فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وعَطفُ {صِبغ} على {الدهن} باعتبار المغايرة في ما تدل عليه مادّة اشتقاق الوصف فإن الصبغ ما يصبغ به والدهن ما يدهن به والصبغ أخص؛ فهو من باب عطف الخاص على العام للاهتمام، وكانوا يأدِمون به الطعام وذلك صبغ للطعام، أخرج الترمذي في سننه عن عمر بن الخطاب وعن أبي أُسيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كُلُوا الزيت وادّهنوا به فإنه من شجرة مباركة».
وقرأ الجمهور {تَنبُت} بفتح التاء وضَم الموحدة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ورُويس ويعقوب بضم التاء وكسر الموحدة على لغة من يقول: أنبت بمعنى نبت أو على حذف المفعول، أي تُنبت هي ثَمرها، أي تخرجه.
{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21)}.
هذا العطف مثل عطف جملة {وأنزلنا من السماء} [المؤمنون: 18] ففيه كذلك استدلال ومنة.
والعبْرة: الدليل لأنه يُعبر من مَعرفته إلى معرفة أخرى.
والمعنى: إن في الأنعام دليلًا على انفراد الله تعالى بالخلق وتمام القدرة وسعة العلم.
والأنعام تقدم أنها الإبل في غالب عرف العرب.
وجملة {نسقيكم مما في بطونها} بيان لجملة {وإن لكم في الأنعام لعبرة} فلذلك لم تعطف لأنها في موقع المعطوف عطف البيان.
والعبرة حاصلة من تكوين ما في بطونها من الألبان الدال عليه {نسقيكم}.
وأما {نسقيكم} بمجردة فهو منة.
وقد تقدم نظير هذه الآية مفصلا في سورة النحل (66).
وجملة {ولكم فيها منافع كثيرة} وما بعدها معطوفة على جملة {نسقيكم مما في بطونها} فإن فيه بقية بيان العبرة وكذلك الجُمل بعده.
وهذه المنافع هي الأصواف والأوبار والأشعار والنَّتاج.
وأما الأكل منها فهو عبرة أيضًا إذ أعدها الله صالحة لتغذية البشر بلحومها لذيذة الطعم، وألهم إلى طريقة شَيِّهَا وصلقها وطبخها، وفي ذلك منة عظيمة ظاهرة.
وكذلك القول في معنى {وعليها} {تحملون} فإن في ذلك عبرة بإعداد الله تعالى إياها لذلك وفي ذلك منة ظاهرة، والحمل صادق بالركوب وبحمل الأثقال.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم بفتح النون، وقرأه الباقون عدا أبا جعْفر بضم النون يقال: سقاه وأسقاه بمعنى، وقرأه أبو جعفر بتاء التأنيث مفتوحة على أن الضمير للأنعام.
وعَطف {وعلى الفلك} إدماج وتهيئة للتخلص إلى قصة نوح. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)}.
الطور: جبل منسوب إلى سيناء، وسيناء مكان حسن؛ لأن الله بارك فيها، والطور كلَّم الله عليه موسى، فهو مكان مبارك، كما بارك الله أرض بيت المقدس فقال: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ السميع البصير} [الإسراء: 1].
ومعنى {تَنبُتُ بالدهن} [المؤمنون: 20] الدهن هو الدَّسَم، والمراد هنا شجرة الزيتون التي يستخرجون منها الزيت المعروف {تَنبُتُ بالدهن} [المؤمنون: 20] الدهن هو الدَّسَم، والمراد هنا شجرة الزيتون التي يستخرجون منها الزيت المعروف {وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ} [المؤمنون: 20] يعني: يتخذونه إدامًا يغمسون فيه الخبز ويأكلونه، وهو من أشْهَى الأكلات وألذّها عند مَنْ يزرعون الزيتون في سيناء وفي بلاد الشام، وقد ذُقْنا هذه الأكْلة الشهيرة في لبنان، عندما ذهبنا إليها في موسم حصاد الزيتون.
{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21)}.
الأنعام: يُراد بها الإبل والبقر، وألحق بالبقر الجاموس، ولم يُذكَر لأنه لم يكُنْ موجودًا بالبيئة العربية، والغنم وتشمل الضأن والماعز، وفي سورة الأنعام يقول تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين} [الأنعام: 143].
ويقال فيها: أنعام ونَعَم بفتح النون والعين.
والعبرة: شيء تعتبرون به وتستدلُّون به على قدرة الله وبديع صُنْعه في خَلْق الأنعام.
لكن، ما العبرة في خَلْق هذه الأنعام؟ الحق- سبحانه وتعالى- تكلَّم عن خَلْق الإنسان، وأنه تعالى خلقه من صفوة وخلاصة وسلالة من الطين ومن النطفة، وهكذا في جميع أطوار خَلْقه. وفي الأنعام ترى شيئًا من هذا الاصطفاء والاختيار، فالأنعام تأكل من هنا وهناك وتجمع شتى الأنواع من المأكولات، ومن هذا الخليط يخرج الفَرْث، وهو مُنتِن لا تطيق رائحته ويتكون دم الحيوان، ومن بين الفَرْث والدم يُصفِّي لك الخالق-عز وجل- لبنًا خالصًا، وهذه سلالة أيضًا وتصفية.
قال تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66].
ونلحظ أن الآية التي معنا تقول: {نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا} [المؤمنون: 21] وفي آية النحل: {نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ} [النحل: 66] ذلك لأننا نأخذ اللبن من إناث الأنعام ليس من كل الأنعام، فالمعنى {مِّمَّا فِي بُطُونِهَا} [المؤمنون: 21] أي: الإناث منها و{مِّمَّا فِي بُطُونِهِ} [النحل: 66] أي: بطون البعض؛ ولذا عاد الضمير مذكرًا. {نُّسْقِيكُمْ} [المؤمنون: 21] من سقى، وفي موضع آخر {فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} [الحجر: 22] من الفعل أسقى. البعض يقول إنهما مترادفان، وهما ليسا كذلك لأن لكل منهما معنى، فسقى يعني: أعطاه الشراب، أمَّا أسقى فيعني جهز له ما يشربه لحين يحب أن يشرب.
لذلك لما تكلَّم الحق سبحانه عن شراب الجنة، قال: {وحلوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21].
ولما تكلم عن ماء المطر قال سبحانه: {وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [الحجر: 22] يعني: جعله في مستودع لحين الحاجة إليه.
كما قلنا في مُرضِع بالكسر، و مُرضَع بالفتح، فمرضع بالكسر للتي ترضع بالفعل، ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ} [الحج: 2].
أما مرضَع بالفتح، فهي الصالحة للرضاعة.
ثم يقول تعالى: {وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [المؤمنون: 21] نلحظ أن آية النحل ركزت على مسألة تصفية اللبن من بين فَرْث ودم، أما هنا فقد ركزت على منافع أخرى للأنعام، فكل آية تأخذ جانبًا من الموضوع، وتتناوله من زاوية خاصة، نوضح ذلك لمن يقولون بالتكرار في القرآن الكريم، فالآيات في الموضوع الواحد ليست تكرارًا، إنما هو تأسيس بلقطات مختلفة، كل لقطة تؤدي في مكانها موقعًا من العِظَة والعبرة، بحيث إذا جمعتَ كل هذه المكررات الظاهرة تعطيك الصورة الكاملة للشيء.
والمنافع في الأنعام كثيرة: منها نأخذ الصوف والوبر، وكانوا يصنعون منه الملابس والفرش والخيام، قبل أن تُعرف الملابس والمنسوجات الحديثة، ومن ملابس الصوف سُميت الصوفية لمَنْ يلبسون الثياب الخشنة، وهم الآن يصنعون من الصوف ملابس ناعمة كالحرير يرتديها المترفون.
ومن منافع الأنعام أيضًا الجلود والعظام وغيرها، يقول تعالى: {والله جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثًا وَمَتَاعًا إلى حِينٍ} [النحل: 80].
{وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [المؤمنون: 21] أي: لحمًا، وذكر اللحم في آخر هذه المنافع؛ لأنه آخر ما يمكن الانتفاع به من الحيوان، وسبق أنْ ذكرنا أن الحيوان الذي أحلّه الله لنا إذا تعرض لما يزهق روحه، فإنه يرفع لك رقبته، ويكشف لك عن موضع ذَبْحه كأنه يقول لك: أسرع واستفد مني قبل أنْ أموت.
وفي لقطة أخرى لمنافع الأنعام يقول سبحانه: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأنفس} [النحل: 7] إذن: كل آية تحدثت عن الأنعام تعطينا فائدة لتظل مربوطًا بالقرآن كله.
{وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)}.
{وَعَلَيْهَا} [المؤمنون: 22] أي: على الدواب تُحملون، فنركب الدواب، ونحمل عليها متاعنا، لكن لما كانت الأرض ثلاثة أرباعها ماء، فإن الحق- سبحانه وتعالى- ما تركنا في البحر، إنما حملنا فيه أيضًا {وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ} [المؤمنون: 22] فكما أعددتُ لكم المطايا على اليابسة الضيقة أعددتُ لكم كذلك ما تركبونه في هذه المساحة الواسعة من الماء. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12)}.
لما حثّ سبحانه عباده على العبادة ووعدهم الفردوس على فعلها، عاد إلى تقرير المبدأ والمعاد ليتمكن ذلك في نفوس المكلفين فقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان} إلى آخره، واللام جواب قسم محذوف، والجملة مبتدأة، وقيل: معطوفة على ما قبلها، والمراد بالإنسان: الجنس؛ لأنهم مخلوقون في ضمن خلق أبيهم آدم، وقيل: المراد به آدم.
والسلالة فعالة من السلّ، وهو استخراج الشيء من الشيء، يقال: سللت الشعرة من العجين، والسيف من الغمد فانسلّ، فالنطفة سلالة، والولد سليل، وسلالة أيضًا، ومنه قول الشاعر:
فجاءت به عضب الأديم غضنفرا ** سلالة فرج كان غير حصين

وقول الآخر:
وهل هند إلا مهرة عربية ** سلالة أفراس تجللها بغل

و مِنْ في: {مِن سلالة} ابتدائية متعلقة ب {خلقنا}، وفي: {مِن طِينٍ} بيانية متعلقة بمحذوف، وقع صفة لسلالة، أي كائنة من طين، والمعنى: أنه سبحانه خلق جوهر الإنسان أوّلًا من طين؛ لأن الأصل آدم، وهو من طين خالص وأولاده من طين ومنيّ، وقيل: السلالة: الطين إذا عصرته انسلّ من بين أصابعك؛ فالذي يخرج هو السلالة، قاله الكلبي {ثُمَّ جعلناه} أي: الجنس باعتبار أفراده الذين هم بنو آدم، أو جعلنا نسله على حذف مضاف إن أريد بالإنسان آدم {نُّطْفَةٍ} وقد تقدّم تفسير النطفة في سورة الحج. وكذلك تفسير العلقة والمضغة.
والمراد بالقرار المكين: الرّحم، وعبر عنها بالقرار الذي هو مصدر مبالغة، ومعنى {ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً} أي أنه سبحانه أحال النطفة البيضاء علقة حمراء {فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً} أي قطعة لحم غير مخلقة {فَخَلَقْنَا المضغة عظاما} أي جعلها الله سبحانه متصلبة لتكون عمودًا للبدن على أشكال مخصوصة {فَكَسَوْنَا العظام لَحْمًا} أي أنبتَ الله سبحانه على كل عظم لحمًا على المقدار الذي يليق به ويناسبه {ثم أنشأناه خلقًا آخر} أي نفخنا فيه الروح بعد أن كان جمادًا.
وقيل: أخرجناه إلى الدنيا.
وقيل: هو نبات الشعر.
وقيل: خروج الأسنان.
وقيل: تكميل القوى المخلوقة فيه، ولا مانع من إرادة الجميع، والمجيء ب ثم لكمال التفاوت بين الخلقين {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} أي استحق التعظيم والثناء.
وقيل: مأخوذ من البركة، أي كثر خيره وبركته.
والخلق في اللغة: التقدير، يقال: خلقت الأديم: إذا قسته لتقطع منه شيئًا، فمعنى {أحسن الخالقين}: أتقن الصانعين المقدّرين، ومنه قول الشاعر:
ولأنت تفري ما خلقت وب ** عض القوم يخلق ثم لا يفري

{ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيّتُونَ} الإشارة بقوله: {ذلك} إلى الأمور المتقدّمة، أي ثم إنكم بعد تلك الأمور لميتون صائرون إلى الموت لا محالة {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ} من قبوركم إلى المحشر للحساب والعقاب.
واللام في {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ} جواب لقسم محذوف، والجملة مبتدأة مشتملة على بيان خلق ما يحتاجون إليه بعد بيان خلقهم.