فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{قَالَ} استئناف بياني كأنه قيل: فماذا قال عليه السلام بعد ما سمع منهم هذه الأباطيل؟ فقيل: قال لما رآهم قد أصروا على ما هم فيه وتمادوا على الضلال حتى يئس من إيمانهم بالكلية وقد أوحى إليه {وَأُوحِىَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ} [هود: 36] {رَبّ انصرنى} بإهلاكهم بالمرة بناءً على أنه حكاية إجمالية لقوله عليه السلام: {رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّارًا} [نوح: 26] الخ، والباء في قوله تعالى: {بِمَا كَذَّبُونِ} للسببية أو للبدل وما مصدرية أي بسبب تكذيبهم إياي أو بدل تكذيبهم، وجوز أن تكون الباء آلية وما موصولة أي انصرني بالذي كذبوني به وهو العذاب الذي وعدتهم إياه ضمن قولي: {إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 59] وحاصله انصرني بإنجاز ذلك، ولا يخفى ما في حذف مثل هذا العائد من الكلام.
وقرأ أبو جعفر، وابن محيصن {رَبّ} بضم الباء ولا يخفى وجهه، {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ} عقيب ذلك، وقيل: بسبب ذلك {أَنِ اصنع الفلك} {إن} مفسرة لما في الوحي من معنى القول {بِأَعْيُنِنَا} ملتبسًا بمزيد حفظنا ورعايتنا لك من التعدي أو من الزيغ في الصنع {وَوَحْيِنَا} وأمرنا وتعليمنا لكيفية صنعها، والفاء في قوله تعالى: {فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا} لترتيب مضمون ما بعدها على إتمام صنع الفلك، والمراد بالأمر العذاب كما في قوله تعالى: {لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله} [هود: 43] فهو واحد الأمور لا الأمر بالركوب فهو واحد الأوامر كما قيل، والمراد بمجيئه كمال اقترابه أو ابتداء ظهوره أي إذا جاء أثر تمام الفلك عذابنا، وقوله سبحانه: {وَفَارَ التنور} بيان وتفسير لمجىء الأمر.
روي أنه قيل له عليه السلام إذا فار التنور اركب أنت ومن معكم وكان تنور آدم عليه السلام فصار إلى نوح عليه السلام فلما نبع منه الماء أخبرته امرأته فركبوا.
واختلفوا في مكانه فقيل كان في مسجد الكوفة أي في موضعه عن يمين الداخل من باب كندة اليوم، وقيل: كان في عين وردة من الشام، وقيل: بالجزيرة قريبًا من الموصل، وقيل: التنور وجه الأرض، وقيل: فار التنور مثل كحمى الوطيس، وعن على كرم الله تعالى وجهه أنه فسر {وَفَارَ التنور} بطلع الفجر فقيل: معناه إن فوران التنور كان عند طلوع الفجر وفيه بعد، وتمام الكلام في ذلك قد تقدم لك.
{فاسلك فِيهَا} أي أدخل فيها يقال سلك فيه أي دخل فيه وسلكه فيه أي أدخله فيه، ومنه قوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ في سَقَرَ} [المدثر: 42] {مِن كُلّ} أي من كل أمة {زَوْجَيْنِ} أي فردين مزدوجين كما يعرب عنه قوله تعالى: {اثنين} فإنه ظاهر في الفردين دون الجمعين.
وقرأ أكثر القراء من {كُلّ زَوْجَيْنِ} بالإضافة على أن المفعول {اثنين} أي لسلك من كل أمتي الذكر والأنثى واحدين مزدوجين كجمل وناقة وحصان ورمكة.
روي أنه عليه السلام لم يحمل في الفلك من ذلك إلا ما يلد ويبيض وأما ما يتولد من العفونات كالبق والذباب والدود فلم يحمل شيئًا منه، ولعل نحو البغال ملحقة في عدم الحمل بهذا الجنس لأنه يحصل بالتوالد من نوعين فالحمل منهما مغن عن الحمل منه إذا كان الحمل لئلا ينقطع النوع كما هو الظاهر فيحتاج إلى خلق جديد كما خلق في ابتداء الأمر.
والآية صريحة في أن الأمر بالإدخال كان قبل صنعه الفلك، وفي سورة [هود: 40] {حتى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التنور قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ} فالوجه أن يحمل على أنه حكاية لأمر آخر تنجيزي ورد عند فوران التنور الذي نيط به الأمر التعليقي اعتناءً بشأن المأمور به أو على أن ذلك هو الأمر السابق بعينه لكن لما كان الأمر التعليقي قبل تحقق المعلق به في حق إيجاب المأمور به بمنزلة العدم جعل كأنه إنما حدث عند تحققه فحكى على صورة التنجيز {وَأَهْلَكَ} قيل عطف على {اثنين} على قراءة الإضافة وعلى {زَوْجَيْنِ} على قراءة التنوين، ولا يخفى اختلال المعنى عليه فهو منصوب بفعل معطوف على {فاسلك} أي واسلك أهلك، والمراد بهم أمة الإجابة الذين آمنوا به عليه الصلاة والسلام سواء كانوا من ذوي قرابته أم لا وجاء إطلاق الأهل على ذلك، وإنما حمل عليه هنا دون المعنى المشهور ليشمل من آمن ممن ليس ذا قرابة فإنهم قد ذكروا في سورة هود والقرآن يفسر بعضه بعضًا، وعلى هذا يكون قوله تعالى: {إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول مِنْهُمْ} استثناء منقطعًا، واختار بعضهم حمل الأهل على المشهور وإرادة امرأته وبنيه منه كما في سورة هود وحينئذٍ يكون الاستثناء متصلًا كما كان هناك، وعدم ذكر من آمن للاكتفاء بالتصريح به ثمت مع دلالة ما في الاستثناء وكذا ما بعده على أنه ينبغي إدخاله، وتأخير الأمر بإدخال الأهل على التقديرين عما ذكر من إدخال الأزواج لأن إدخال الأزواج يحتاج إلى مزاولة الأعمال منه عليه السلام وإلى معاونة أهله إياه وأما هم فإنما يدخلون باختيارهم، ولأن في المؤخر ضرب تفصيل بذكر الاستثناء وغيره فتقديمه يخل بتجاوب النظم الكريم، والمراد بالقول القول بالإهلاك، والمراد بسبق ذلك تحققه في الأزل أو كتابة ما يدل عليه في اللوح المحفوظ قبل أن تخلق الدنيا، وجىء بعلى لكون السابق ضارًا كما جىء باللام في قوله تعالى: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى} [الأنبياء: 101] لكون السابق نافعًا {وَلاَ تخاطبنى في الذين ظَلَمُواْ} أي لا تكلمني فيهم بشفاعة وإنجاء لهم من الغرق ونحوه، وإذا كان المراد بهم من سبق عليه القول فالإظهار في مقام الإضمار لا يخفى وجهه {إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} تعليل للنهي أو لما ينبىء عنه من عدم قبول الشفاعة لهم أي أنهم مقضي عليهم بالإغراق لا محالة لظلمهم بالإشراك وسائر المعاصي ومن هذا شأنه لا ينبغي أن يشفع له أو يشفع فيه وكيف ينبغي ذلك وهلاكه من النعم التي يؤمر بالحمد عليها كما يؤذن به. اهـ.

.قال القاسمي:

{قَالَ} أي: بعد ما أيس من إيمانهم: {رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} أي: ملتبسًا بحفظنا وكلاءتنا، لا تلحقها آفة ولا يعترضها نقص عبر بكثرة آلة الحس التي بها يحفظ الشيء، ويراعى من الاختلال والزيغ، عن المبالغة في الحفظ والرعاية، على طريق التمثيل، وقيل: المعنى بمرأى منا ومشهد في حفظنا وكلاءتنا. بناء على أن المراد بالعين البصر، وأنه يسمى البصر عينًا لأجل أنه مما يتعلق به ويقوم به. من باب تسمية الشيء باسم محله. وباسم ما هو قائم به.
قال الإمام ابن فورك في متشابه الحديث- بعد حكاية نحو ما تقدم-: وقد اختلف أصحابنا فيما يثبت لله عز وجلّ من الوصف له بالعين. فمنهم من قال: إن المراد به البصر والرؤية. ومنهم من قال: إن طريق إثباتها صفة لله تعالى بالسمع. وسبيل القول فيها كسبيل القول في اليد والوجه. انتهى.
ومذهب السلف؛ أن الصفات يحتذى فيها حذو الذات، فكما أنها منزهة عن التشبيه والتمثيل والتكييف، فكذلك الصفات إثباتها منزه عن ذلك وعن التحريف والتأويل. وقوله تعالى: {وَوَحْيِنَا} أي: أمرنا وتعليمنا كيف تصنع: {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا} أي: عذابنا: {وَفَارَ التَّنُّورُ} كناية عن الشدة. كقولهم: حمي الوطيس. والتنور: كانون الخبز حقيقة. وأطلقه بعضهم على وجه الأرض ومنبع الماء، للآية مجازًا: {فَاسْلُكْ فِيهَا} أي: فأدخل في الفلك: {مِنْ كُلٍّ} أي: من كل أمة: {زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي: في الدعاء لهم بالنجاة، عند مشاهدة هلاكهم: {إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} أي: في بحر الهلاك، كما غرقوا في بحر الضلال وظلمهم أنفسهم، بعد أن أملى لهم الدهر المتطاول. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26)}.
استئناف بياني لأن ما حكي عن صدهم الناس عن تصديق دعوة نوح وما لفقوه من البهتان في نسبته إلى الجنون، مما يثير سؤال مَن يسأل عمَّاذا صنع نوح حين كذّبه قومه فيجاب بأنه قال: {رب انصرني} إلخ.
ودعاؤه بطلب النصر يقتضي أنه عَدّ فعلَهم معه اعتداءً عليه بوصفِه رسولًا من عند ربه.
والنصر: تغليب المعتدَى عليه على المعتدي، فقد سأل نوح نصرًا مجملًا كما حكي هنا، وأعلمه الله أنه لا رجاء في إيمان قومه إلاّ مَن آمن منهم كما جاء في سورة هود، فلا رجاء في أن يكون نصره برجوعهم إلى طاعته وتصديقه واتِّباع ملته، فسأل نوح حينذاك نصرًا خاصًا وهو استئصال الذين لم يؤمنوا كما جاء في سورة نوح 26، 27 {وقال نوح ربّ لا تَذَرْ على الأرض من الكافرين دَيَّارًا إنك إن تَذَرهمُ يُضِلّوا عبادك}.
فالتعقيب الذي في قوله تعالى هنا: {فأوحينا إليه} تعقيب بتقدير جمل محذوفة كما علمت، وهو إيجاز في حكاية القصة كما في قوله تعالى: {أن أضربْ بعصاكَ البَحْرَ فانفلق} إلخ في سورة الشّعراء (63).
والباء في {بما كَذّبون} سببية في موضع الحال من النصر المأخوذ من فعل الدعاء، أي نصرًا كائنًا بسبب تكذيبهم، فجعل حظ نفسهِ فيما اعتدوا عليه مُلغىً واهتم بحظ الرسالة عن الله لأن الاعتداء على الرسول استخفاف بمن أرسله.
وجملة {أن اصنع} جملة مفسره لِجملة {أوحينا} لأن فعل {أوحينا} فيه معنى القول دون حروفه، وتقدم نظير جملة {واصنع الفلك بأعيننا ووحينا} في سورة هود (37).
وفرع على الأمر بصنع الفلك تفصيل ما يفعله عند الحاجة إلى استعمال الفلك فوُقِّت له استعماله بوقت الاضطرار إلى إنجاء المؤمنين والحيوان.
وتقدم الكلام على معنى {فار التنور} ومعنى {زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول} في سورة هود (40).
والزوج: اسم لكل شيء له شيء آخر متصل به بحيث يجعله شَفعا في حالة مَّا.
وتقدم في سورة هود.
وإنما عبر هنالِك بقوله: {قلنا احمل فيها} [هود: 40] وهنَا بقوله: {فاسلُك فيها} لأن آية سورة هود حكت ما خاطبه الله به عند حدوث الطوفان وذلك وقت ضيق فأُمرّ بأن يحمل في السفينة من أراد الله إبقاءهم، فأسند الحمل إلى نوح تمثيلًا للإسراع بإركاب ما عُيِّن له في السفينة حتَّى كأنّ حاله في إدخاله إيَّاهم حالُ من يحمل شيئًا ليضعه في موضع، وآية هذه السورة حكت ما خاطبه الله به من قبل حدوث الطوفان إنباء بما يفعله عند حدوث الطوفان فأمَره بأنه حينئذ يدخل في السفينة من عَيَّن الله إدخالهم، مع ما في ذلك من التفنن في حكاية القصة.
ومعنى {اسلك} أدخِل، وفعل سلك يكون قاصرًا بمعنى دخل ومتعديًا بمعنى أدخل ومنه قوله تعالى: {ما سَلَكَكُم في سَقَر} [المدثر: 42].
وقول الأعشى:
كما سلَك السَّكِّيَّ في الباب فَيْتَقُ

وتقدم الكلام على مثل قوله: {ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون} في سورة هود (37).
وقرأ الجمهور {من كل زوجين} بإضافة {كل} إلى {زوجين}، وقرأه حفص بالتنوين {كلَ} على أن يكون {زوجين} مفعولَ {فاسلك}، وتنوين {كل} تنوين عوض يُشعرُ بمحذوف أضيف إليه {كل}. وتقديره: من كل ما أمرتك أن تحمله في السفينة. اهـ.