِنَّ الله لَطِيفٌ} واصل عمله أو فضله إلى كل شيء {خَبِيرٌ} بمصالح الخلق ومنافعهم أو اللطيف المختص بدقيق التدبير والخبير المحيط بكل قليل وكثير.
{لَّهُ مَا فِي السماوات وما فِي الأرض} مُلكًا وملكًا {وَإِنَّ الله لَهُوَ الغني} المستغني بكمال قدرته بعد فناء ما في السماوات وما في الأرض {الحميد} المحمود بنعمته قبل ثناء من في السماوات ومن في الأرض {الم تَرَى أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُم مَا فِي الأرض} من البهائم مذللة للركوب في البر {والفلك تَجْرِى في البحر بِأَمْرِهِ} أي ومن المراكب جارية في البحر، ونصب {الفلك} عطفًا على ما و{تجري} حال لها أي وسخر لكم الفلك في حال جريها {وَيُمْسِكُ السماء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض} أي يحفظها من أن تقع {إِلاَّ بِإِذْنِهِ} بأمره أو بمشيئته {إِنَّ الله بالناس لَرَؤُوفٌ} بتسخير ما في الأرض {رَّحِيمٌ} بإمساك السماء لئلا تقع على الأرض، عدد آلائه مقرونة بأسمائه ليشكروه على آلائه ويذكروه بأسمائه. وعن أبي حنيفة رحمه الله أن اسم الله الأعظم في الآيات الثمانية يستجاب لقرأئتها ألبتة.
{وَهُوَ الذي أَحْيَاكُمْ} في أرحام أمهاتكم {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عند انقضاء آجالكم {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} لإيصال جزائكم {إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ} لجحود لما أفاض عليه من ضروب النعم ودفع عنه من صنوف النقم، أو لا يعرف نعمة الإنشاء المبدئ للوجود ولا الإفناء المقرب إلى الموعود ولا الإحياء الموصل إلى المقصود {لِكُلّ أُمَّةٍ} أهل دين {جَعَلْنَا مَنسَكًا} مر بيانه وهو رد لقول من يقول إن الذبح ليس بشريعة الله إذ هو شريعة كل أمة {هُمْ نَاسِكُوهُ} عاملون به {فَلاَ ينازعنك} فلا يجادلنك والمعنى فلا تلتفت إلى قولهم ولا تمكنهم من أن ينازعوك {في الأمر} أمر الذبائح أو الدين.
نزلت حين قال المشركون للمسلمين: ما لكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتله الله يعني الميتة {وادع} الناس {إلى رَبّكَ} إلى عبادة ربك {إِنَّكَ لعلى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ} طريق قويم.
ولم يذكر الواو في {لِكُلّ أُمَّةٍ} بخلاف ما تقدم لأن تلك وقعت مع ما يناسبها من الآي الواردة في أمر النسائك فعطفت على أخواتها، وهذه وقعت مع أباعد عن معناها فلم تجد معطفا.
{وَإِن جادلوك} مراء وتعنتًا كما يفعله السفهاء بعد اجتهادك أن لا يكون بينك وبينهم تنازع وجدال {فَقُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي فلا تجادلهم وادفعهم بهذا القول، والمعنى أن الله أعلم بأعمالكم وما تستحقون عليها من الجزاء فهو مجازيكم به، وهذا وعيد وإنذار ولَكِن برفق ولين وتأديب يجاب به كل متعنت {الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} هذا خطاب من الله للمؤمنين والكافرين أي يفصل بينكم بالثواب والعقاب، ومسلاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما كان يلقى منهم.
{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا في السماء والأرض} أي كيف يخفى عليه ما تعملون ومعلوم عند العلماء بالله أنه يعلم كل ما يحدث في السماوات والأرض {إِنَّ ذلك} الموجود فيهما {في كتاب} في اللوح المحفوظ {إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ} أي علمه بجميع ذلك عليه يسير.
ثم أشار إلى جهالة الكفار لعبادتهم غير المستحق لها بقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ} {ينْزل} مكي وبصري {سلطانا} حجة وبرهانًا {وما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ} أي لم يتمسكوا في عبادتهم لها ببرهان سماوي من جهة الوحي ولا حملهم عليها دليل عقلي {وما للظالمين مِن نَّصِيرٍ} وما للذين ارتكبوا مثل هذا الظلم من أحد ينصرهم ويصوب مذهبهم {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيّنَاتٍ} يعني القران {تَعْرِفُ في وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر} الإنكار بالعبوس والكراهة والمنكر مصدر {يكادون يَسْطُونَ} يبطشون والسطو الوثب والبطش {بالذين يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ ءاياتنا} هم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه {قُلْ أَفَأُنَبّئُكُم بِشَرّ مّن ذلكم} من غيظكم على التالين وسطوكم عليهم أو مما أصابكم من الكراهة والضجر بسبب ما تلي عليكم {النار} خبر مبتدأ محذوف كأن قائلًا قال: ما هو؟ فقيل: النار أي هو النار {وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ} استئناف كلام {وَبِئْسَ المصير} النار.
ولما كانت دعواهم بأن لله تعالى شريكًا جارية في الغرابة والشهرة مجرى الأمثال المسيرة قال الله تعالى: {يأَيُّهَا الناس ضُرِبَ} بين {مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ} لضرب هذا المثل {أَنَّ الذين تَدْعُونَ} {يَدَّعُونَ} سهل ويعقوب {مِن دُونِ الله} آلهة باطلة {لَن يَخْلُقُواْ ذُبَابًا} لن تأكيد نفي المستقبل وتأكيده هنا للدلالة على أن خلق الذباب منهم مستحيل كأنه قال: محال أن يخلقوا.
وتخصيص الذباب لمهانته وضعفه واستقذاره، وسمي ذبابًا لأنه كلما ذب لاستقذاره آب لاستكباره {وَلَوِ اجتمعوا لَهُ} لخلق الذباب ومحله النصب على الحال كأنه قيل: مستحيل منهم أن يخلقوا الذباب مشروطًا عليهم اجتماعهم جميعًا لخلقه وتعاونهم عليه، وهذا من أبلغ ما أنزل في تجهيل قريش حيث وصفوا بالإلالهية التي تقتضي الاقتدار على المقدورات كلها والإحاطة بالمعلومات عن آخرها صورًا وتماثيل يستحيل منها أن تقدر على أقل ما خلقه الله تعالى وأذله لو اجتمعوا لذلك {وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئًا} {شَيْئًا} ثاني مفعولي {يَسْلُبْهُمُ} {لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} أي هذا الخلق الأقل الأذل لو اختطف منهم شيئًا فاجتمعوا على أن يستخلصوه منه لم يقدروا.
عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم كانوا يطلونها بالزعفران ورؤوسها بالعسل فإذا سلبه الذباب عجز الأصنام عن أخذه {ضَعُفَ الطالب} أي الصنم بطلب ما سلب منه {والمطلوب} الذباب بما سلب وهذا كالتسوية بينهم وبين الذباب في الضعف، ولو حققت وجدت الطالب أضعف وأضعف فإن الذباب حيوان وهو جماد وهو غالب وذاك مغلوب {مَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} ما عرفوه حق معرفته حيث جعلوا هذا الصنم الضعيف شريكًا له {إِنَّ الله لْقَوِيٌ عَزِيزٌ} أي إن الله قادر وغالب فكيف يتخذ العاجز المغلوب شبيهًا به، أو لقوي بنصر أوليائه عزيز ينتقم من أعدائه.
{الله يَصْطَفِى} يختار {مِنَ الملائكة رُسُلًا} كجبريل وميكائيل وإسرافيل وغيرهم {وَمِنَ الناس} رسلًا كإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وغيرهم عليهم السلام.
وهذا رد لما أنكروه من أن يكون الرسول من البشر، وبيان أن رسل الله على ضربين ملك وبشر.
وقيل: نزلت حين قالوا {أأنزل عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا} [القمر: 25] {إِنَّ الله سَمِيعٌ} لقولهم {بَصِيرٌ} بمن يختاره لرسالته، أو سميع لأقوال الرسل فيما تقبله العقول بصير بأحوال الأمم في الرد والقبول {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} ما مضى {وما خَلْفَهُمْ} ما لم يأت أو ما عملوه وما سيعملوه أو أمر الدنيا وأمر الآخرة {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} أي إليه مرجع الأمور كلها، والذي هو بهذه الصفات لا يسئل عما يفعل وليس لأحد أن يعترض عليه في حكمه وتدابيره واختيار رسله {ترجع} شامي وحمزة وعلي.
{يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اركعوا واسجدوا} في صلاتكم، وكان أول ما أسلموا يصلون بلا ركوع وسجود فأمروا أن تكون صلاتهم بركوع وسجود، وفيه دليل على أن الأعمال ليست من الإيمان وأن هذه السجدة للصلاة لا للتلاوة {وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ} واقصدوا بركوعكم وسجودكم وجه الله لا الصنم {وافعلوا الخير} قيل: لما كان للذكر مزية على غيره من الطاعات دعا المؤمنين أولًا إلى الصلاة التي هي ذكر خالص لقوله تعالى: {وأقم الصلاة لذكري} [طه: 14] ثم إلى العبادة بغير الصلاة كالصوم والحج وغيرهما، ثم عم بالحث على سائر الخيرات.
وقيل: أريد به صلة الأرحام ومكارم الأخلاق {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي كي تفوزوا أو افعلوا هذا كله وأنتم راجون للفلاح غير مستيقنين ولا تتكلوا على أعمالكم.
{وجاهدوا} أمر بالغزو أو مجاهدة النفس والهوى وهو الجهاد الأكبر أو هو كلمة حق عند أمير جائر {في الله} أي في ذات الله ومن أجله {حَقَّ جهاده} وهو أن لا يخاف في الله لومة لائم.
يقال: هوحق عالم وجد عالم أن عالم حقًّا وجدًّا ومنه {حق جهاده} وكان القياس حق الجهاد فيه أو حق جهادكم فيه لَكِن الإضافة تكون بأدنى ملابسة واختصاص، فلما كان الجهاد مختصًا بالله من حيث إنه مفعول لوجهه ومن أجله صحت إضافته إليه.
ويجوز أن يتسع في الظرف كقوله:
ويوم شهدناه سليمًا وعامرًا

{هُوَ اجتباكم} اختاركم لدينه ونصرته {وما جَعَلَ عَلَيْكمْ في الدين مِنْ حَرَجٍ} ضيق بل رخص لكم في جميع ما كلفكم من الطهارة والصلاة والصوم والحج بالتيمم وبالإيماء وبالقصر والإفطار لعذر السفر والمرض وعدم الزاد والراحلة.
{مّلَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم} أي اتبعوا ملة أبيكم، أو نصب على الاختصاص أي أعني بالدين ملة أبيكم.
وسماه أبًا وإن لم يكن أبًا للأمة كلها، لأنه أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أبًا لأمته لأن أمة الرسول في حكم أولاده قال عليه السلام «إنما أنا لكم مثل الوالد» {هُوَ سماكم المسلمين} أي الله بدليل قراءة أبيّ: {الله سماكم المسلمين} {مِن قَبْلُ} في الكتب المتقدمة {وفي هذا} أي في القرآن أي فضلكم على سائر الأمم وسماكم بهذا الاسم الأكرم {لِيَكُونَ الرسول شَهِيدًا عَلَيْكُمْ} أنه قد بلغكم رسالة ربكم {وَتَكُونُواْ شهداء عَلَى الناس} بتبليغ الرسل رسالات الله إليهم وإذ خصكم بهذه الكرامة والأثرة {فأقيموا الصلاة} بواجباتها {وءاتوا الزكاة} بشرائطها {واعتصموا بالله} وثقوا بالله وتوكلوا عليه لا بالصلاة والزكاة {هُوَ مولاكم} أي مالككم وناصركم ومتولي أموركم {فَنِعْمَ المولى} حيث لم يمنعكم رزقكم بعصيانكم {وَنِعْمَ النصير} أي الناصر هو حيث أعانكم على طاعتكم وقد أفلح من هو مولاه وناصره والله الموفق للصواب. اهـ.