فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} لأنه الحق المأذون فيه {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} أي: الكاملون في العدوان المرتكبونه على أنفسهم.
تنبيهات:
الأول: دلت الآية على تعليق فلاح العبد على حفظ فرجه، وأنه لا سبيل له إلى الفلاح بدونه، وتضمنت هذه الآية ثلاثة أمور: من لم يحفظ فرجه لم يكن من المفلحين. وأنه من الملومين. ومن العادين. ففاته الفلاح واستحق اسم العدوان ووقع في اللوم. فمقاساة ألم الشهوة ومعاناتها، أيسر من بعض ذلك. وقد أمر الله تعالى نبيه أن يأمر المؤمنين بغض أبصارهم وحفظ فروجهم. وأن يعلمهم أنه مشاهد لأعمالهم، مطلع عليها، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. ولما كان مبدأ ذلك من قبل البصر، جعل الأمر بغضّه مقدمًا على حفظ الفرج. فإن الحوادث مبدؤها من النظر. كما أن معظم النار مبدؤها من مستصغر الشرر. ثم تكون نظرة، ثم تكون خطرة، ثم خطوة، ثم خطيئة. ولهذا قيل: من حفظ هذه الأربعة أحرز دينه: اللحظات، والخطرات، واللفظات. والخطوات. فينبغي للعبد أن يكون بوّاب نفسه على هذه الأبواب الأربعة. ويلازم الرباط على ثغورها. فمنها يدخل عليه العدوّ، فيجوس خلال الديار ويتبروا ما علوا تتبيرًا.
الثاني: روي عن الإمام أحمد أنه قال: لا أعلم بعد القتل ذنبًا أعظم من الزنى.
واحتج بحديث عبد الله بن مسعود أنه قال: يا رسول الله أي: الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك قال قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك. قال قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك». والنبيّ صلى الله عليه وسلم ذكر من كل نوع أعلاه ليطابق جوابه سؤال السائل. فإنه سئل عن أعظم الذنب فأجابه بما تضمن ذكر أعظم أنواعه وما هو أعظم كل نوع، فأعظم أنواع الشرك أن يجعل العبد لله ندًّا. وأعظم أنواع القتل أن يقتل ولده خشية أن يشاركه في طعامه وشرابه. وأعظم أنواع الزنى أن يزني بحليلة جاره. فإن مفسدة الزنى تتضاعف بتضاعف ما انتهكه من الحق. فالزنى بالمرأة التي لها زوج، أعظم إثمًا وعقوبة من الزنى بالتي لا زوج لها إذ فيه انتهاك حرمة الزوج وإفساد فراشه، وتعليق نسب عليه، لم يكن منه، وغير ذلك من أنواع أذاه. فهو أعظم إثمًا وجرمًا من الزنى بغير ذات الزوج فإذا كان زوجها جارًا له، انضاف إلى ذلك سوء الجوار، وأذى جاره بأعلى أنواع الأذى. وذلك من أعظم البوائق. وقد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه». ولا بائقة أعظم من الزنى بامرأته. فالزنى بمائة امرأة لازوج لها أيسر عند الله من الزنى بامرأة الجار. فإن كان أخًا له، أو قريبًا من أقاربه، انضم إلى ذلك قطيعة الرحم، فيتضاعف الإثم. فإن كان الجار غائبًا في طاعة الله، كالصلاة وطلب العلم والجهاد، تضاعف الإثم، فإن اتفق أن تكون المرأة رحمًا منه، انضاف إلى ذلك قطيعة رحمها.
فإن اتفق أن يكون الزاني محصنًا، كان الإثم أعظم. فإن كان شيخًا كان أعظم إثمًا وهو أحد الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم فإن اقترن بذلك أن يكون في شهر حرام أو بلد حرام أو وقت معظم عند الله، كأوقات الصلاة وأوقات الإجابة، تضاعف الإثم.
وعلى هذا، فاعتبر مفاسد الذنوب وتضاعف درجاتها في الإثم والعقوبة والله المستعان.
الثالث: أجمع المسلمون على أن حكم التلوّط مع المملوك كحكمه مع غيره، ومن ظن أن تلوط الإنسان مع مملوكه جائز، واحتجّ على ذلك بقوله تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} وقاس ذلك على أمته المملوكة، فهو كافر يستتاب كما يستتاب المرتد. فإن تاب وإلا قتل وضربت عنقه. وتلوط الإنسان بمملوكه كتلوطه بمملوك غيره. في الإثم والحكم. أفاد هذا وما قبله بتمامه الإمام ابن القيم في الجواب الكافي. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)}.
بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ سورة المؤمنون:
ذكر جل وعلا في هذه الآيات التي ابتدأ بها أول هذه السورة علامات المؤمنين المفلحين فقال: {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} أي فازوا وظفروا بخير الدنيا والآخرة.
وفلاح المؤمنين مذكور ذكرًا كثيرًا في القرآن كقوله: {وَبَشِّرِ المؤمنين بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ الله فَضْلًا كِبِيرًا} [الأحزاب: 47] وقوله: {الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} أصل الخشوع: السكون، والطمأنينة، والانخفاض ومنه قول نابغة ذبيان:
رماد ككحل العين لأيًا أبينه ** ونؤى كجذم الحوض أثلم خاشع

وهو في الشرع: خشية من الله تكون في القلب، فتظهر آثارها على الجوارح.
وقد عد الله الخشوع من صفات الدين أعد لهم مغفرة وأجرًا عظيمًا في قوله في الأحزاب {والخاشعين والخاشعات} [الأحزاب: 35] إلى قوله: {أَعَدَّ الله لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35].
وقد عد الخشوع في الصلاة هنا من صفات المؤمنين المفلحين، الذين يرثون الفردوس، وبين أن من لم يتصف بهذا الخشوع تصعب عليه الصلاة في قوله: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين} [البقرة: 45] وقد استدل جماعة من أهل العلم بقوله: {الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر حيث يسجد.
وقال صاحب الدر المنثور: وأخرج ابن مردويه، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء فنزلت {الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} فطأطأ رأسه». اهـ منه. وأكثر أهل العلم على أن المصلي ينظر إلى موضع سجوده، ولا يرفع بصره. وخالف المالكية الجمهور، فقالوا: إن المصلي ينظر أمامه لا إلى موضع سجوده، واستدلوا لذلك بقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} [البقرة: 144] قالوا: فلو نظر إلى موضع سجوده لاحتاج أن يتكلف ذلك بنوع من الانحناء، وذلك ينافي كمال القيام. وظاهر قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} لأن المنحني بوجهه إلى موضع سجوده، ليس بمول وجهه شطر المسجد الحرام، والجمهور على خلافهم كما ذكرنا.
واعلم أن معنى أفلح: نال الفلاح، والفلاح يطلق في لغة العرب على معنيين:
الأول: الفوز بالمطلوب الأكبر، ومنه قول لبيد:
فاعقلي إن كنت لما تعقلي ** ولقد أفلح من كان عقل

أي فاز من رزق العقل بالمطلوب الأكبر.
والثاني: هو إطلاق الفلاح على البقاء السرمدي في النعميم، ومنه قول لبيد أيضًا في رجز له:
لو أن حيًا مدرك الفلاح ** لناله ملاعب الرماح

يعني مدرك البقاء، ومنه بهذا المعنى قول كعب بن زهير، أو الأضبط بن قريع:
لكل هم من الهوم سعه ** والمسى والصبح لا فلاح معه

أي لا بقاء معه، ولا شك أن من اتصف بهذه الصفات التي ذكرها الله في أول هذه السورة الكريمة دخل الجنة كما هو مصرح به في الآيات المذكورة، وأن من دخل الجنة نال الفلاح بمعنييه المذكورين، والمعنيان اللذان ذكرنا للفلاح بكل واحد منهما، فسر بعض العلماء حديث الأذان والإقامة في لفظة: حي على الفلاح.
{وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من صفات المؤمنين المفلحين: إعراضهم عن اللغو. وأصل اللغو ما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال، فيدخل فيه اللعب واللهو والهزل، وما توجب المروءة تركه.
وقال ابن كثير {عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ} أي عن الباطل، وهو يشمل الشرك كما قاله بعضهم، والمعاصي كما قاله آخرون، وما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال. اهـ منه.
وما أثنى الله به على المؤمنين المفلحين في هذه الآية. أشار له في غير هذا الموضع كقوله: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرامًا} [الفرقان: 72] ومن مرورهم به كرامًا إعراضهم عنه، وعدم مشاركتهم أصحابه فيه وقوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ} [القصص: 55] الآية.
{وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4)}.
في المراد بالزكاة هنا وجهان من التفسير معروفان عند أهل العلم.
أحدهما: أن المراد بها زكاة الأموال، وعزاه ابن كثير للأكثرين.
الثاني: أن المراد بالزكاة هنا: زكاة النفس أي تطهيرها من الشرك، والمعاصي بالإيمان بالله، وطاعته وطاعة رسله عليهم الصلاة والسلام، وعلى هذا فالمراد بالزكاة كالمراد بها في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 9- 10] وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى} [الأعلى: 14]. الآية وقوله: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور: 21] وقوله: {خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً} [الكهف: 81] الآية وقوله: {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكاة} [فصلت: 6- 7] على أحد التفسيرين. وقد يستدل لهذا القول الأخير بثلاث قرائن.
الأولى: أن هذه السورة مكية، بلا خلاف، والزكاة إنما فرضت بالمدينة كما هو معلوم. فدل على أن قوله: {والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} نزل قبل فرض زكاة الأموال المعروفة، فدل على أن المراد به غيرها.
القرينة الثانية: هي أن المعروف في زكاة الأموال: أن يعبر عن أدائها بالإيتاء كقوله تعالى: {وَآتُواْ الزكاة} [البقرة: 43] وقوله: {وَإِيتَاءَ الزكاة} [الأنبياء: 73] ونحو ذلك. وهذه الزكاة المذكورة هنا، لم يعبر عنها بالإيتاء، بل قال تعالى فيها {والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} فدل على أن هذه الزكاة: أفعال المؤمنين المفلحين، وذلك أولى بفعل الطاعات، وترك المعاصي من أداء مال.
الثالثة: أن زكاة الأموال تكون في القرآن عادة مقرونة بالصلاة، من غير فصل بينهما كقوله: {وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة} [البقرة: 43] وقوله: {وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة} [البقرة: 277] وقوله: {وَإِقَامَ الصلاة وَإِيتَاءَ الزكاة} [الأنبياء: 73] وهذه الزكاة المذكورة هنا فصل بين ذكرها، وبين ذكر الصلاة بجملة {والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3].
والذين قالوا المراد بها زكاة الأموال قالوا: إن أصل الزكاة فرض بمكة قبل الهجرة، وأن الزكاة التي فرضت بالمدينة سنة اثنتين هي ذات النصب، والمقادير الخاصة.
وقد أوضحنا هذا القول في الأنعام في الكلام على قوله تعالى: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وقد يستدل، لأن المراد بالزكاة في هذه الآية غير الأعمال التي تزكى بها النفوس من دنس الشرك والمعاصي، بأنا لو حملنا معنى الزكاة على ذلك، كان شاملًا لجميع صفات المؤمنين المذكورة في أول هذه السورة، فيكون كالتكرار معها، والحمل على التأسيس والاستقلال أولى من غيره، كما تقرر في الأصول. وقد أوضحناه في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] الآية والذين قالوا: هي زكاة الأموال قالوا: فاعلون أي مؤدون، قالوا: وهي لغة معروفة فصيحة، ومنها قول أمية بن أبي الصلت:
المطعمون الطعام في السنة الأز ** مة والفاعلون للزكوات

وهو واضح، بحمل الزكاة على المعنى المصدري بمعنى التزكية للمال، لأنها فعل المزكي كما هو واضح. ولا شك أن تطهير النفس بأعمال البر، ودفع زكاة المال كلاهما من صفات المؤمنين المفلحين الوارثين الجنة.
وقد قال ابن كثير رحمه الله: وقد يحتمل أن المراد بالزكاة ها هنا: زكاة النفس من الشرك، والدنس إلى أن قال ويحتمل أن يكون كلا الأمرين مرادًا وهو زكاة النفوس، وزكاة الأموال فإنه من جملة زكاة النفوس، والمؤمن الكامل هو الذي يفعل هذا وهذا والله أعلم. اهـ منه.
{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)}.