فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد أوضحنا ذلك في سورة مريم، وقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الذين هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4- 5] الآية. وقال تعالى في ذم المنافقين {وَإِذَا قاموا إِلَى الصلاة قَامُواْ كسالى يُرَاءُونَ الناس} [النساء: 142] الآية. وفي الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أي العمل أحب إلى الله؟ قال الصلاة على وقتها» الحديث. وقد قدمناه والأحاديث في فضل الصلاة والمحافظة عليها كثيرة جدًا، ولكن موضوع كتابنا بيان القرآن بالقرآن، ولا نذكر غالبًا البيان من السنة، إلا إذا كان في القرآن بيان غير وافٍ بالمقصود، فنتمم البيان من السنة كما قدمناه مرارًا. وذكرناه في ترجمة هذا الكتاب المبارك.
{أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن المؤمنين المتصفين بالصفات، التي قدمناهم الوارثون، وحذف مفعول اسم الفاعل الذي هو الوارثون، لدلالة قوله: {الذين يَرِثُونَ الفردوس} عليه. والفردوس: أعلا الجنة، وأوسطها، ومنه تفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن جل وعلا، وعبر تعالى عن نيل الفردوس هنا باسم الوارثة.
وقد أوضحنا معنى الوارثة والآيات الدالة على ذلك المعنى، كقوله تعالى: {تِلْكَ الجنة التي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا} [مريم: 63] وقوله: {ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43] وقوله تعالى: {وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَاءُ} [الزمر: 74] الآية في سورة مريم في الكلام على قوله: {تِلْكَ الجنة التي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا} [مريم: 63] فأغنى ذلك عن إعادته هنا، وقرأ هذا الحرف: حمزة والكسائي: على صلاتهم بغير واو، بصيغة الإفراد وقرأ الباقون: {على صلواتهم} بالواو المفتوحة بصيغة الجمع المؤنث السالم والمعنى واحد، لأن المفرد الذي هو اسم جنس، إذا أضيف إلى معرفة، كان صيغة عموم كما هو معروف في الأصول. وقوله هنا: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي بلا انقطاع أبدًا، كما قال تعالى: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108] أي غير مقطوع. وقال تعالى: {إِنَّ هذا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ} [ص: 54] وقال تعالى: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ} [النحل: 96] كما قدمناه مستوفى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)}.
هذه صفة أخرى من جلائل صفات المؤمنين تنحل إلىَ فضيلتين هما فضيلة أداء الأمانة التي يؤتمنون عليها وفضيلة الوفاء بالعهد.
فالأمانة تكون غالبًا من النفائس التي يخشى صاحبها عليها التلف فيجعلها عند من يظن فيه حفظها، وفي الغالب يكون ذلك على انفراد بين المؤتمِننِ والأمين، فهي لنفاستها قد تغري الأمين عليها بأن لا يردها وبأن يجحدها ربها، ولكون دفعها في الغالب عَرِيًّا عن الإشهاد تبعث محبتها الأمينَ على التمسك بها وعدم ردها، فلذلك جعل الله ردّها من شعب الإيمان.
وقد جاء في الحديث عن حذيفة بن اليَمَان قال «حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأمانة نزلت في جَذْرِ قلوب الرجال ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة» وحدثنا عن رفعها قال: «ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فَيَظَلّ أثَرُها مثل أثر الوكْت ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل المَجْل كجَمْرٍ دَحرجتَه على رِجلك فَنَفِطَ فتراه مُنْتَبِرًا وليس فيه شيء فيصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة، فيقال: إن في بني فلان رجلًا أمينًا، ويقال للرجل: ما أعقله وما أظرفه وما أجلده وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان». اهـ.
الوكت: سواد يكون في قِشر التمر.
والمَجْل: انتفاخ في الجلد الرقيق يكون شبه قِشر العِنبة ينشأ من مس النار الجلدَ ومن كثْرة العمل باليد وقوله: «مثقال حبة خردل من إيمان» هو مصدر آمنَه، أي ومَا في قرارة نفسه شيء من إيمان الناس إيَّاه فلا يأتمنه إلاّ مغرور.
وقد تقدم الكلام على الأمانة في قوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تُؤَدوا الأماناتتِ إلى أهلها} في سورة النساء (58).
وجمع الأمانات باعتبار تعدد أنواعها وتعدد القائمين بالحفظ تنصيصًا على العموم.
وقرأ الجمهور: {لأماناتهم} بصيغة الجمع، وقرأه ابن كثير {لأمانتهم} بالإفراد باعتبار المصدر مثل {الذين هم في صَلاتهم خاشعون} [المؤمنون: 2].
والعهد: التزام بين اثنين أو أكثر على شيء يعامِل كل واحد من الجانبين الآخرَ به.
وسمي عهدًا لأنهما يتحَالفان بعهد الله، أي بأن يكون الله رقيبًا عليهما في ذلك لا يفيتهم المؤاخذة على تخلفه، وتقدم عند قوله تعالى: {الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه} في سورة البقرة (27).
والوفاء بالعهد من أعظم الخلق الكريم لدلالته على شرف النفس وقوة العزيمة، فإن المرأيْننِ قد يلتزم كل منهما للآخر عملًا عظيمًا فيصادف أن يتوجه الوفاء بذلك الإلتزام على أحدهما فيصعب عليه أن يتجشم عملًا لنفع غيره بدون مقابل ينتفع به هو فتسول له نفسه الخَتْر بالعهد شحًّا أو خورًا في العزيمة، فلذلك كان الوفاء بالعهد علامة على عظم النفس قال تعالى: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولًا} [الإسراء: 34].
والرعي: مراقبة شيء بحفظه من التلاشي وبإصلاح ما يفسد منه، فمنه رعي الماشية، ومنه رَعي الناس، ومنه أطلقت المراعاة على مَا يستحقه ذو الأخلاق الحميدة من حسن المعاملة.
والقائم بالرعي رَاع.
فرعي الأمانة: حفظها، ولما كان الحفظ مقصودًا لأجل صاحبها كان ردها إليه أولى من حفظها.
ورعي العهد مجاز، أي ملاحظته عند كل مناسبة.
والقول في تقديم {لأماناتهم وعهدهم} على {راعون} كالقول في نظايره السابقة، وكذلك إعادة اسم الموصول.
والجمع بين رعْي الأمانات ورعْي العهد لأن العهد كالأمانة لأن الذي عاهدك قد ائتمنك على الوفاء بما يقتضيه ذلك العهد.
وذِكْرهما عقب أداء الزكاة لأن الزكاة أمانة الله عند الذين أنعم عليهم بالمال، ولذلك سُميت: حقّ الله، وحق المال، وحق المسكين.
{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9)}.
ثناء على المؤمنين بالمحافظة على الصلوات، أي بعدم إضاعتها أو إضاعة بعضها، والمحافظة مستعملة في المبالغة في الحفظ إذ ليست المفاعلة هنا حقيقيَّة كقوله تعالى: {حافظوا على الصلوات} [البقرة: 238] وتقدّم معنى الحفظ قريبًا.
وجيء بالصلوات بصيغة الجمع للإشارة إلى المحافظة على أعدادها كلها تنصيصًا على العموم.
وإنما ذكر هذا مع ما تقدم من قوله: {الذين هم في صلاتهم خاشعون} [المؤمنون: 2] لأن ذكر الصلاة هنالك جاء تبعًا للخشوع فأريد ختم صفات مدحهم بصفة محافظتهم على الصلوات ليكون لهذه الخصلة كمالُ الاستقرار في الذهن لأنها آخر ما قرع السمع من هذه الصفات.
وقد حصل بذلك تكرير ذكر الصلاة تنويهًا بها، وردًا للعجز على الصدر تحسينًا للكلام الذي ذكرت فيه تلك الصفات لتزداد النفس قبولًا لسماعها ووعيها فتتأسى بها.
والقول في إعادة الموصول وتقديم المعمول وإضافة الصلوات إلى ضميرهم مثل القول في نظيره ونظائره.
وقرأ الجمهور {على صلواتهم} بصيغة الجمع، وقرأه حمزة والكسائي وخلف {على صلاتهم} بالإفراد.
وقد جمعت هذه الآية أصول التقوى الشرعية لأنها أتت على أعسر ما تُراض له النفس من أعمال القلب والجوارح.
فجاءت بوصف الإيمان وهو أساس التقوى لقوله تعالى: {ثم كان من الذين آمنوا} [البلد: 17] وقوله: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا} [النور: 39].
ثم ذكرت الصلاة وهي عماد التقوى والتي تنهى عن الفحشاء والمنكر لما فيها من تكرر استحضار الوقوف بين يدي الله ومناجاته.
وذكرت الخشوع وهو تمام الطاعة لأن المرء قد يعمل الطاعة للخروج من عهدة التكليف غيرَ مستحضر خشوعًا لربه الذي كلفه بالأعمال الصالحة، فإذا تخلق المؤمن بالخشوع اشتدت مراقبتُه ربَّه فامتثل واجتنب. فهذان من أعمال القلب.
وذكرت الإعراض عن اللغو، واللغو من سوء الخلق المتعلق بـ اللسان الذي يعسر إمساكه فإذا تخلق المؤمن بالإعراض عَننِ اللغو فقد سهل عليه ما هو دون ذلك.
وفي الإعراض عن اللغو خُلُق للسمع أيضًا كما علمتَ.
وذكرت إعطاء الصدقات وفي ذلك مقاومة داء الشح {ومن يُوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} [التغابن: 16].
وذكرت حفظ الفرج، وفي ذلك خلق مقاومة اطراد الشهوة الغريزية بتعديلها وضبطها والترفع بها عن حضيض مشابهة البهائم فمن تخلق بذلك فقد صار كبح الشهوة ملكة له وخُلقًا.
وذكرت أداء الأمانة وهو مظهر للإنصاف وإعطاء ذي الحق حقه ومغالبة شهوة النفس لأمتعة الدنيا.
وذكرت الوفاء بالعهد وهو مظهر لخلق العدل في المعاملة والإنصاف من النفس بأن يبذل لأخيه ما يحب لنفسه من الوفاء.
وذكرت المحافظة على الصلوات وهو التخلق بالعناية بالوقوف عند الحدود والمواقيت وذلك يجعل انتظام أمر الحياتين ملكة وخلقًا راسخًا.
وأنت إذا تأملت هذه الخصال وجدتها ترجع إلى حفظ ما من شأن النفوس إهماله مثل الصلاة والخشوع وترك اللغو وحفظ الفرج وحفظ العهد، وإلى بذل ما من شأن النفوس إمساكه مثل الصدقة وأداء الأمانة.
فكان في مجموع ذلك أعمال ملكتي الفعللِ والترك في المهمات، وهما منبع الأخلاق الفاضلة لمن تتبعها.
روى النسائي: أن عائشة قيل لها: كيف كان خُلق رسول الله؟ قالت: كان خُلقه القُرآن.
وقرأت: {قد أفلح المؤمنون} [المؤمنون: 1] حتى انتهت إلى قوله: {والذين هم على صلواتهم يحافظون}.
وقد كان خُلق أهل الجاهليَّة على العكس من هذا، فيما عدا حفظ العهد غالبًا، قال تعالى: {وما كان صلاتهم عند البيت إلاّ مُكاءً وتصديةً} [الأنفال: 35]، وقال في شأن المؤمنين مع الكافرين {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين} [القصص: 55]، وقال: {وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة} [فصلت: 6، 7]، وقد كان البغاء والزنى فاشيين في الجاهليَّة.
{أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)}.
جيء لهم باسم الإشارة بعد أن أجريت عليهم الصفات المتقدمة ليفيد اسمُ الإشارة أن جدارتهم بما سيذكر بعد اسم الإشارة حصلتْ من اتصافهم بتلك الصفات على نحو قوله تعالى: {أولئك على هدى من ربهم} [البقرة: 5] بعد قوله: {هدًى للمتقين} إلى آخره في سورة البقرة (2).
والمعنى: أولئك هم الأحقاء بأن يكونوا الوارثين بذلك.
وتوسيط ضمير الفصل لتقوية الخبر عنهم بذلك، وحذف معمول {الوارثون} ليحصل إبهام وإجمال فيترقب السامع بيانه فبين بقوله: {الذين يرثون الفردوس} قصدًا لتفخيم هذه الوراثة، والإتيان في البيان باسم الموصول الذي شأنه أن يكون معلومًا للسامع بمضمون صلته إشارة إلى أن تعريف {الوارثون} تعريف العهد كأنه قيل: هم أصحاب هذا الوصف المعروفون به.
واستعيرت الوراثة للاستحقاق الثابت لأن الإرث أقوى الأسباب لاستحقاق المال، قال تعالى: {وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون} [الزخرف: 72].
والفردوس: اسم من أسماء الجنَّة في مصطلح القرآن، أو من أسماء أشرف جهات الجنات، وأصل الفردوس: البستان الواسع الجامع لأصناف الثمر.
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأم حارثة بن سُراقة لمّا أصابه سهم غرب يوم بدر فقتله، وقالت أمّه: إن كان في الجنَّة أصبِرْ وأحتسِبْ فقال لها: «ويْحَككِ أهَبِلْتِ أوَ جَنَّةٌ واحدَةٌ هي، إنَّها لجِنان كثيرة وإنه لفي الفردوس».
وقد ورد في فضل هذه الآيات حديث عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أُنْزل على عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ثم قرأ {قد أفلح المؤمنون} [المؤمنون: 1] حتى ختم عشر آيات» قال ابن العربي في العارضة: قوله: {الذين يرثون الفردوس} هي العاشرة، رواه الترمذي وصححه. اهـ.