فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولكُم للتَّخصيصِ والتَّبيينِ أي ما لكُم في الوجودِ أو في العالمِ إله غيرُه تعالى. وقرئ بالجرِّ باعتبار لفظه {أَفَلاَ تَتَّقُونَ} أنفسَكم عذابَه الذي يستوجبه ما أنتُم عليه من ترك عبادتهِ تعالى كما يُفصح عنه قولُه تعالى: {إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} وقولُه تعالى: {عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} وقيل أفلا تخافون أنْ ترفضُوا عبادة الله الذي هو ربُّكم إلخ. وليس بذاكَ وقيل أفلا تخافون أنْ يُزيل عنكم نعمَه إلخ وفيهِ ما فيهِ والهمزةِ لإنكارِ الواقعِ واستقباحهِ. والفاءُ للعطفِ على مقدَّرٍ يقتضيهِ المقامُ أي أتعرفون ذلك أي مضمونَ قوله تعالى: {مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ} فلا تتَّقون عذابَه بسبب إشراكِكم به في العبادة ما لا يستحقُّ الوجودَ لولا إيجادُ الله تعالى إيَّاهُ فضلًا عن استحقاقِ العبادة فالمنكر عدمُ الاتِّقاءِ مع تحقُّق ما يُوجبه، أو ألا تلاحظُون ذلكَ فلا تتَّقُونه فالمنكرُ كلا الأمرينِ فالمبالغةُ حينئذٍ في الكميَّةِ وفي الأوَّلِ في الكيفيَّةِ.
{فَقَالَ الملأ} أي الأشراف {الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ} وصف الملأ بما ذُكر مع اشتراك الكلِّ فيه للإيذان بكمال عراقتهم في الكُفرِ وشدَّةِ شكيمتهم فيه أي قالوا لعوامِّهم {مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ} أي في الجنسِ والوصفِ من غير فرقٍ بينكم وبينَه، وصفوه عليه السَّلامُ بذلك مبالغةً في وضع رتبته العالية وحطِّها عن منصب النُّبوة {يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} أي يريدُ أنْ يطلبَ الفضلَ عليكم ويتقدَّمكم بادِّعاءِ الرَّسالةِ مع كونهِ مثلكم، وصفوه بذلك إغضابًا للمُخاطبين عليه، عليه السَّلامُ وإغراءً لهم على معاداته عليه السَّلامُ وقولُه تعالى: {وَلَوْ شَاء الله لاَنزَلَ ملائكة} بيانٌ لعدم رسالة البشر على الإطلاقِ على زعمِهم الفاسدِ بعد تحقيق بشريَّتهِ عليه السَّلامُ أي لو شاء الله تعالى إرسالَ الرَّسولِ لأرسل رُسُلًا من الملائكة وإنَّما قيل لأنزل لأنَّ إرسالَ الملائكة لا يكونُ إلا بطريقِ الإنزالِ، فمفعولُ المشيئة مطلقُ الإرسالِ المفهوم من الجوابِ لا نفسُ مضمونهِ كما في قوله تعالى: {وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ} ونظائره. {مَّا سَمِعْنَا بهذا} أي بمثل هذا الكلامِ الذي هو الأمرُ بعبادة الله خاصَّةً وتركُ عبادة ما سواه. وقيل بمثل نوحٍ عليه السَّلامُ في دعوى النُّبوة {فِى ءَابَائِنَا الأولين} أي الماضين قبل بعثتهِ عليه السَّلامُ قالوه إمَّا لكونهم وآبائهم في فترة متطاولةٍ وإما لفرطِ غلوِّهم في التَّكذيبِ والعناد وانهماكهم في الغيِّ والفساد، وأيَّا ما كان فقولُهم هذا ينبغي أنْ يكونَ هو الصَّادُّ عنهم في مبادي دعوتهِ عليه السَّلامُ كما تُنبىءُ عنه الفاء في قوله تعالى: {فَقَالَ الملأ} إلخ وقيل معناه ما سمعنا به عليه السَّلامُ أنَّه نبيٌّ. فالمرادُ بآبائِهم الأوَّلين الذين مضوا قبلهم في زمنِ نوحٍ عليه السَّلامُ. وقولهم المذكور هو الذي صدر عنهم في أواخرِ أمرِه عليه السَّلامُ وهو المناسب لما بعدَه من حكاية دُعائهِ عليه السَّلامُ.
وقولهم {إِنْ هُوَ} أي ما هو {إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} أي جُنونٌ أو جنٌّ يخيلونه ولذلك يقولُ ما يقولُ {فَتَرَبَّصُواْ بِهِ} أي احتمِلوه واصبِروا عليه وانتظروا {حتى حِينٍ} لعلَّه يُفيقُ ممَّا فيه، محمول حينئذٍ على ترامي أحوالهم في المكابرةِ والعنادِ. وإضرابِهم عمَّا وصفُوه عليه السَّلامُ به من البشرية وإرادةِ التَّفضُّلِ إلى وصفِه عليه السَّلامُ بما ترى وهم يعرفون أنَّه عليه السَّلامُ أرجحُ النَّاسِ عَقْلًا وأرزنهم قولًا. وعلى الأوَّل على تناقضِ مقالاتِهم الفاسدةِ قاتلهم اللَّهُ أنَّى يُؤفكون. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ}.
شروع في بيان إهمال الناس وتركهم النظر والاعتبار فيما عدد سبحانه من النعم وما حاقهم من زوالها وفي ذلك تخويف لقريش.
وتقديم قصة نوح عليه السلام على سائر القصص مما لا يخفى وجهه، وفي إيرادها إثر قوله تعالى: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ} [المؤمنون: 22] من حسن الموقع ما لا يوصف، وتصديرها بالقسم لإظهار كمال الاعتناء بمضمونها، والكلام في نسب نوح عليه السلام وكمية لبثه في قومه ونحو ذلك قد مر، والأصح أنه عليه السلام لم تكن رسالته عامة بل أرسل إلى قوم مخصوصين {فَقَالَ} متعطفًا عليهم ومستميلًا لهم إلى الحق {يَابَنِى إسرائيل اعبدوا الله} أي اعبدوه وحده كما يفصح عنه قوله تعالى في سورة [هود: 2] {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله} وترك التقييد به للإيذان بأنها هي العبادة فقط وأما العبادة مع الإشراك فليست من العبادة في شيء رأسًا، وقوله تعالى: {مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ} استئناف مسوق لتعليل العبادة المأمور بها أو تعليل الأمر بها، و{غَيْرُهُ} بالرفع صفة لإله باعتبار محله الذي هو الرفع على أنه فاعل بلكم أو مبتدأ خبره {لَكُمْ} أو محذوف و{لكم} للتخصيص والتبيين أي ما لكم في الوجود إله غيره تعالى.
وقرئ {{مَا نَرَاكَ} [هود: 27] إلخ فعلى زعمهم أو لقلة المتبعين له من الأشراف، وأيًا ما كان فالمعنى فقال الملأ لعوامهم {مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ} أي في الجنس والوصوف من غير فرق بينكم وبينه وصفوه عليه السلام بذلك مبالغة في وضع رتبته العالية وحطها عن منصب النبوة، ووصفوه بقوله سبحانه: {يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} إغضابًا للمخاطبين عليه عليه السلام وإغراءً لهم على معاداته، والتفضل طلب الفضل وهو كناية عن السيادة كأنه قيل: يريد أن يسودكم ويتقدمكم بادعاء الرسالة مع كونه مثلكم، وقيل: صيغة التفعل مستعارة للكمال فإنه ما يتكلف له يكون على أكمل وجه فكأنه قيل: يريد كمال الفضل عليكم {وَلَوْ شَاء الله لأنزَلَ ملائكة} بيان لعدم رسالة البشر على الإطلاق على زعمهم الفاسد بعد تحقيق بشريته عليه السلام أي ولو شاء الله تعالى إرسال الرسول لأرسل رسلًا من الملائكة، وإنما قيل {لأنزَلَ} لأن إرسال الملائكة لا يكون إلا بطريق الإنزال فمفعول المشيئة مطلق الإرسال المفهوم من الجواب لا نفس مضمونه كما في قوله تعالى: {وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ} [النحل: 9] ولا بأس في ذلك، وأما القول بأن مفعول المشيئة إنما يحذف إذا لم يكن أمرًا غريبًا وكان مضمون الجزاء فهو ضابطة للحذف المطرد فيه لا مطلقًا فإنه كسائر المفاعيل يحذف ويقدر بحسب القرائن، وعلى هذا يجوز أن يقال: التقدير ولو شاء الله تعالى عبادته وحده لأنزل ملائكة يبلغوننا ذلك عنه عز وجل وكان هذا منهم طعن في قوله عليه السلام لهم: {اعبدوا الله} [هود: 50] وكذا قوله تعالى: {مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُرِيدُ} بل هو طعن فيما ذكر على التقدير الأول أيضًا وذلك بناءً على أن {هذا} إشارة إلى الكلام المتضمن الأمر بعبادة الله عز وجل خاصة والكلام على تقدير مضاف أي ما سمعنا بمثل هذا الكلام في آبائنا الماضين قبل بعثته عليه السلام، وقدر المضاف لأن عدم السماع بكلام نوح المذكور لا يصلح للرد فإن السماع بمثله كاف للقبول، وقيل: الإشارة إلى نفس هذا الكلام مع قطع النظر عن المشخصات فلا حاجة إلى تقدير المضاف وهو كلام وجيه؛ ثم إن قولهم هذا إما لكونهم وآبائهم في فترة وإما لفرط غلوهم في التكذيب والعناد وانهماكهم في الغي والفساد، وأيًا ما كان ينبغي أن يكون هو الصادر عنهم في مبادىء دعوته عليه السلام كما ينبىء عنه الفاء الظاهرة في التعقيب في قوله تعالى: {فَقَالَ الملأ} إلخ.
وقيل: {هذا} إشارة إلى نوح عليه السلام على معنى ما سمعنا بخبر نبوته، وقيل: إلى اسمه وهو لفظ نوح والمعنى لو كان نبيًا لكان له ذكر في آبائنا الأولين، وعلى هذين القولين يكون قولهم المذكور من متأخري قومه المولودين بعد بعثته بمدة طويلة فيكون المراد من آبائهم الأولين من مضى قبلهم في زمنه عليه الصلاة والسلام، وصدور ذلك عنهم في أواخر أمره عليه السلام وقيل: بعد مضي آبائهم ولا يلزم أن يكون في الأواخر، وعليهما أيضًا يكون قولهم: {إِنْ هُوَ} أي ما هو {إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} أي جنون أو جن يخبلونه ولذلك يقول ما يقول {فَتَرَبَّصُواْ بِهِ} فاحتملوه واصبروا عليه وانتظروا {حتى حِينٍ} لعله يفيق مما هو فيه محمولًا على ترامي أحوالهم في المكابرة والعناد وإضرابهم عما وصفوه عليه السلام به من البشرية وإرادة التفضل إلى وصفه بما ترى وهم يعرفون أنه عليه السلام أرجح الناس عقلًا وأرزنهم قولًا، وهو على ما تقدم محمول على تناقض مقالاتهم الفاسدة قاتلهم الله تعالى أنى يؤفكون. اهـ.

.قال القاسمي:

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا}.
أي: الداعي إلى عبادة الله وحده. بدعوى الرسالة منه: {إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} أي: أن يطلب الفضل عليكم ويرأسكم، كقوله تعالى: {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأرض} [يونس: 78]، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ} أي: إرسال رسول: {لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً} أي: من السماء: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا} أي: بمثل ما يدعو إليه: {فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} أي: لعله يرجع أو يفيق من جنته أو يتمادى فنكيد له. قال الرازيّ: واعلم أنه سبحانه ما ذكر الجواب عن شبههم هذه الخمسة، لركاكتها ووضوح فسادها. وذلك لأن كل عاقل يعلم أن الرسول لا يصير رسولًا إلا لأنه من جنس الملك. وإنما يصير كذلك بأن يتميز من غيره بالمعجزات. فسواء كان من جنس الملك أو جنس البشر، فعند ظهور المعجز عليه يجب أن يكون رسولًا. بل جعلُ الرسول من جملة البشر أولى. لما مرّ بيانه في السورة المتقدمة. وهو أن الجنسية مظنة الألفة والمؤانسة. وأما قولهم: {يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} فإن أرادوا به إرادته لإظهار فضله، حتى يلزمهم الانقياد لطاعته، فهذا واجب على الرسول. وإن أرادوا به أن يرتفع عليهم على سبيل التجبر والتكبر والانقياد، فالأنبياء منزّهون عن ذلك. وأما قولهم: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا} فهو استدلال بعدم التقليد، على عدم وجود الشيء. وهو في غاية السقوط. لأن وجود التقليد لا يدل على وجود الشيء. فعدمه من أن يدل على عدمه؟ وأما قولهم: {بِهِ جِنَّةٌ} فقد كذبوا. لأنهم كانوا يعلمون بالضرورة كمال عقله. وأما قولهم: {فَتَرَبَّصُوا بِهِ} فضعيف. لأنه إن ظهرت الدلالة على نبوّته وهي المعجزة، وجب عليهم قبول قوله في الحال، ولا يجوز توقيف ذلك إلى ظهور دولته. لأن الدولة لا تدل على الحقيقة. وإن لم يظهر المعجز لم يجز قبول قوله، سواء ظهرت الدولة أو لم تظهر. ولما كانت هذه الأجوبة في نهاية الظهور، لا جرم تركها الله سبحانه، انتهى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}.
لما كان الاستدلال والامتنان اللذان تقدمًا موجهيْن إلى المشركين الذين كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم واعتلوا لذلك بأنهم لا يؤمنون برسالة بشر مثْلهم وسألوا إنزال ملائكة ووسموا الرسول عليه الصلاة والسلام بالجنون، فلما شابهوا بذلك قوم نوح ومن جاء بعدهم ناسب أن يضرب لهم بقوم نوح مثلٌ تحذيرًا مما أصاب قوم نوح من العذاب، وقد جرى في أثناء الاستدلال والامتنان ذكر الحمل في الفلك فكان ذلك مناسبة للانتقال فحصل بذلك حسن التخلص، فيعتبر ذكر قصص الرسل إما استطرادًا في خلال الاستدلال على الوحدانيَّة، وإمَّا انتقالًا كما سيأتي عند قوله تعالى: {وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار} [المؤمنون: 78].
وتصدير الجملة بلام القسم تأكيد للمضمون التهديدي من القصة، فالمعنى تأكيد الإرسال إلى نوح وما عُقِّب به ذلك.