فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال الرازي: واعلم أنّ منشأ هذه الشبهة هو القول بالتشبيه فيجب تنزيه ذات الله تعالى عن مشابهة سائر الذوات خلاف ما يقوله المشبهة، وتنزيه صفاته عن مشابهة سائر الصفات خلاف ما يقوله الكرامية، وتنزيه أفعاله عن مشابهة سائر الأفعال أعني عن الغرض والدواعي واستحقاق المدح والذم خلاف ما يقوله المعتزلة، قال أبو القاسم الأنصاري رحمه الله تعالى: فهو سبحانه وتعالى خير النعت عزيز الوصف، فالأوهام لا تصوّره والأفكار لا تقدره، والعقول لا تمثله والأزمنة لا تدركه والجهات لا تحويه ولا تحدّه، صمديّ الذات سرمديّ الصفات.
ولما ذكر سبحانه وتعالى ما يتعلق بالإلهيات ذكر ما يتعلق بالنبوّات بقوله تعالى: {الله} أي: الملك الأعلى {يصطفي} أي: يختار ويختص {من الملائكة رسلًا} كجبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل عليهم الصلاة والسلام {ومن الناس} كإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم نزلت حين قال المشركون: {أأنزل عليه الذكر من بيننا} [ص]. فأخبر تعالى أنّ الاختيار إليه يختار من يشاء من خلقه {إنّ الله} أي: الذي له الجلال والجمال {سميع} لمقالتهم {بصير} بمن يتخذه رسولًا.
{يعلم ما بين أيديهم} أي: الرسل {وما خلفهم} أي: علمه محيط بما هم مطلعون عليه، وبما غاب عنهم، فلا يفعلون شيئًا إلا بإذنه {وإلى الله} أي: وحده تعالى: {ترجع} بغاية السهولة {الأمور} يوم يتجلى لفصل القضاء فيكون أمره ظاهرًا لا خفاء فيه، ولا يصدر شيء من الأشياء إلا على وجه العدل الظاهر لكل أحد، ولا يكون لأحد التفات إلى غيره، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بفتح التاء وكسر الجيم، والباقون بضم التاء وفتح الجيم، ولما أثبت سبحانه وتعالى أنّ الملك والأمر له وحده خاطب المقبلين على دينه وهم الخلص من الناس بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} أي: تلبسوا بالإيمان {اركعوا} تصديقًا لإيمانكم {واسجدوا} أي: صلوا الصلاة التي شرعتها لكم فإنها رأس العبادة ليكون دليلًا على صدقكم في الإقرار بالإيمان.
تنبيه:
إنما خص هذين الركنين في التعبير عن الصلاة لأنهما لمخالفتهما الهيئات المعتادة هما الدالان على الخضوع، فحسن التعبير بهما، وذكر عن ابن عباس أنّ الناس كانوا في أوّل الإسلام يركعون ولا يسجدون، وقيل: كان الناس أوّل ما أسلموا يسجدون بلا ركوع ويركعون بلا سجود حتى نزلت هذه الآية، ولما خص أفضل العبادة عمم بقوله تعالى: {واعبدوا} أي: بأنواع العبادة {ربكم} أي: المحسن إليكم بكل نعمة دينية ودنيوية، ولما ذكر عموم العبادة أتبعها ما قد يكون أعم منها مما صورته صورتها، أو قد يكون بلا نية، فقال: {وافعلوا الخير} أي: كله من القرب كصلة الأرحام وعيادة المريض ونحو ذلك من معالي الأخلاق بنية وبغير نية حتى يكون لكم ذلك عادة فيخف عليكم عمله لله تعالى؛ قال أبو حيان: بدأ تعالى بخاص وهو الصلاة، ثم بعام وهو: واعبدوا ربكم، ثم بأعمّ وهو: وافعلوا الخير {لعلكم تفلحون} أي: افعلوا هذا كله وأنتم راجون الفلاح وهو الفوز بالبقاء في الجنة طامعون فيه غر مستيقنين، ولا تتكلوا على أعمالكم، وقال الإمام أبو القاسم الأنصاريّ: لعل كلمة ترج تشعر بأنّ الإنسان قلما يخلو في أداء فريضة من تقصير، وليس هو على يقين من أنّ الذي أتى به مقبول عند الله والعواقب مستورة وكلٌ ميسر لما خلق له.
تنبيه:
اختلف في سجود التلاوة عند قراءة هذه الآية فذهب قوم إلى أنه يسجد عندها، وهو قول عمر وعليّ وابن عمر وابن مسعود وابن عباس، وبه قال ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق لظاهر ما فيها من الأمر بالسجود وقول البيضاوي ولقوله صلى الله عليه وسلم «فضلت سورة الحج بسجدتين من لم يسجدهما فلا يقرأهما» حديث ضعيف رواه الترمذي وضعفه، وذهب قوم إلى أنه لا يسجد وهو قول سفيان الثوري، وقول أبي حنيفة وأصحابه؛ لأنهم يقولون: قرن السجود بالركوع في ذلك، فدل ذلك على أنها سجدة صلاة لا سجدة تلاوة، ولما كان الجهاد أساس العبادة وهو مع كونه حقيقة في جهاد الكفار صالح لأنّ يعم كل أمر بمعروف ونهي عن منكر بالمال والنفس بالقول والفعل، بالسيف وغيره وكل جهاد في تهذيب النفس وإخلاص العمل ختم به فقال تعالى: {وجاهدوا في الله} أي: لله ومن أجله أعداء دينه الظاهرة كأهل الزيغ والباطنة كالهوى والنفس، وقول البيضاوي: وعنه عليه الصلاة والسلام أنه رجع من غزوة تبوك فقال: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر». حديث رواه البيهقي وضعف إسناده، وقال غيره: لا أصل له، قيل: أراد بالأصغر جهاد الكفار وبالأكبر جهاد النفس {حق جهاده} أي: باستفراغ الطاقة في كل ما أمر به من جهاد العدوّ والنفس على الوجه الذي أمر به من الحج والغزو وغيرهما.
فإن قيل: ما وجه هذه الإضافة، وكان القياس في حق الجهاد في الله أو حق جهادكم في الله، كما قال تعالى: {وجاهدوا في الله}؟
أجيب: بأنّ الإضافة تكون بأدنى ملابسة واختصاص، فلما كان الجهاد مختصًا بالله من حيث أنه مفعول لأجله صحت إضافته إليه، وعن مجاهد عن الكلبي أنّ هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن]. ولما أمر الله تعالى بهذه الأوامر أتبعها ببعض ما يجب به شكره وهو كالتعليل لما قبله فقال تعالى: {هو اجتباكم} أي: اختاركم لدينه ولنصرته، وجعل الرسالة فيكم والرسول منكم وجعله أشرف الرسل، ودينه أشرف الأديان، وكتابه أعظم الكتب، وجعلكم لكونكم أتباعه خير الأمم {وما جعل عليكم في الدين} أي: الذي اختاره لكم {من حرج} أي: من ضيق وشدّة وهو أنّ المؤمن لا يبتلى بشيء من الذنوب إلا جعل الله تعالى له منه مخرجًا بعضها بالتوبة وبعضها بردّ المظالم والقصاص، وبعضها بأنواع الكفارات من الأمراض والمصائب وغير ذلك، فليس في دين الإسلام ما لا يجد العبد سبيلًا إلى الخلاص من الذنوب ومن العقاب لمن وفقه الله تعالى وسهله عند الضرورات كالقصر والتيمم وأكل الميتة والفطر للمريض والمسافر، وغير ذلك؛ قال صلى الله عليه وسلم «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» رواه البخاري، وعن ابن عباس أنه قال: الحرج ما كان علي بني إسرائيل من الآصار التي كانت عليهم وضعها الله تعالى عن هذه الأمة، وقوله تعالى: {ملة أبيكم} نصب بنزع الخافض وهو الكاف أو على المصدر بفعل دل عليه مضمون ما قبله بحذف المضاف أي: وسع دينكم توسعة ملة أبيكم أو على الإغراء أي: اتبعوا ملة أبيكم، أو على الاختصاص أي: أعني بالدين ملة أبيكم كقولك: الحمد لله الحميد، وقوله تعالى: {إبراهيم} عطف بيان.
فإن قيل: لم كان إبراهيم أبًا للأمة كلها؟
أجيب: بأنه أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أبًا لأمّته؛ لأنّ أمّة الرسول في حكم أولاده. واختلف في عود ضمير {هو} على قولين أحدهما أنه يعود على إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأنّ لكل نبيّ دعوة مستجابة، ودعوة إبراهيم عليه السلام: {ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك}، فاستجاب الله تعالى له فجعلها محمدًا صلى الله عليه وسلم وأمّته، والثاني: أنه يعود على الله تعالى في قوله تعالى: {هو اجتباكم}، وروى عطاء عن ابن عباس أنه قال إن الله تعالى: {سمّاكم المسلمين من قبل} أي: في كل الكتب المنزلة التي نزلت قبل إنزال هذا لقرأن {وفي هذا} أي: وسماكم في هذا القرآن الذي أنرل عليكم من بعد إنزال تلك الكتب، وهذا القول كما قال الرازي: أقرب لأنه تعالى قال: {ليكون الرسول شهيدًا عليكم} أي: يوم القيامة أنه بلغكم {وتكونوا شهداء على الناس} أي: أنّ رسلهم بلغتهم، فبيّن أنه تعالى سمّاهم بذلك لهذا الغرض، وهذا لا يليق إلا بالله تعالى، وإنما كانوا شهداء على الناس لسائر الأنبياء؛ لأنهم لم يفرقوا بين أحد منهم وعلموا أنّ أخبارهم من كتابهم على لسان نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم فلذلك صحت شهادتهم وقبلها الحكم العدل وعن كعب أعطيت هذا الأمة ثلاثًا لم يعطهن إلا الأنبياء: جعلهم شهداء على الناس وما جعل عليهم في الدين من حرج، وقال تعالى: {ادعوني أستجب لكم}، وعن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قال: لم يذكر الله بالإيمان والإسلام غير هذه الأمّة ذكرها بهما وكرّرهما جميعًا، ولم يسمع بأمة ذكرت بالإسلام والإيمان غيرها وعن مكحول أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «تسمى الله عز وجل باسمين سمى بهما أمّتي؛ هو السلام وسمى أمتي المسلمين، وهو المؤمن وسمى أمتي المؤمنين».
تنبيه:
في الآية دليل على أنّ شهادة غير المسلم ليست مقبولة، ولما ندبهم تعالى ليكونوا خير الأمم تسببب عن ذلك قوله تعالى: {فأقيموا الصلاة} التي هي أركان قلوبكم وصلة ما بينكم وبين ربكم أي: داوموا عليها {وآتوا الزكاة} التي هي طهرة أبدانكم، وصلة بينكم وبين إخوانكم {واعتصموا بالله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال في جميع ما أمركم به من المناسك التي تقدمت وغيرها، ثم علل تعالى أهليته بقوله تعالى: {هو} أي: وحده {مولاكم} أي: المتولي لجميع أموركم فهو ينصركم على كل من يعاديكم بحيث إنّ تتمكنوا من إظهار هذا الدين من مناسك الحج وغيرها، ثم علل الأمر بالاعتصام وتوحده بالولاية بقوله تعالى: {فنعم المولى} أي: هو {ونعم النصير} أي: الناصر لكم لأنه تعالى إذا تولى أحدًا كفاه كل ما أهمه وإذا نصر أحد أعلاه عن كل من خاصمه «ولا يزال العبد يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببت» الحديث إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، وهذا نتيجة التقوى، وما قبله من أفعال الطاعة دليلها فقد انطبق آخر السورة على أوّلها ورد مقطعها على مطلعها، وقول البيضاوي تبعًا للزمخشري عن النبي صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الحج أعطي من الأجر كحجة حجها وعمرة اعتمرها بعدد من حج واعتمر فيما مضى وفيما بقي» حديث موضوع. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {يأَيُّهَا الناس ضُرِبَ مَثَلٌ} هذا متصل بقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سلطانا} [الحج: 71] قال الأخفش: ليس ثم مثل، وإنما المعنى: ضربوا لي مثلًا {فاستمعوا} قولهم، يعني: أن الكفار جعلوا لله مثلًا بعبادتهم غيره، فكأنه قال: جعلوا لي شبهًا في عبادتي فاستمعوا خبر هذا الشبه.
وقال القتيبي: إن المعنى: يا أيها الناس، مثل من عبد آلهة لم تستطع أن تخلق ذبابًا، وإن سلبها شيئًا لم تستطع أن تستنقذه منه.
قال النحاس: المعنى ضرب الله عز وجل لما يعبدونه من دونه مثلًا.
قال: وهذا من أحسن ما قيل فيه، أي بين الله لكم شبهًا ولمعبودكم.
وأصل المثل: جملة من الكلام متلقاة بالرضا والقبول، مسيرة في الناس مستغربة عندهم، وجعلوا مضربها مثلًا لموردها، ثم قد يستعيرونها للقصة أو الحالة أو الصفة المستغربة لكونها مماثلة لها في الغرابة كهذه القصة المذكورة في هذه الآية.
والمراد بما يدعونه من دون الله: الأصنام التي كانت حول الكعبة وغيرها.
وقيل: المراد بهم: السادة الذين صرفوهم عن طاعة الله لكونهم أهل الحلّ والعقد فيهم.
وقيل: الشياطين الذين حملوهم على معصية الله، والأوّل أوفق بالمقام وأظهر في التمثيل، والذباب: اسم للواحد يطلق على الذكر والأنثى، وجمع القلة أذبة، والكثرة ذبان مثل غراب وأغربة وغربان.
وقال الجوهري: الذباب معروف، الواحد ذبابة.
والمعنى: لن يقدروا على خلقه مع كونه صغير الجسم حقير الذات، وجملة: {وَلَوِ اجتمعوا لَهُ} معطوفة على جملة أخرى شرطية محذوفة، أي لو لم يجتمعوا له لن يخلقوه ولو اجتمعوا له، والجواب محذوف والتقدير: لن يخلقوه وهما في محل نصب على الحال، أي لن يخلقوه على كلّ حال.
ثم بين سبحانه كمال عجزهم وضعف قدرتهم فقال: {وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} أي إذا أخذ منهم الذباب شيئًا من الأشياء لا يقدرون على تخليصه منه لكمال عجزهم وفرط ضعفهم، والاستنقاذ والإنقاذ: التخلص، وإذا عجزوا عن خلق هذا الحيوان الضعيف، وعن استنقاذ ما أخذه عليهم؛ فهم عن غيره مما هو أكبر منه جرمًا وأشدّ منه قوّة؛ أعجز وأضعف، ثم عجب سبحانه من ضعف الأصنام والذباب، فقال: {ضَعُفَ الطالب والمطلوب} فالصنم كالطالب من حيث إنه يطلب خلق الذباب أو يطلب استنقاذ ما سلبه منه، والمطلوب: الذباب.
وقيل: الطالب عابد الصنم، والمطلوب: الصنم، وقيل: الطالب: الذباب، والمطلوب: الآلهة.
ثم بين سبحانه أن المشركين الذين عبدوا من دون الله آلهة عاجزة إلى هذه الغاية في العجز، ما عرفوا الله حقّ معرفته فقال: {مَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} أي ما عظموه حقّ تعظيمه ولا عرفوه حقّ معرفته، حيث جعلوا هذه الأصنام شركاء له مع كون حالها هذا الحال، وقد تقدّم في الأنعام {إِنَّ الله لَقَوِيٌّ} على خلق كل شيء {عَزِيزٌ} غالب لا يغالبه أحد، بخلاف آلهة المشركين، فإنها جماد لا تعقل ولا تنفع ولا تضرّ ولا تقدر على شيء.
ثم أراد سبحانه أن يردّ عليهم ما يعتقدونه في النبوّات والإلهيات فقال: {الله يَصْطَفِى مِنَ الملائكة رُسُلًا} كجبريل وإسرافيل وميكائيل وعزرائيل ويصطفي أيضًا رسلًا {مِنَ الناس} وهم الأنبياء، فيرسل الملك إلى النبيّ، والنبيّ إلى الناس، أو يرسل الملك لقبض أرواح مخلوقاته، أو لتحصيل ما ينفعهم، أو لإنزال العذاب عليهم {إِنَّ الله سَمِيعٌ} لأقوال عباده {بَصِيرٌ} بمن يختاره من خلقه {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وما خَلْفَهُمْ} أي ما قدّموا من الأعمال وما يتركونه من الخير والشرّ كقوله تعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَءَاثَارَهُمْ} [ياس: 12].
{وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} لا إلى غيره.
ولما تضمن ما ذكره من أن الأمور ترجع إليه، الزجر لعباده عن معاصيه، والحضّ لهم على طاعاته؛ صرح بالمقصود فقال: {يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ اركعوا واسجدوا} أي صلوا الصلاة التي شرعها الله لكم، وخصّ الصلاة لكونها أشرف العبادات، ثم عمّم فقال: {وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ} أي افعلوا جميع أنواع العبادة التي أمركم الله بها {وافعلوا الخير} أي ما هو خير، وهو أعم من الطاعة الواجبة والمندوبة.
وقيل: المراد بالخير هنا: المندوبات.
ثم علل ذلك بقوله: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي إذا فعلتم هذه كلها رجوتم الفلاح.
وهذه الآية من مواطن سجود التلاوة عند الشافعي ومن وافقه، لا عند أبي حنيفة ومن قال بقوله، وقد تقدّم أن هذه السورة فضلت بسجدتين، وهذا دليل على ثبوت السجود عند تلاوة هذه الآية.
ثم أمرهم بما هو سنام الدين وأعظم أعماله، فقال: {وجاهدوا فِي الله} أي في ذاته ومن أجله، والمراد به الجهاد الأكبر، وهو الغزو للكفار ومدافعتهم إذا غزوا بلاد المسلمين، وقيل: المراد بالجهاد هنا: امتثال ما أمرهم الله به في الآية المتقدّمة، أو امتثال جميع ما أمر به ونهى عنه على العموم، ومعنى {حَقَّ جهاده}: المبالغة في الأمر بهذا الجهاد؛ لأنه أضاف الحق إلى الجهاد، والأصل إضافة الجهاد إلى الحق، أي جهادًا خالصًا لله، فعكس ذلك لقصد المبالغة، وأضاف الجهاد إلى الضمير اتساعًا، أو لاختصاصه به سبحانه من حيث كونه مفعولًا له ومن أجله.
وقيل: المراد {بحق جهاده}: هو أن لا تخافوا في الله لومة لائم.
وقيل: المراد به استفراغ ما في وسعهم في إحياء دين الله.
وقال مقاتل والكلبي: إن الآية منسوخة بقوله تعالى: {فاتقوا الله مَا استطعتم} [التغابن: 16].
كما أن قوله: {اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] منسوخ بذلك، ورد ذلك بأن التكليف مشروط بالقدرة، فلا حاجة إلى المصير إلى النسخ.
ثم عظم سبحانه شأن المكلفين بقوله: {هُوَ اجتباكم} أي اختاركم لدينه، وفيه تشريف لهم عظيم.
ثم لما كان في التكليف مشقة على النفس في بعض الحالات قال: {وما جَعَلَ عَلَيْكمْ في الدين مِنْ حَرَجٍ} أي من ضيق وشدّة.