فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{أَحْسَنُ الخالقين} أتقن الصانعين. يقال لمن صنع شيئًا خَلَقه؛ ومنه قول الشاعر:
ولأنت تَفْرِي ما خلقتَ وبع ** ضُ القوم يَخْلُقُ ثم لا يَفْرِي

وذهب بعض الناس إلى نفي هذه اللفظة عن الناس وإنما يضاف الخلق إلى الله تعالى.
وقال ابن جُريج: إنما قال: {أحسن الخالقين} لأنه تعالى قد أذن لعيسى عليه السلام أن يخلق؛ واضطرب بعضهم في ذلك.
ولا تُنْفَى اللفظة عن البشر في معنى الصنع؛ وإنما هي منفية بمعنى الاختراع والإيجاد من العدم.
الخامسة: من هذه الآية قال ابن عباس لعمر حين سأل مشيخة الصحابة عن ليلة القدر فقالوا: الله أعلم؛ فقال عمر: ما تقول يا ابن عباس؟ فقال: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى خلق السموات سبعًا والأرضين سبعًا، وخلق ابن آدم من سبع وجعل رزقه في سبع، فأراها في ليلة سبع وعشرين.
فقال عمر رضي الله عنه: أعجزكم أن تأتوا بمثل ما أتى هذا الغلام الذي لم تجتمع شؤون رأسه.
وهذا الحديث بطوله في مسند ابن أبي شيبة.
فأراد ابن عباس خلق ابن آدم من سبع بهذه الآية، وبقوله: وجعل رزقه في سبع قوله: {فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَآئِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 27 31] الآية. السبع منها لابن آدم، والأَبُّ للأنعام. والقَضْبُ يأكله ابن آدم ويَسْمَن منه النساء؛ هذا قول. وقيل: القَضْب البقول لأنها تُقْضَبُ؛ فهي رزق ابنِ آدم. وقيل: القَضْب والأبّ للأنعام، والستُّ الباقية لابن آدم، والسابعةُ هي الأنعام؛ إذ هي من أعظم رزق ابن آدم.
{ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)}.
قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيِّتُونَ} أي بعد الخلق والحياة.
النحاس: ويقال في هذا المعنى لمائتون.
ثم أخبر بالبعث بعد الموت فقال: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ}. اهـ.

.قال أبو حيان:

{ولقد خلقنا الإنسان} الآية.
لما ذكر تعالى أن المتصفين بتلك الأوصاف الجليلة هم يرثون الفردوس فتضمن ذلك المعاد الأخروي، ذكر النشأة الأولى ليستدل بها على صحة النشأة الآخرة.
وقال ابن عطية: هذا ابتداء كلام والواو في أوله عاطفة جملة كلام على جملة، وإن تباينت في المعاني انتهى.
وقد بيّنا المناسبة بينهما ولم تتباين في المعاني من جميع الجهات.
و{الإنسان} هنا.
قال قتادة وغيره ورواه عن سلمان وابن عباس آدم لأنه انسل من الطين {ثم جعلنا} عائد على ابن آدم وإن كان لم يذكر لشهرة الأمر وأن المعنى لا يصلح إلاّ له ونظيره {حتى توارت بالحجاب} أو على حذف مضاف أي ثم جعلنا نسله.
وعن ابن عباس أيضًا أن {الإنسان} ابن آدم و{سلالة من طين} صفوة الماء يعني المني وهو اسم جنس، والطين يراد به آدم إذ كانت نشأة من الطين كما سمى عرق الثرى أو جعل من الطين لكونه سلالة من أبويه وهما متغذيان بما يكون من الطين.
وقال الزمخشري: خلق جوهر الإنسان أولًا طينًا ثم جعل جوهره بعد ذلك نطفة انتهى.
فجعل الإنسان جنسًا باعتبار حالتيه لا باعتبار كل مردود منه و{من} الأولى لابتداء الغاية و{من} الثانية قال الزمخشري للبيان كقوله: {من الأوثان} انتهى.
ولا تكون للبيان إلاّ على تقدير أن تكون السلالة هي الطين، أما إذا قلنا أنه ما انسل من الطين فتكون لابتداء الغاية.
والقرار مكان الاستقرار والمراد هنا الرحم.
والمكين المتمكن وصف القرار به لتمكنه في نفسه بحيث لا يعرض له اختلال، أو لتمكن من يحل فيه فوصف بذلك على سبيل المجاز كقوله طريق سائر لكونه يسار فيه، وتقدم تفسير النطفة والعلقة والمضغة.
وقرأ الجمهور عظامًا و{العظام} الجمع فيهما.
وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبان والمفضل والحسن وقتادة وهارون والجعفي ويونس عن أبي عمرو وزيد بن على بالإفراد فيهما.
وقرأ السلمي وقتادة أيضًا والأعرج والأعمش ومجاهد وابن محيصن بإفراد الأول وجمع الثاني.
وقرأ أبو رجاء وإبراهيم بن أبي بكر ومجاهد أيضًا بجمع الأول وإفراد الثاني فالإفراد يراد به الجنس.
وقال الزمخشري: وضع الواحد موضع الجمع لزوال اللبس لأن الإنسان ذو عظام كثيرة انتهى.
وهذا لا يجوز عند سيبويه وأصحابنا إلاّ في الضرورة وأنشدوا:
كلوا في بعض بطنكم تعفوا

ومعلوم أن هذا لا يلبس لأنهم كلهم ليس لهم بطن واحد ومع هذا خصوا مجيئه بالضرورة {ثم أنشأناه خلقًا آخر} قال ابن عباس والشعبي وأبو العالية والضحاك وابن زيد، هو نفخ الروح فيه.
وقال ابن عباس أيضًا: خروجه إلى الدنيا.
وقالت فرقة: نبات شعره.
وقال مجاهد: كمال شبابه.
وقال ابن عباس أيضًا تصرفه في أمور الدنيا.
قال ابن عطية: وهذا التخصيص لا وجه له وإنما هو عام في هذا وغيره من وجود النطق والإدراك، وأول رتبة من كونه آخر نفخ الروح وآخره تحصيله المعقولات إلى أن يموت انتهى. ملخصًا وهو قريب مما رواه العوفي عن ابن عباس، ويدل عليه قوله بعد ذلك: {ثم إنكم بعد ذلك لميتون}.
وقال الزمخشري ما ملخصه: {خلقًا آخر} مباينًا للخلق الأول مباينة ما أبعدها حيث جعله حيوانًا ناطقًا سميعًا بصيرًا، وأودع كل عضو وكل جزء منه عجائب وغرائب لا تدرك بوصف ولا تبلغ بشرح، وقد احتج أبو حنيفة بقوله: {خلقًا آخر} على أن غاصب بيضة أفرخت عنده يضمن البيضة ولا يرد الفرخ.
وقال: {أنشأنا} جعل إنشاء الروح فيه وإتمام خلقه إنشاءً له.
قيل: وفي هذا رد على النظام في زعمه أن الإنسان هو الروح فقط، وقد بيّن تعالى أنه مركب من هذه الأشياء ورد على الفلاسفة في زعمهم أن الإنسان شيء لا ينقسم، وتبارك فعل ماض لا يتصرف.
ومعناه تعالى وتقدس و{أحسن الخالقين} أفعل التفضيل والخلاف فيها إذا أضيفت إلى معرفة هل إضافتها محضة أم غير محضة؟ فمن قال محضة أعرب {أحسن} صفة، ومن قال غير محضة أعربه بدلًا.
وقيل: خبر مبتدأ محذوف تقديره هو أحسن الخالقين، ومعنى {الخالقين} المقدرين وهو وصف يطلق على غير الله تعالى كما قال زهير:
ولأنت تفري ما خلقت وبع ** ض القوم يخلق ثم لا يفري

قال الأعلم: هذا مثل ضربه يعني زهيرًا، والخالق الذي لا يقدر الأديم ويهيئه لأن يقطعه ويخرزه والفري القطع.
والمعنى أنك إذا تهيأت لأمر مضيت له وأنفذته ولم تعجز عنه.
وقال ابن عطية: معناه الصانعين يقال لمن صنع شيئًا خلقه وأنشد بيت زهير.
قال: ولا تُنفي هذه اللفظة عن البشر في معنى الصنع إنما هي منفية بمعنى الاختراع.
وقال ابن جريج: قال: {الخالقين} لأنه أذن لعيسى في أن يخلق وتمييز أفعل التفضيل محذوف لدلالة الخالقين عليه، أي {أحسن الخالقين} خلقًا أي المقدرين تقديرًا.
وروي أن عمر لما سمع {ولقد خلقنا الإنسان} إلى آخره قال: {فتبارك الله أحسن الخالقين} فنزلت.
وروي أن قائل ذلك معاذ.
وقيل: عبد الله بن أبي سرح، وكانت سبب ارتداده ثم أسلم وحَسُنَ إسلامه.
وقرأ زيد بن على وابن أبي عبلة وابن محيصن لمائتون بالألف يريد حدوث الصفة، فيقال أنت مائت عن قليل وميت ولا يقال مائت للذي قد مات.
قال الفراء: إنما يقال في الاستقبال فقط وكذا قال ابن مالك، وإذا قصد استقبال المصوغة من ثلاثي على غير فاعل ردت إليه ما لم يقدر الوقوع، يعني إنه لا يقال لمن مات مائت.
وقال الزمخشري: والفرق بين الميت والمائت أن الميت كالحي صفة ثابتة، وأما المائت فيدل على الحدوث، تقول: زيد مائت الآن ومائت غدًا كقولك: يموت ونحوها ضيق وضائق في قوله: {وضائق به صدرك} انتهى.
والإشارة بقوله بعد ذلك إلى هذا التطوير والإنشاء {خلقًا آخر} أي وانقضاء مدّة حياتكم.
{ثم إنكم يوم القيامة تبعثون} ونبه تعالى على عظيم قدرته بالاختراع أولًا، ثم بالإعدام ثم بالإيجاد، وذكره الموت والبعث لا يدل على انتفاء الحياة في القبر لأن المقصود ذكر الأجناس الثلاثة الإنشاء والإماتة والإعادة في القبر من جنس الإعادة ومعنى {تبعثون} للجزاء فإن قلت: الموت مقطوع به عند كل أحد، والبعث قد أنكرته طوائف واستبعدته وإن كان مقطوعًا به من جهة الدليل لإمكانه في نفسه ومجيء السمع به فوجب القطع به فما بال جملة الموت جاءت مؤكدة بأن وباللام ولم تؤكد جملة البعث بأن؟ فالجواب: أنه بولغ في تأكيد ذلك تنبيهًا للإنسان أن يكون الموت نصب عينيه ولا يغفل عن ترقبه، فإن مآله إليه فكأنه أكدت جملته ثلاث مرار لهذا المعنى، لأن الإنسان في الحياة الدنيا يسعى فيها غاية السعي، ويؤكد ويجمع حتى كأنه مخلد فيها فنبه بذكر الموت مؤكدًا مبالغًا فيه ليقصر، وليعلم أن آخره إلى الفناء فيعمل لدار البقاء، ولم تؤكد جملة البعث إلاّ بأن لأنه أبرز في صورة المقطوع به الذي لا يمكن فيه نزاع ولا يقبل إنكارًا وإنه حتم لابد من كيانه فلم يحتج إلى توكيد ثان، وكنت سئلت لم دخلت اللام في قوله: {لميتون} ولم تدخل في {تبعثون} فأجبت: بأن اللام مخلصة المضارع للحال غالبًا فلا تجامع يوم القيامة، لأن أعمال {تبعثون} في الظرف المستقبل تخلصه للاستقبال فتنافي الحال، وإنما قلت غالبًا لأنه قد جاءت قليلًا مع الظرف المستقبل كقوله تعالى: {وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة} على أنه يحتمل تأويل هذه الآية وإقرار اللام مخلصة المضارع للحال بأن يقدر عامل في يوم القيامة. اهـ.

.قال الثعالبي:

وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مِّن طِينٍ} الآية: اخْتُلِفَ في قوله: {الإنسان} فقال قتادة وغيره أراد آدم عليه السلام؛ لأنه استُلَّ من الطين.
وقال ابن عباس وغيره: المراد ابنُ آدم، والقرارُ المكينِ من المرأة: هو مَوْضِعُ الولد، والمكين: المُتَمَكِّنُ، والعَلَقَةُ: الدَّمُ الغليظ، والمُضْغَةُ: بضعة اللحم قدرَ ما يُمْضَغُ، واختلف النَّاسُ في الخلق الآخر، فقال ابنُ عباس وغيره: هو نفخ الرُّوح فيه.
وقال ابن عباس أيضًا: هو خروجه إلى الدنيا.
وقال أيضًا: تَصَرُّفُهُ في أمور الدنيا، وقيل: هو نباتُ شعره.
قال ع *: وهذا التخصيص كُلُّهُ لا وجهَ له، وإنما هو عامٌّ في هذا وغيرِه: من وجوه النطق، والإدراك، وحُسْنِ المحاولة، و{تَبَارَكَ} مطاوع بارك، فكأنها بمنزلة تعالى وَتَقَدَّسَ من معنى البركة.
وقوله: {أَحْسَنُ الخالقين} معناه: الصانعين: يقال لمن صنع شيئًا: خَلَقَهُ،، وذهب بعضُ الناس إلى نفي هذه اللفظة عن الناس؛ فقال ابن جريج: إنَّما قال: {الخالقين}؛ لأَنَّهُ تعالى أَذِنَ لعيسى في أَنْ يخلق، واضطرب بعضُهم في ذلك.
قال ع *: ولا تُنْفَى اللفظةُ عن البشر في معنى الصنع؛ وإنما هي منفيَّةٌ بمعنى الاختراع والإيجاد من العدم.
وقوله سبحانه: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيّتُونَ} أي: بعد هذا الأحوال المذكورة، ويريد بالسبع الطرائق: السموات، والطرائق: كُلِّ ما كان طبقاتٍ بعضه فوق بعض؛ ومنه طارقت نعلي.
ويجوزُ أَنْ تكونَ الطرائق بمعنى المَبْسُوطاتِ؛ من طرقت الشيء. اهـ.