فصل: قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَإِن جَادَلُوكَ} الآية: تقتضي موادعة منسوخة بالقتال {إِنَّ ذلك فِي كِتَابٍ} يعني اللوح المحفوظ، والإشارة بذلك إلى معلومات الله {إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ} يحتمل أن تكون الإشارة بذلك إلى كتب المعلومات في الكتاب، أو إلى الحكم في الاختلاف والأول أظهر {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} يعني الأصنام؛ والسلطان هنا: الحجة والبرهان، وما ليس لهم به علم: قيل: إنه يعني ما ليس لهم به علم ضروري، فنفى أولًا البرهان النظري، ثم العلم الضروري، وليس اللفظ بظاهر في هذا المعنى، بل الأحسن نفي العلم الضروري والنظري معًا {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر} أي الإنكار لما يسمعون فالمنكر مصدر: كالمكرم بمعنى الإكرام ويعرف ذلك في وجوههم بعبوسها وإعراضها {يَسْطُونَ} من السطوة وهي سرعة البطش {النار وَعَدَهَا الله} يحتمل أن تكون {النار} مبتدأ، و{وَعَدَهَا الله} خبرًا أو يكون النار خبر ابتداء مضمر كأنّ قائلًا قال: ما هو، فقيل: هو النار، ويكون وعدها الله استئنافًا وهذا أظهر {ضُرِبَ مَثَلٌ} أي ضربه الله لإقامة الحجة على المشركين {لَن يَخْلُقُواْ ذُبَابًا} تنبيه بالأصغر على الأكبر من باب أولى وأحرى: والمعنى أن الأصنام التي تعبدونها لا تقدر على خلق الذباب ولا غيره، فكيف تُعبد من دون الله الذي خلق كل شيء، ثم أوضح عجزهم بقوله: {وَلَوِ اجتمعوا لَهُ} أي لو تعاونوا على خلق الذباب لم يقدروا عليه {وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} بيان أيضًا لعجز الأصنام بحيث لو اختطف الذباب منهم شيئًا لم يقدروا على استنقاذه منه على حال ضعفه، وقد قيل: إن المراد بما يسلب الذباب منهم الطيب الذي كانت تجعله العرب على الأصنام واللفظ أعم من ذلك {ضَعُفَ الطالب والمطلوب} المراد بالطالب الأصنام وبالمطلوب الذباب، لأن الأصنام تطلب من الذباب ما سلبته منها. وقيل: الطالب الكفار والمطلوب الأصنام. لأن الكفار يطلبون الخير منهم.
{مَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} أي ما عظموه حق تعظيمه.
{الله يَصْطَفِي مِنَ الملائكة رُسُلًا وَمِنَ الناس} ردّ على من أنكر أن يكون الرسول من البشر.
{اركعوا واسجدوا} في هذه الآية سجدة عند الشافعي ون غيره للحديث الصحيح الوارد في ذلك خلافًا للمالكية {وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ} عموم في العبادة بعد ذلك الصلاة التي عبر عنها بالركوع والسجود، وإنما قدمها لأنها أهم العبادات {وافعلوا الخير} قيل: المراد صلة الرحم، وقال ابن عطية: هي في الندب فيما عدا الواجبات واللفظ أعم من ذلك كله.
{وَجَاهِدُوا فِي الله} يحتمل أن يريد جهاد الكفار، أو جهاد النفس والشيطان أو الهوى، أو العموم في ذلك {حَقَّ جِهَادِهِ} قيل: إنه منسوخ كنسخ حق تقاته بقوله: {مَا استطعتم} [الأنفال: 60، التغابن: 16] وفي ذلك نظر، وإنما أضاف الجهاد إلى الله ليبين بذلك فضله واختصاصه بالله {اجتباكم} أي اختاركم من بين الأمم {مِنْ حَرَجٍ} أي مشقة، وأصل الحرج الضيق {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم} انتصب ملة بفعل مضمر تقديره: أعني بالدين ملة إبراهيم أو التزموا ملة إبراهيم وقال الفراء: انتصب على تقدير حذف الكاف كأنه قال كلمة، وقال الزمخشري: انتصب بمضمون ما تقدم: كأنه قال: وسع عليكم توسعة ملة أبيكم إبراهيم، ثم حذف المضاف، فإن قيل: لم يكن إبراهيم للمسلمين كلهم، فالجواب: أنه كان أبًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبًا لأمته لأن أمة الرسول في حكم أولاده، ولذلك قرئ {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6]، وهو أب لهم وأيضًا فإن قريشًا وأكثر العرب من ذرية إبراهيم، وهم أكثر الأمة فاعتبرهم دون غيرهم {هُوَ سَمَاكُمُ} الضمير لله تعالى، ومعنى {مِن قَبْلُ} من الكتب المتقدمة. وفي هذا أي في القرآن، وقيل الضمير لإبراهيم والإشارة إلى قوله: ومن ذريتنا أمة مسلمة لك، ومعنى من قبل على هذا: من قبل وجودكم، وهنا يتم الكلام على هذا القول ويكون قوله: {وَفِي هذا} مستأنفًا: أي وفي هذا البلاغ، والقول الأول أرجح وأقل تكلفًا، ويدل عليه قراءة أبي بن كعب: الله سماكم المسلمين {شَهِيدًا عَلَيْكُمْ} تقدم معنى هذه الشهادة في البقرة {فَأَقِيمُواْ الصلاة} الظاهر أنها المكتوبة لاقترانها مع الزكاة {هُوَ مَوْلاَكُمْ} معناه هنا: وليكم وناصركم؛ بدلالة ما بعد ذلك. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأرض وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ}.
التفسير: إن من جملة نعم الله تعالى على عباده تسخير الأرضيات وتذليلها لهم، فلا اصلب من الحديد والحجر، ولا أشد نكاية من النار وقد سخرها للإنسان وسخر لهم الأنعام ايضًا ينتفعون بها بالأكل والركوب والحمل عليها والانتفاع بالنظر إليها {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت} [الغاشية: 17] وسخر لهم الدواب، وغيرها وخسر لهم الفلك حال كونها جارية بأمره وهو تهيئة الأسباب المعاونة ودفع الأشياء المضادة لسهولة جريها. ولا ريب أن الانتفاع بالأرضيات لا يتأتى إلا بعد الأمن من وقوع السماء على الأرض، فمّن الله تعالى على المكلفين بأن حفظها كيلا تقع أو كراهة أن تقع على الأرض وذلك بمحض الإقتدار عند أهل الظاهر، أو بأن جعل طبعها هو الإحاطة بما في ضمنها إذ لا خفة فيها ولا ثقل ولهذا خصت بالحركة على المركز. وفي قوله: {إلا بإذنه} إشارة إلى أن الأفلاك ستنخرق وتنشق فتقع على الأرض، ويحتمل أ، يقال: توقيف الوقوع على الإذن لا يوجب حصول الإذن، فالانخراق والانشقاق لا يستفاد من هذه الآية. ثم ذكر الإنسان مبدأه ومعاده فقال: {وهو الذي أحياكم} نظيره قوله في أول البقرة {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم} [الآية: 28] وقد سبق هنالك. وفي قوله: {إن الإنسان لكفور} زجر لهم عن الكفران بطريق التوبيخ. وعن ابن عباس أنه الكافر. وبعضهم جعله أخص فقال: هو ابو جهل وأضرابه، والأولى أرادة الجنس، ثم عاد إلى بيان أن أمر التكاليف مستقر على ما في هذه الشريعة فقال: {لكل أمة} الآية. قال في الكشاف: إنما فقد العاطف هاهنا بخلاف نظرائها في السورة لأن تلك مناسبة لما تقدمها في هذه مباينة لها. قلت: وذلك لأن من هاهنا إلى آخر السورة عودًا بعد ذكر المعاد إلى الوسط الذي هو حالة التكليف، والأقرب أن المنسك في هذه الآية هو الشريعة كقوله: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا} [المائدة: 48] وهو قول ابن عباس في رواية عطاء. وقيل: أراد مكانًا معينًا وزمانًا لأداء الطاعات. وقال مجاهد: هو الذبائح ولا وجه للتخصيص هاهنا والأمة أعم من أن تكون قد بقيت آثارهم أو لم تبق. أما الضمير في قوله: {فلا ينازعنك} فلابد من رجوعه إلى الأمم الباقية آثارهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الزجاج: إنه نهي له عن منازعتهم كما تقول لا يضاربنك فلان أي لا تضار به. وذلك أن المفاعلة تقتضي العكس ضمنًا. وقال في الكشاف: هو نهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم اي لا تلتفت إلى قولهم ولا تمكنهم من أن ينازعوك، أو هو زجر لهم عن التعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمنازعة في أمر الدين وكانوا يقولون في الميتة مالكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتله الله. ومنه يعلم استقرار أمر الديانة على هذه الشريعة وأن على كل أمة من الأمم التي بقيت منها بقية أن يتبعوه ويتركوا مخالفته فلذلك قال: {وأدع إلى ربك} أي لا تخص بالدعوة أمة دون أمة فإن كلهم أمتك {إنك لعلى هدى مستقيم} أي على دين وسط دليل ظاهر. وإن أبوا إلا الجدال فكل أمرهم إلى الله قائلًا {الله أعلم بما تعملون} وفيه وعيد وإنذار مخلوط برفق ولَكِن {الله يحكم بينكم} أي يفصل بين المؤمنين والكافرين منكم، ويحتمل أن يكون من تتمة المقول وأن يكون ابتداء خطاب من الله سبحانه للأمم. {ألم تعلم} خطاب لكل عالم أو للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد تقوية قلبه وإلا فالرسالة لا تكون إلا بعد العلم بكونه تعالى عالمًا بكل المعلومات وإلا اشتبه عليه الصادق بالكاذب. {إن ذلك} الذي ذكر وهو كل ما في السماء والأرض {في كتاب} قال أبو مسلم: أراد به الحفظ والضبط كالشيء المكتوب، والجمهور على أنه حقيقة وقد كتبه في اللوح قبل حدوثه. ولعل في تلك الكتابة لطفًا للملائكة لأن مطابقة تلك الأشياء المكتوبة لما سيحدث إلى الأبد من أدل دليل على كونه عالم الذات ولذلك قال: {إن ذلك} الكتب {على الله يسير} وهذا تصوير لضده وهو صعوبة مثل ذلك على غيره وإلا فلا مدخل لليسر والصعوبة في كمال قدرته.
وحين بين كمال ألوهيته قطع شأن أهل الشرك بقوله: {ويعبدون} الآية والمراد أنهم لم يتمسكوا في صحة عبادته بدليل سمعي ولا علم ضروري وقوله: {وما للظالمين من نصير} الظلم الشرك، والصنرة إما بالشفاعة أو بالحجة ولا حجة إلا للحق وهو كقوله في آخر آل عمران {وما للظالمين من انصار} [الآية: 192] وقد مر. والمنكر دلائل الغيظ والحنق.
وقال جار الله: وهو الفظيع من التجهم والبسور أو هو الإنكار كالمكرم بمعنى الإكرام وقال الكلبي: أراد أنهم كرهوا القران مع وضوح دلائلة. وقال ابن عباس: هو التجبر والترفع. وقال مقاتل: أنكروا أن يكون من الله تعالى. السطو الوثب والبطش أي يهمون بالبطش والوثوب لعظم إنكار ما تلي عليهم. وقوله: {من ذلكم} إشارة إلى غيظهم على التالين أو إلى همهم. ثم إنه كأن سائلًا قائلًا ما ذلك الشر فقيل {النار} اي هو النار. قلت: وذلك أن حرارة الغيظ والسطو تشبه حرارة النار ولَكِن هذه أقوى ولاسيما نار جهنم. ثم استأنف للنار حكمًا فقال: {وعدها} الآية. ويحتمل أن تكون {النار} مبتدأ و{وعدها} خبرًا. ثم ضرب للاصنام مثلا فقال: {يا أيها الناس ضرب مثل} إنما قال بلفظ الماضي لأنه معلوم من قبل لكل ذي عقل. والمثل بمعنى المثل استعاروه لجملة من الكلام مستغربة مستفصحة متلقاة بالرضا والقبول أهل للتسيير والإرسال وذلك أنهم جعلوا مضربها مثلًا لموردها، ثم استعاروا هذا المستعار للقصة أو الحالة أو الصفة المستغربة لتماثلها في الغرابة وهذا هو الذي قصد في الآية: {فاستمعوا له} أي تدبروه وحق له ذلك فإن السماع المجرد لا نفع له. قال جار الله: محل {ولو اجتمعوا له} نصب على الحال كأنه قال مستحيل أن يخلقوا الذباب مشروطًا عليهم اجتماعهم جميعًا فكيف لو انفردوا؟ وأقول: الظاهر أن لو هذه للمبالغة وجوابه محذوف لدلالة ما تقدم عليه تقديره، ولو اجتمعوا لخلق الذباب لن يخلقوه ايضًا، وليس من شرط كل جملة أن يكون لها محل. ثم زاد لعجزهم وضعفهم تأكيدًا بقوله: {وإن يسلبهم الذباب} الآية. بمعنى أترك أمر الحلق والإيجاد وتكلم فيما هو أسهل من ذلك، إن هذا الحيوان الضعيف الذي لا قدرة لهم على خلقه لو سلب منهم شيئًا لم يقدروا أيضًا على استخلاص ذلك الشيء منه.
عن ابن عباس أنهم كانوا يطلون الأصنام بالزعفران ورؤوسها بالعسل ويغلقون عليها الأبواب فيدخل الذباب من الكوى فيأكله. وقيل: سمي الذباب ذبابًا كلما ذب آب. ثم عجب من ضعف الأصنام والذباب بقوله: {ضعف الطالب والمطلوب} فالصنم كالطالب من حيث إنه يطلب خلق الذباب أو يطلب استنفاذ ما سلبه منه. وقيل: الطالب عابد الصنم والمطلوب هو الصنم أو عبادته، ويجوز أن يكون الطالب هو السالب والمطلوب المسلوب منه.
ثم بين أن المشركين الذين عبدوا من دون الله آلهة بهذه المثابة {ما قدروا الله حق قدره} أي ما عرفوه حق معرفته وقد مر مثله في الأنعام. {إن الله لقوي عزيز} قادر غالب فكيف يسوِّي بينه وبين العاجز المغلوب في العبادة وهي نهاية التعظيم. وذلك أنهم لو إعتقدوا كون تلك الأصنام طلسمات موضوعة على الكواكب فإذا لم تنفع نفسها في المقدار المذكور فلأن لا تنفع غيرها أولى، وإن اعتقدوا أنها تماثيل الملائكة أو الأنبياء فلا يليق بها غاية الخضوع التي يستحقها خالق الكل.
وحين رد على أهل الشرك معتقدهم في الإلهيات أراد أن يرد عليهم عقيدتهم في النبوَّات وهي أن الرسول لا يكون بشرًا فقال: {الله يصطفي من الملائكة رسلًا ومن الناس} فالملك رسول إلى النبي والنبي رسول إلى سائر البشر قاله مقاتل.
هاهنا سؤالات:
الأول أن من للتبعيض فتفيد الآية أن بعض الملائكة رسل فيكون مناقضًا لقوله: {جاعل الملائكة رسلًا} [فاطر: 1] والجواب أن الموجبة الجزئية لا تناقض الموجبة الكلية، أو أراد بهذا البعض من هو رسول إلى نبي آدم وهو أكابر الملائكة ولا يبعد أن يكون بعض الملائكة رسلًا إلى بعض آخر منهم. وثانيهما أنه قال في موضع آخر {لو أراد الله أن يتخذ ولدًا لاصطفى مما يخلق ما يشاء} [الزمر: 4] وقد نص في هذه الآية أن بعض الناس مصطفى فيلزم من مجموع الآيتين أنه قد اصطفى ولدًا. والجواب أن تلك الآية دلت على أن كل ولد مصطفى ولَكِن لا يلزم من هذه الآية أن كل مصطفى ولد فمن أين يحصل ما ادعيت؟ والتحقيق أن الموجبتين في الشكل الثاني لا ينتجان هذا، ويحتمل أن تكون هذه الآية مسوقة للرد على عبدة الملائكة كما كانت الآية المتقدمة للرد على عبدة الأصنام إذ يعلم من هذا أن علو درجة الملائكة ليس لكونهم آلهة بل لأن الله اصطفاهم للرسالة حين كانوا أمناء على وحيه لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
ثم بين علو شأنه وكمال علمه وإحاطته بأحوال المكلفين ما مضى منها وما غبر، وأن مرجع الأمور كلها إليه، وفي كل زجر عن الإقدام على المعصية وبعث الجد في الطاعة فلا جرم صرح بالمقصود قائلًا {يا ايها الذين آمنوا} والظاهر أنه خطاب مختص بالمؤمنين ويؤكده قوله بعد ذلك {هو اجتباكم} {هو سماكم المسلمين} وقيل: عام لكل المكلفين لأن المأمورات بعده لا تختص ببعض الناس دون بعض والتخصيص بالذكر للتشريف فإنهم الذين قبلوا الخطاب. ودل بالركوع والسجود على الصلاة لأنهما ركنان معتبران. وقيل: كان الناس أول ما اسلموا يسجدون بلا ركوع ويركعون بلا سجود، فأمروا أن تكون صلاتهم بركوع وسجود ذكره ابن عباس. قال جار الله: عن عقبة بن عامر قال: «قلت: يا رسول الله في سورة الحج سجدتان؟ قال: نعم أن لم تسجدهما فلا تقرأهما». وعن عبد الله بن عمر: «فضلت سورة الحج بسجدتين». وهو مذهب الشافعي. وأما أبو حنيفة فلا يرى هذه سجدة لأنه قرن الركوع بالسجود قال: فدل ذلك على أنها سجدة صلاة لا سجدة تلاوة، قدم الصلاة لأنها أشرف العبادات ثم عمم فأمر بالعبادة مطلقًا، ثم جعل الأمر أعم وهو فعل الخيرات الشامل للنوعين التعظيم لأمر الله والشفعة على خلق الله كأنه قال: كلفتكم الصلاة بل كلفتكم ما هو أعم منها وهو العبادة، بل كلفتكم أعم وهو فعل الخيرات على الإطلاق.
وقيل: معناه واعبدوا ربكم اقصدوا بركوعكم وسجودكم وجه الله عز وجل. وعن ابن عباس أن فعل الخير صلة الأرحام ومكارم الأخلاق. ومعنى {لعلكم تفلحون} افعلوا كل ذلك راجين الفلاح وهو الظفر بنعيم الآخرة لا متيقنين ذلك فإن الإنسان قلما يخلو في أداء فرائضه من تقصير والعواقب أيضًا مستورة. ثم أمر بخلاف النفس والهوى في جميع ما ذكر وهو الجهاد الأكبر فقال: {وجاهدوا في الله} اي في ذاته ومن أجله {حق جهاده} اي حق الجهاد فيه أو حق جهادكم فيه فإضافة الجهاد إلى الله من قبيل التوسعة ولأدنى ملابسة من حيث إن الجهاد فعل لوجهه. وقيل: هو امر بالغزو، أمروا أن يجاهدوا آخرا كما جاهدوا أولًا فقد كان جهادهم في الأول أقوى وكانوا فيه أثبت نحو صنيعهم يوم بدر. وعن عمر أنه قال لعبد الرحمن بن عوف: أما علمت أنا كنا نقرأ {وجاهدوا في الله حق جهاده} في آخر الزمان كما جاهدتم في أوله؟ فقال عبد الرحمن: ومتى ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: إذا كانت بنو أمية الأمراء وبنو المغيرة الوزراء. قال العلماء: لو صحت هذه الرواية فلعل هذه الزيادة من تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم ليست من نفس القران وإلا لتواترت. وإما عبارات المفسرين فعن ابن عباس: حق جهاده أي لا تخافوا في الله لومة لائم. وقال الضحاك: اعملوا لله حق عمله. وقال آخرون: استفرغوا ما في وسعكم في إحياء دين الله وإقامة حدوده باليد واللسان وجميع ما يمكن، وردوا أنفسكم عن الهوى والميل. وعن مقاتل والكلبي: أن الآية منسوخة بقوله: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16] كما أن قوله: {اتقوا الله حق تقاته} [آل عمران: 102] منسوخ بذلك. وضعف بأن التكليف مشروط بالقدرة فلا حاجة إلى التزام النسخ. ثم عظم شأن المكلفين بقوله: {هو اجتباكم} أي اختاركم لدينه ونصرته وفيه تشريف كقوله: {وكذلك جعلناكم أمة وسطًا} [البقرة: 143] ثم كان لقائل أن يقول: التكليف وإن كان تشريفًا إلا أن فيه مشقة على النس فقال: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} اي ضيق وشدة وذلك أنه فتح باب التوبة ووسع على المكلفين بأنواع الرخص والكفارات والديات والأروش. يروى أن أبا هريرة قال: كيف قال سبحانه: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} مع أنا منعنا عن الزنا والسرقة؟ فقال ابن عباس: بلى ولَكِن الإصر الذي كان علي بني إسرائيل وضع عنكم. قالت المعتزلة: لو خلق الله فيه الكفر ثم نهاه عنه كان ذلك من أعظم الحرج.
وعورض بأنه نهاه عن الكفر مع أنه علم ذلك منه، وكأنه أمره بقلب علم الله جهلًا وهو أعظم الحرج.
ثم أثنى على هذه الأمة بقوله: {ملة أبيكم} أي أعني ملة أبيكم، ويجوز أن ينتصب بمضمون ما تقدم كأنه قيل: وسع دينكم توسعة ملة ابيكم فأقام المضاف إليه مقام المضاف، وإنما كان إبراهيم أبا هذه الأمة لأنه أبو الرسول صلى الله عليه وسلم وكل نبي أبو أمته. والمراد أن التوحيد والحنيفية هي مما شرعه إبراهيم. {هو} أي الله أو إبراهيم {سماكم المسلمين من قبل} اي في سائر الكتب أو في قوله: {ومن ذريتنا أمة مسلمة لك} [البقرة: 128] {وفي هذا} القران أما إن كان المسمى هو الله فظاهر، وأما إن كان هو إبراهيم فلعله أراد أن حكاية دعائه مذكورة في القرآن. وقوله: {ليكون الرسول} متعلق بـ قوله: {هو اجتباكم} اي فضلكم على الأمم لهذا الغرض نظيره قوله في البقرة {وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا} [الآية: 143] والأصل تقديم الأمة كما في البقرة لأن الخطاب معهم وليقع الختم على شهادة الرسول كما هو الواقع إلا أنه عكس الترتيب في هذه السورة ليناط به قوله: {فأقيموا الصلاة} والمراد إذ خصكم بهذه الكرامة فاعبدوه واعتصموا بدلائله العقلية والسمعية أو بألطافه وعنايته. قال ابن عباس: سلوا الله العصمة عن كل المحرمات. وقال آخرون: اجعلوه عصمة لكم مما تحذرون فهو خير مولى وناصر. استدلت المعتزلة بالآية في قولهم إنه يريد الإيمان من الكل من وجوه: الأول أنه أراد أن يكونوا شهداء ولن يكونوا كذلك إلا إذا آمنوا، الثاني أنه لا يمكن الاعتصام به إلا إذا لم يوجد منه الشر ألبتة. الثالث أنه لو خلق في عبادة الكفر والمعاصي لم يكن نعم المولى. وأجيب بعد تسليم أرادة الإيمان من الكل أن أرادة الشيء إن كانت مستلزمة لأرادة لوازمه فأرادة الإيمان من الكفار تستلزم أن يكون الله تعالى مريدًا لجهل نفسه. وإن لم تستلزم فقد سقط السؤال وايضًا الاعتصام به إنما يكون منه كقوله أعوذ بك منه وايضًا إنه خلق الشهوة في قلب الفاسق وخلق المشتهي وقربه منه ودفع المانع وسلط عليه شياطين الإنس والجن، فلو لم تكن كل هذه مقتضية لكونه بئس المولى لم يكن خلق الكفر أيضًا مقتضيًّا لذلك. اهـ.