فصل: مطلب هجرة مريم بعيسى عليهما السلام إلى مصر، وأن الذي أمر اللّه به الأنبياء أمر به المؤمنين، وأن أصول الدين متساوية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وإن هنا مخففة من الثقيلة، واللام فيها بعدها اللام الفارقة بين النافية والمخففة، وما قيل إنها نافية فليس بشيء، لأن النافية لا يليها اللام والجملة حالية {ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} 31 هم قوم عاد {فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} هود عليه السلام فقال لهم {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ} 32 اللّه ولا تخافون أن يهلككم كما أهلك قوم نوح قبلكم {وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ} وحضورهم لدينا بالموقف العظيم وجحدوا الحساب والعقاب {وَأَتْرَفْناهُمْ} نعّمناهم ووسعنا عليهم {فِي الْحَياةِ الدُّنْيا} وبلغناهم آجالهم وما قدر لهم فيها، ومقول القول {ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} 33 منه حذف من الثاني بدلالة الأول يريدون أن الرسل لا تكون من البشر بل من الملائكة كما قال من قبلهم إذ تشابهت قلوبهم، فكل ما نطق به الأوائل تدرج إلى الأواخر فتكلموا به، ولهذا قالوا الكفر ملّة واحدة، أي من حيث الأصول، وقال أيضا بعضهم لبعض {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخاسِرُونَ} 34 مكانتكم وسطوتكم، وهذا هو المانع الحقيقي لهم ولغيرهم من الإيمان باللّه ورسله، أعماهم اللّه أنفوا من الانقياد إلى من هو مثلهم في الأصل وقد شرفه اللّه بالرسالة وعبدوا أعجز منهم لأجل الدنيا، ولو اهتدوا بهدى أنبيائهم لربحوا الدنيا والآخرة، لأن الأنبياء لا يريدون الرياسة التي هي من شأنهم، ولم يقصدوا بدعوتهم التفوق عليهم،
وقال أيضا بعضهم لبعض غافلين عن كيفية إيجادهم {أَيَعِدُكُمْ} هذا الرسول {أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرابًا وَعِظامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} 35 من قبوركم أحياء كما كنتم في الدنيا {هَيْهاتَ هَيْهاتَ} أي بعد بعدا بعيدا {لِما تُوعَدُونَ} 36 من البعث بعد الموت وإكسابكم حياة ثانية، خذلهم اللّه نسوا خلقهم من العدم على طريقة الإبداع وجحدوا إعادتهم لحالتهم الأولى وقالوا عتوا وعنادا {إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا} لا حياة بعدها أبدا {نَمُوتُ وَنَحْيا} أي أيعقل أن نموت ثم نحيا؟ كلا لا صحة لهذا، والمعنى على ما ذكره المفسرون نحيا ونموت على أن العطف بالواو لا يفيد ترتيبا ولا تعقيبا، للعلم بأن الإحياء أولا ثم الإماتة، وأرى أن الأول أولى لقولهم {وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} 37 بعد موتنا أبدا {إِنْ هُوَ} وقالوا أيضا ما هذا الذي يدعوكم إلى هذه الدعوة المبتدعة {إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} بقوله بوجود حياة أخرى {وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} 38 بمصدقين اختلاقه وافتراءه ولا نسمع لقوله، ولما أيس منهم دعى عليهم {قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ} 39 فأجاب اللّه دعاءه {قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ} 40 على تكذيبهم لك {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ} من السيد جبريل عليه السلام فتصدعت لهولها قلوبهم فأهلكوا جميعا، قال الشاعر:
صاح الزمان بآل برمك ** صيحة خروا لشدتها على الأذقان

قال تعالى: {فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً} بتخفيف الثاء أي يابسين كالأوراق والعيدان التي يجرفها السيل وبالتشديد أيضا، قال امرئ القيس:
كأن ذرى رأس المجيمر غدوة ** من السيل والغثّاء فلكة مغزل

والمجيمر جبل من جبال بني أسد {فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} 41 أي هلاكا، من المصادر المنصوبة بأفعال لا ينطق بها ولا تكتب ولا يستعمل إظهارها.
{ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ} 42 أيضا وأرسلنا إليهم رسلا فكذبوهم، وهذه كالتسلية لحضرة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم لئلا يضيق صدره من تكذيب قومه ليتأسى بمن قبله وقبلهم، وكل من هذه القرون أهلكت بأجلها المعين لها في علم اللّه المقدر على تكذيبهم لرسلهم أيضا، لقوله تعالى: {ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها} المقدر لإهلاكها {وَما يَسْتَأْخِرُونَ} 43 عنه لحظة واحدة {ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا} واحدا بعد واحد متتابعين غير متواصلين إذ جعلنا بين كل رسول وآخر فترة، بأن كان إرسال كل رسول متأخرا عن إنشاء قرن مخصوص به كما يدل عليه قوله: {كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضًا} بالإهلاك {وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ} لمن بعدهم يتسامرون بشأنهم {فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} 44 باللّه ولا يصدقون رسله {ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ} 45 واضح بقوة وحجة وبرهان عظيم {إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا} عليهما وأنقوا منهما وتعاظموا {وَكانُوا قَوْمًا عالِينَ} 46 بزعمهم على غيرهم وذى سلطان أكبر من غيرهم {فَقالُوا} على طريق الاستفهام الإنكاري {أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ} 47 أي كيف يكون ذلك وهل يتبع الأعلى الأدنى منه؟ كلا، وهذه الجملة حالية، وكان عندهم أن كل من دان لملك فهو عابد له، وعند العرب كذلك {فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ} 48 غرقا، وتقدمت قصص هؤلاء الأنبياء مع أقوامهم، وكيفية دعوتهم وإهلاكهم في الآية 59 فما بعدها من سورة الأعراف ج 1 فراجعها، {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ} أي قومه {يَهْتَدُونَ} 49 فمنم من هدى اللّه ومنهم من حقت عليه الضلالة {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} دالة على قدرتنا لأنا أوجدناه من غير أب، ولم يقل آيتين للسبب الذي أشرنا إليه في الآية 91 من سورة الأنبياء المارة، ولما عرب هو وأمه إلى مصر خشية تسلط أعدائه عليه حفظناهما منهم {وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ} مكان مرتفع في مصر قرب النيل.

.مطلب هجرة مريم بعيسى عليهما السلام إلى مصر، وأن الذي أمر اللّه به الأنبياء أمر به المؤمنين، وأن أصول الدين متساوية:

وذلك أنه عليه السلام بعد أن أتت به أمه من بيت لحم محل ولادته إلى قريتها الناصرة وأظهر اللّه له المعجزات، كان الجبار هيدروس أمر بقتل الأطفال الذين ولدوا في بيت لحم، لما أخبر أن منهم من يصير سببا لخراب ملكه، كما فعل قبله النمروذ وفرعون، وعلمت أمه أنه يريد قتله انتدبت الرجل الصالح يوسف النجار وهربها إلى مصر.
وليس المراد بهذه الربوة بيت لحم إذ لا ماء جار فيها كما أشرنا إليه في الآية 24 من سورة مريم، قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى: {وَآوَيْناهُما} إلخ يعني لمصر، لأنها خزائن الأرض كلها وسلطانها سلطان الأرضين كلها، ألا ترى إلى قول يوسف عليه السلام {اجعلني على خزائن الأرض} الآية 55 من سورته المارة، ففعل فأغات الناس بمصر وخزائنها.
ولم يذكر اللّه تعالى مدينة بعينها بمدح إلا مكة ومصر، وهذا هو الصحيح، واللّه أعلم.
إذ ليس المراد هنا محل الولادة، بل محل الهجرة، لأن اللّه تعالى أخبر في هذه الآية بأنه هو وأمه، وأنها لما ذهبت به إلى بيت لحم لم يكن مولودا حتى ينوه به وبقي في مصر حتى بلغ أشده أتى به وأمه إلى الأرض المقدسة ليبث دعوته في قريته الناصرة وما حولها.
قالوا إن قرية الناصرة وصخرة بيت المقدس أقرب مواقع الأرض المقدسة من السماء بثمانيةعشر ميلا، ومن هذه القربة اشتق اسم النصارى {ذاتِ قَرارٍ} من الأرض {وَمَعِينٍ} 50 ماء جار هو نهر النيل، ومن ظن أن هذه الآية تدل على محل الولادة لا على محل الهجرة، فسر السرى في سورة مريم بجدول ماء من حيث لا جدول ماء هناك كما ذكرناه فيها، وإنما هذا المعين في المحل الذي آواهما إليه كما أشرنا إليه أعلاه.
هذا ولما أنهى ما قصه اللّه على رسوله من أخبار بعض الأنبياء وأممهم، شرع يخاطبه ضمن الرسل كافة بأن يداوم على ما هو عليه بقوله: {يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحًا} لأنفسكم وأممكم والناس أجمعين، وهم لا شك يعملون ذلك كله، وإنما المراد أمرهم بالدوام على ما هم عليه، وعدم الالتفات لتكذيب أقوامهم ومخالفتهم لهم {إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} 51 ويجوز أن يراد بهذا الخطاب أقوامهم أيضا لما فيه من معنى التحذير، على أن الخطاب للرسل خطاب لأقوامهم.
روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم «إن اللّه تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن اللّه أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات} الآية، وقال {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمدّ بصره إلى السماء، يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب؟».
وذلك لأن أكل الخلال من شروط الاستجابة التي لا بد منها، كما سيأتي في الآية 186 من سورة البقرة، فكيف إذا كان كلّه حراما أيستجاب له؟ كلا ثم كلا.
إلا أن يشاء اللّه القائل {إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً} تقدم مثلها في الآية 92 من سورة الأنبياء المارة، وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحًا} الآية 13 من سورة الشورى المارة، وقال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} الآية 163 من سورة النساء، فيفهم من هذا ومما قدمناه في آية الأنبياء، أن الشرائع كلها من حيث أصول الإيمان كالاعتراف بالوحدانية للّه وإرسال الرسل والمعاد واحدة لا فرق بينها أصلا، وهو كذلك، لأن الاختلاف الحاصل عبارة عما يتعلق في هذه الأصول مما هو رحمة وتخفيف للأمة بما يوافق العصور وأهلها، وفي الفروع المتعلقة بأنواع العبادات المالية والبدنية والمشتركة، قال تعالى: {ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها} الآية 107 من البقرة، ومن هنا أخذت قاعدة: تتبدل الأحكام بتبدل الأزمان، ومنها قاعدة تعديل القوانين الموقتة بما يوافق المصلحة للدولة والأمة، وقدمنا ما يتعلق في هذا في الآية 13 من سورة الشورى فراجعها.
{وَأَنَا رَبُّكُمْ} الإله الواحد الذي لا رب غيره {فَاتَّقُونِ} 52 لا تخالفوا أمري وأمر النبي المرسل إليكم من قبلي إذ يبلغكم كلامي الذي هو من حيث الأس واحد أيضا، {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا} قطعا مختلفة وأديانا متفرقة وصار {كُلُّ حِزْبٍ} منهم {بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} 53 لزعمهم أن ما هم عليه هو الحق، وما سواء باطل، لأنهم لم يتفقوا على ما أمروا به من قبل الرسل مما هو متعلق بـ أمر الدين، فتفرقوا وتعادوا من أجل هذا التحزب، وهكذا مصير كل أمة تتحزّب وتتفرق، ولهذا أمر الرسول بجمع الكلمة، وقال: الجماعة رحمة والفرقة عذاب، راجع الآية 30 من سورة المؤمن المارة، لأن الدين في الأصل كله واحد كما أن الرب واحد، وما يأتيهم من قبل الرسل واحد، لأنه من الرب الواحد، وهذه الآية تشعر بذمّهم لأنهم آمنوا ببعض ما في كتبهم وكفروا ببعض، فسببوا تشتيت الكلمة وانحاز كل منهم إلى جهة ترمي بخلاف ما عليه الحزب الآخر.
وتؤذن هذه الآيات بأن قوم محمد صلى الله عليه وسلم تقولوا فيه الأقاويل، واختلفوا فيما بينهم بشأنه وشأن كنابه وربه عز وجل، فاتبعوا الباطل وعملوا عن الحق الذي جاءهم به.
وإذا كان هذا شأنهم يا حبيبي {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ} غفلتهم وجهلهم وعماهم {حَتَّى حِينٍ} 54 انقضاء الأجل المضروب لهم {أَيَحْسَبُونَ} المؤمنون من قومك {أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ} نمنح به هؤلاء الكفرة {مِنْ مالٍ وَبَنِينَ} 55 في هذه الدنيا هو خير لهم؟ كلا، قال تعالى: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ} الآية 55 من سورة التوبة، وإذا كان هذا شأنهم فاعلم يا سيد المرسلين أنا نحن إله الكل وإنّا كنا ولا زلنا {نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ} لا لرضانا عنهم بل لنستدرجهم بها ولينهمكوا في معاصيهم ونزداد سخطا عليهم {إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْمًا} الآية 178 من آل عمران {بَلْ لا يَشْعُرُونَ} 56 أن ذلك لشرهم لأنهم أشباه البهائم يصرفون وجودهم لشهواتهم ولا يتأملون فيما ينفعهم ويضرهم، والاستدراك في قوله أيحسبون أي لا فطنة لهم ولا شعور حتى يتدبروا عاقبة أمرهم ويعملوا ما ندر لهم من الخير، هل هو استدراج أو مسارعة في الخير؟ وهذه الآية على حدّ قوله تعالى: {وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ} الآية المكررة في سورة التوبة، وهي حجة على القائلين أن اللّه تعالى لا يفعل إلا ما هو الأصلح للعبد، لأنها تصرح أن هذا العمل الذي أراده اللّه لهؤلاء ليس بأصلح لهم في دينهم؟
وقد ألمعنا لهذه الآية في الآية 19 من سورة الأنعام المارة، وفيها ما يرشدك لمراجعة المواضع المفصل بها هذا البحث فراجعها، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} 57 خائفون وجلون {وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} 58 إيمانا تاما محصنا لا يجادلون فيها ولا يشكون ولا يحصل لهم ريب أو مرية في شيء منها {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} 59 به أحدا ولا شيئا {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ} يفعلون {ما آتَوْا} من الأعمال {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} خائفة من اللّه أن يعذبهم عليها لأنهم موقنون {أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ} 60 وأنه يجازيهم على أفعالهم فتبقى قلوبهم مشغولة بخوف اللّه من تلك الأفعال التي علموا أنها غير مرضية، وشكهم في عدم قبول أعمالهم الصالحة وشوبها بالرياء، وخوفهم هذا ندم وتوبة، فلا يبعد أن يتجاوز عنهم ولا يعاقبهم عليها بمنه وفضله {أُولئِكَ} المتصفون بهذه الصفات الحسنة لا المتقدمون الموسومون بضدها هم {يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ} الأعمال الصالحة التي تعود عليهم بالخير من ربهم {وَهُمْ لَها سابِقُونَ} 61 لأنها توصلهم إلى الجنة مقر أهل الخير، ولهذا فإنهم مبادرون لها {وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَها} لأن الدّين الذي كلفتم به لا حرج به عليكم، وإنما تعملون منه ما تستطيعون فمن لم يكن ذا مال لا يكلف بالصدقة والحج، والعاجز لا يكلف بالجهاد والصوم، ومن لا يقدر على القيام في الصلاة فيصلي قاعدا أو مضطجعا، ومن كان في سفر فله أن يفطر في الصوم ويقصر في الصلاة وأركان الدين، عبارة عن هذه لا غير، وكلها لا حرج فيها، أما أصل الدين وهو كلمة الشهادة والاعتراف بالرسل والمعاد فلا عسر فيها على أحد البتة، لأنها عبارة عن النطق باللسان والإيقان في القلب، وإذا عجز عن النطق اكتفى بالإيقان القلبي، والإشارة من الأخرس كافية، وقد شرع اللّه تعالى الرخص لعباده فيما يأتون ويذرون، راجع الآية 105 من سورة النحل المارة {وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ} بينا فيه الأعمال الصالحة الخالصة من المشوبة والقادر من العاجز والمكلّف من غيره بيانا كافيا شافيا، فلا حجة لكم أيها الناس بعده، وعندنا كتاب مثبت فيه ما يقع منكم من المناقب والمثالب، وسينال ما فيه من ثواب وعقاب {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} 62 شيئا فلا يزاد في عمل عامل ولا ينقص منه، ولا يعاقب العاجز فيما يسبقه به القادر من الأعمال الحسنة.