فصل: تفسير الآيات (17- 19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويقال إنْ لم يَقُلْ لَكَ إِنَّكَ أحسنُ المخلوقاتِ في هذه الآية فلقد قال في آية أخرى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4].
ويقال إن لم تكن أنت أحسن المخلوقات وأحسن المخلوقين- ولم يُثْنِ عليك بذلك فلقد أثنى على نفسه بقوله: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ}، وثناؤه على نفسه وتمدحه بذلك أعز وأجلُّ من أن يثني عليك.
ويقال لما ذكر نعتَك، وتاراتِ حالِكَ في ابتداء خَلْقَك، ولم يكن منك لسانُ شكرٍ ينطق، ولا بيانُ مدحٍ ينطلق... نَابَ عنك في الثناء على نفسه، فقال: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ}.
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15).
أنشدوا:
آخر الأمر ما ترى ** القبر واللحد والثرى

وأنشدوا:
حياتُنا عندنا قروضٌ ** ونحن بعد الموت في التقاضي

لابُدَّ مِنْ ردِّ ما اقترضنا ** كلُّ غريم بذاك راضي

ويقال نعاك إلى نفسك بقوله: {ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَلِكَ لَمِيَّتُونَ} وكلُّ ما هو آتٍ فقريب.
ويقال كسر على أهلِ الغفلة سطوةَ غفلتهم، وقلَّ دونهم سيفَ صولِتهم بقوله: ثم إنكم بعد ذلك لميتون، وللجمادِ مُضاهون، وعن المكنة والمقدرة والاستطاعة والقوة لَمُبْعَدُون، وفي عِداد ما لا خَطَرَ له من الأمواتِ معدودون.
{ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)}.
فعند ذلك يتصل الحسابُ والعقابُ، والسؤالُ والعتابُ، ويتبين المقبولُ من المردودِ، والموصولُ من المهجور.
ويومُ القيامة يومٌ خوَّفَ به العالَم حتى لو قيل للقيامة: ممن تخافين؟ لقالت من القيامة. وفي القيامة ترى الناسَ سُكَارَى حَيَارَى لا يعرفون أحوالَهم، ولا يتحققون بما تؤول إليه أمورهم، إلى أن يتبيَّنَ لكلِّ واحدٍ أَمْرُه؛ خَيْرُه وشَرُّه: فيثقل بالخيرات ميزانُه، أو يخف عن الطاعاتِ أو يخلو ديوانهُ. وما بين الموت ولاقيامة: فإِمَّا راحاتٌ مُتَّصِلَة، أو آلام وآفاتٌ غير منفصلة. اهـ.

.تفسير الآيات (17- 19):

قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما بين لهم أن فكرهم فيهم يكفيهم، ولاعتقاد البعث يعنيهم، أتبعه دليلًا آخر بالتذكير بخلق ما هو أكبر منهم، وبتدبيرهم بخلقه وخلق ما فيه من المنافع لاستبقائهم، فقال: {ولقد خلقنا قوقكم} في جميع جهة الفوق في ارتفاع لا تدركونه حق الإدراك {سبع} ولإرادة التعظيم أضاف إلى جمع كثرة فقال: {طرائق} أي سماوات لا تتغير عن حالتها التي دبرناها عليها إلى أن نريد، وبعضها فوق بعض متطابقة، وكل واحدة منها على طريقة تخصها، وفيها طرق لكواكبها؛ قال الإمام عبد الحق الإشبيلي في كتابه الواعي: سميت طرائق لأنها مطارقة بعضها في أثر بعض- انتهى.
وهذا من قولهم: فلان على طريقة- أي حالة- واحدة، وهذا مطراق هذا، أي تلوه ونظيره، وريش طراق- إذا كان بعضه فوق بعض.
وقال ابن القطاع: وأطرق جناح الطائر- أي مبنيًا للمجهول: ألبس الريش الأعلى الأسفل.
وقال أبو عبيد الهروي: وأطرق جناح الطير- إذا وقعت ريشة على التي تحتها فألبستها، وفي ريشه طرق- إذا ركب بعضه بعضًا.
وقال الصغاني في مجمع البحرين: والطرق أيضًا بالتحريك في الريش أن يكون بعضها فوق بعض، وقال ابن الأثير في النهاية: طارق النعل- إذا صيرها طاقًا فوق طاق وركب بعضها على بعض، وفي القاموس: والطراق- ككتاب: كل خصفة يخصف بها النعل وتكون حذوها سواء وأن يقور جلد على مقدار الترس فيلزق بالترس، وقال القزاز: يقال: ترس مُطرَق- إذا جعل له ذلك، وقال الصغاني في المجمع: والمجان المطرقة التي يطرق بعضها على بعض كالنعل المطرقة- أي المخصوفة بعضها على بعض، ويقال: أطرقت بالجلد والعصب، أي ألبست، وقال أبو عبيد: طارق النعل- إذا صير خصفًا فوق خصف، وقال في الخصف: هو إطباق طاق على طاق، وأصل الخصف: الضم والجمع، وقال القزاز: وطارقت بين النعلين والثوبين: جعلت أحدهما فوق الآخر- انتهى.
وأصل الطرق الضرب، ومع كون السماوات مطارقة بعضها فوق بعض فهي طرق للملائكة يتنزلون فيها بأوامره سبحانه وتعالى.
ولما كان إهمال الشيء بعد إيجاده غفلة عنه، وكان البعث إحداث تدبير لم يكن كما أن الموت كذلك، بين أن مثل تلك الأفعال الشريفة عادته سبحانه إظهارًا للقدرة وتنزهًا عن العجز والغفلة فقال: {وما كنا} أي على ما لنا من العظمة {عن الخلق} أي الذي خلقناه وفرغنا من إيجاده وعن إحداث ما لم يكن، بقدرتنا التامة وعلمنا الشامل {غافلين} بل دبرناه تدبيرًا محكمًا ربطناه بأسباب تنشأ عنها مسببات يكون بها صلاحه، وجعلنا في كل سماء ما ينبغي أن يكون فيها من المنافع، وفي كل أرض كذلك، وحفظناه من الفساد إلى الوقت الذي نريد فيه طيّ هذا العالم وإبراز غيره، ونحن مع ذلك كل يوم في شأن، وإظهار برهان، نعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، إذا شئنا أنفذنا السبب فنشأ عنه المسبب، وإذا شئنا منعناه مما هيىء له، فلا يكون شيء من ذلك إلا بخلق جديد، فكيف يظن بنا أنا نترك الخلق بعد موتهم سدى، مع أن فيهم المطيع الذي لم نوفه ثوابه، والعاصي الذي لم ننزل به عقابه، أم كيف لا نقدر على إعادتهم إلى ما كانوا عليه بعد ما قدرنا على إبداعهم ولم يكونوا شيئًا.
ولما ساق سبحانه هذين الدليلين على القدرة على البعث، أتبعهما بما هو من جنسهما ومشاكل للأول منهما، وهو مع ذلك دليل على ختام الثاني من أنه من أجلّ النعم التي يجب شكرها، فقال: {وأنزلنا} أي بعظمتنا {من السماء} أي من جهتها {ماء بقدر} لعله- والله أعلم- بقدر ما يسقي الزروع والأشجار، ويحيي البراري والقفار، وما تحتاج إليه البحار، مما تصب فيها الأنهار، إذ لو كان فوق ذلك لأغرقت البحار الأقطار، ولو كان دون ذلك لأدى إلى جفاف النبات والأشجار {فأسكنّاه} بعظمتنا {في الأرض} بعضه على ظهرها وبعضه في بطنها، ولم نعمها بالذي على ظهرها ولم نغور ما في بطنها ليعم نفعه وليسهل الوصول إليه {وإنا} على ما لنا من العظمة {على ذهاب به} أي على إذهابه بأنواع الإذهاب بكل طريق بالإفساد والرفع والتغوير وغير ذلك، مع إذهاب البركة التي تكون لمن كنا معه {لقادرون} قدرة هي في نهاية العظمة، فإياكم والتعرض لما يسخطنا.
ولما ذكر إنزاله، سبب عنه الدليل القرب على البعث فقال: {فأنشأنا} أي فأخرجنا وأحيينا {لكم} خاصة، لا لنا {به} أي بذلك الماء الذي جعلنا منه كل شيء حي {جنات} أي بساتين تجن- أي تستر- داخلها بما فيها {من نخيل وأعناب} صرح بهذين الصنفين لشرفهما، ولأنهما أكثر ما عند العرب من الثمار، سمي الأول باسم شجرته لكثرة ما فيهما من المنافع المقصودة بخلاف الثاني فإنه المقصود من شجرته؛ وأشار إلى غيرهما بقوله: {لكم} أي خاصة {فيها} أي الجنات {فواكه كثيرة} ولكم فيها غير ذلك.
ولما كان التقدير: منها- وهي طرية- تتفكهون، عطف عليه قوله: {ومنها} أي بعد اليبس والعصر {تأكلون} أي يتجدد لكم الأكل بالادخار، ولعله قدم الظرف تعظيمًا للامتنان بها. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

النوع الثاني: من الدلائل الاستدلال بخلقة السموات وهو قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الخلق غافلين} [المؤمنون: 17].
فقوله: {سَبْعَ طَرَائِقَ} [المؤمنون: 17] أي سبع سموات وإنما قيل لها طرائق لتطارقها بمعنى كون بعضها فوق بعض يقال طارق الرجل نعليه إذا أطبق نعلًا على نعل وطارق بين ثوبين إذا لبس ثوبًا فوق ثوب.
هذا قول الخليل والزجاج والفراء قال الزجاج هو كقوله: {سَبْعَ سموات طِبَاقًا} [نوح: 15] وقال على بن عيسى سميت بذلك لأنها طرائق للملائكة في العروج والهبوط والطيران، وقال آخرون لأنها طرائق الكواكب فيها مسيرها والوجه في إنعامه علينا بذلك أنه تعالى جعلها موضعًا لأرزاقنا بإنزال الماء منها، وجعلها مقرًا للملائكة، ولأنها موضع الثواب، ولأنها مكان إرسال الأنبياء ونزول الوحي.
أما قوله: {وَمَا كُنَّا عَنِ الخلق غافلين} [المؤمنون: 17] ففيه وجوه: أحدها: ما كنا غافلين بل كنا للخلق حافظين من أن تسقط عليهم الطرائق السبع فتهلكهم وهذا قول سفيان بن عيينة، وهو كقوله تعالى: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السموات والأرض أَن تَزُولاَ} [فاطر: 41] وثانيها: إنما خلقناها فوقهم لننزل عليهم الأرزاق والبركات منها عن الحسن وثالثها: أنا خلقنا هذه الأشياء فدل خلقنا لها على كمال قدرتنا ثم بين كمال العلم بقوله: {وَمَا كُنَّا عَنِ الخلق غافلين} [المؤمنون: 17] يعني عن أعمالهم وأقوالهم وضمائرهم وذلك يفيد نهاية الزجر ورابعها: وما كنا عن خلق السموات غافلين بل نحن لها حافظون لئلا تخرج عن التقدير الذي أردنا كونها عليه كقوله تعالى: {مَّا ترى في خَلْقِ الرحمن مِن تفاوت} [الملك: 3].
واعلم أن هذه الآية دالة على كثير من المسائل: إحداها: أنها دالة على وجود الصانع فإن انقلاب هذه الأجسام من صفة إلى صفة أخرى تضاد الأولى مع إمكان بقائها على تلك الصفة يدل على أنه لابد من محول ومغير.
وثانيتها: أنها تدل على فساد القول بالطبيعة فإن شيئًا من تلك الصفات لو حصل بالطبيعة لوجب بقاؤها وعدم تغيرها ولو قلت إنما تغيرت تلك الصفات لتغير تلك الطبيعة افتقرت تلك الطبيعة إلى خالق وموجد وثالثتها: تدل على أن المدبر قادر عالم لأن الموجب والجاهل لا يصدر عنه هذه الأفعال العجيبة ورابعتها: تدل على أنه عالم بكل المعلومات قادر على كل الممكنات وخامستها: تدل على جواز الحشر والنشر نظرًا إلى صريح الآية ونظرًا إلى أن الفاعل لما كان قادرًا على كل الممكنات وعالمًا بكل المعلومات وجب أن يكون قادرًا على إعادة التركيب إلى تلك الأجزاء كما كانت وسادستها: أن معرفة الله تعالى يجب أن تكون استدلالية لا تقليدية وإلا لكان ذكر هذه الدلائل عبثًا.
النوع الثالث: الاستدلال بنزول الأمطار وكيفية تأثيراتها في النبات.
{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)}.
اعلم أن الماء في نفسه نعمة وأنه مع ذلك سبب لحصول النعم فلا جرم ذكره الله تعالى أولًا ثم ذكر ما يحصل به من النعم ثانيًا.
أما قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاءً بِقَدَرٍ} فقد اختلفوا في السماء فقال الأكثرون من المفسرين إنه تعالى ينزل الماء في الحقيقة من السماء وهو الظاهر من اللفظ ويؤكده قوله: {وَفِي السماء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22] وقال بعضهم المراد السحاب وسماه سماء لعلوه، والمعنى أن الله تعالى أصعد الأجزاء المائية من قعر الأرض إلى البحار ومن البحار إلى السماء حتى صارت عذبة صافية بسبب ذلك التصعيد، ثم إن تلك الذرات تأتلف وتتكون ثم ينزله الله تعالى على قدر الحاجة إليه، ولولا ذلك لم ينتفع بتلك المياه لتفرقها في قعر الأرض ولا بماء البحار لملوحته ولأنه لا حيلة في إجراء مياه البحار على وجه الأرض لأن البحار هي الغاية في العمق، واعلم أن هذه الوجوه إنما يتمحلها من ينكر الفاعل المختار فأما من أقربه فلا حاجة به إلى شيء منها.
أما قوله تعالى: {بِقَدَرٍ} فمعناه بتقدير يسلمون معه من المضرة ويصلون إلى المنفعة في الزرع والغرس والشرب، أو بمقدار ما علمناه من حاجاتهم ومصالحهم.
أما قوله: {فَأَسْكَنَّاهُ في الأرض} قيل معناه جعلناه ثابتًا في الأرض، قال ابن عباس رضي الله عنهما أنزل الله تعالى من الجنة خمسة أنهار سيحون وجيحون ودجلة والفرات والنيل، ثم يرفعها عند خروج يأجوج ومأجوج ويرفع أيضًا القرآن.
أماقوله: {وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لقادرون} أي كما قدرنا على إنزاله فكذلك نقدر على رفعه وإزالته، قال صاحب الكشاف وقوله: {على ذَهَابٍ بِهِ} من أوقع النكرات وأخرها للفصل.
والمعنى على وجه من وجوه الذهاب به وطريق من طرقه.
وفيه إيذان بكمال اقتدار المذهب وأنه لا يعسر عليه شيء وهو أبلغ في الإيعاد من قوله: {قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ} [الملك: 30] ثم إنه سبحانه لما نبه على عظيم نعمته بخلق الماء ذكر بعده النعم الحاصلة من الماء فقال: {فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جنات مّن نَّخِيلٍ وأعناب} وإنما ذكر تعالى النخيل والأعناب لكثرة منافعهما فإنهما يقومان مقام الطعام ومقام الأدام ومقام الفواكه رطبًا ويابسًا وقوله: {لَّكُمْ فِيهَا فواكه كَثِيرَةٌ} أي في الجنات، فكما أن فيها النخيل والأعناب ففيها الفواكه الكثيرة وقوله: {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} قال صاحب الكشاف يجوز أن يكون هذا من قولهم فلان يأكل من حرفة يحترفها ومن صنعة يعملها يعنون أنها طعمته وجهته التي منها يحصل رزقه، كأنه قال وهذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعايشكم منها تتعيشون. اهـ.