فصل: قال سيد قطب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال سيد قطب في الآيات السابقة:

{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)}.
إلى قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)}.
يستهدف هذا الدرس تصحيح عدد من القواعد التي يقوم عليها التصور الإيماني الصحيح؛ مع الاستمرار في مواجهة يهود المدينة الذين لا يكفون عن تلبيس الحق بالباطل في هذه القواعد؛ وكتمان الحق الذي يعلمونه في شأنها؛ وإيقاع البلبلة والاضطراب فيها.. ولكن السياق يتخذ في هذا الدرس أسلوب التعميم؛ وعرض القواعد العامة، التي تشمل اليهود وغيرهم ممن يرصدون للدعوة. وكذلك يحذر المسلمين من المزالق التي تترصدهم في طريقهم بصفة عامة.
ومن ثم نجد بيانًا في موضوع الطواف بالصفا والمروة، بسبب ما كان يلابس هذا الموضوع من تقاليد الجاهلية. وهو بيان يتصل كذلك بمسألة الاتجاه إلى المسجد الحرام في الصلاة، وإقرار شعائر الحج إلى هذا البيت.
لذلك يليه في السياق بيان في شأن أهل الكتاب الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى؛ وحملة عنيفة عليهم؛ مع فتح باب التوبة لمن يريد أن يتوب. فأما الذين يصرون على الكفر فيعدهم اللعنة الجامعة، والعذاب الشديد الدائم.
ثم بيان لوحدانية الله، وتوجيه إلى الآيات الكونية الشاهدة بهذه الحقيقة. وتنديد بمن يتخذون من دون الله أندادًا. وعرض مشهد من مشاهد القيامة للتابعين منهم والمتبوعين. يتبرأ بعضهم من بعض وهم يرون العذاب.
وبمناسبة ما كان يجادل فيه اليهود من الحلال والحرام في المطاعم والمشارب، مما نزل به القرآن وبيانه عندهم فيما يكتمونه من التوراة.. تجيء دعوة إلى الناس كافة للاستمتاع بالطيبات التي أحلها الله؛ وتحذير من الشيطان الذي يأمرهم بالسوء والفحشاء. تليها دعوة خاصة للذين آمنوا للاستمتاع بما أحل الله لهم والامتناع عما حرم عليهم، وبيان هذه المحرمات التي يجادل فيها اليهود ويماحلون وهم يعلمون.
ومن ثم حملة عنيفة على الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنًا قليلًا. وتهديد رعيب بما ينتظرهم في الآخرة من إهمال وغضب واحتقار.
وفي نهاية الدرس يرد بيان عن حقيقة البر يتضمن قواعد الإيمان والعمل الصالح، يصحح به التصور الإيماني؛ فليس هو شكليات ظاهرية، وتقليبًا للوجوه قبل المشرق والمغرب، ولكنه شعور وعمل وارتباط بالله في الشعور والعمل.. وتبدو العلاقة بين هذا البيان والجدل الذي ثار حول القبلة واضحة.
وهكذا نجد السياق ما يزال في المعركة.. المعركة في داخل النفوس لتصحيح التصورات والموازين. والمعركة مع الكيد والدس والبلبلة التي يقوم بها أعداء المسلمين.
{إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطّوّف بهما ومن تطوع خيرًا فإن الله شاكر عليم}.
هناك عدة روايات عن سبب نزول هذه الآية، أقربها إلى المنطق النفسي المستفاد من طبيعة التصور الذي أنشأه الإسلام في نفوس المجموعة السابقة إلى الإسلام من المهاجرين والأنصار.
الرواية التي تقول: إن بعض المسلمين تحرجوا من الطواف بالصفا والمروة في الحج والعمرة، بسبب أنهم كانوا يسعون بين هذين الجبلين في الجاهلية، وأنه كان فوقهما صنمان هما أساف ونائلة. فكره المسلمون أن يطوفوا كما كانوا يطوفون في الجاهلية.
قال البخاري: حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن عاصم بن سليمان: قال سألت أنسًا عن الصفا والمروة قال: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية. فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما، فأنزل الله عز وجل: {إن الصفا والمروة من شعائر الله}.. وقال الشعبي: كان أساف على الصفا، وكانت نائلة على المروة، وكانوا يستلمونهما فتحرجوا بعد الإسلام من الطواف بينهما فنزلت هذه الآية.
ولم يرد تحديد لتاريخ نزول هذه الآية. والأرجح أنها نزلت متأخرة عن الآيات الخاصة بتحويل القبلة. ومع أن مكة قد أصبحت دار حرب بالنسبة للمسلمين، فإنه لا يبعد أن بعض المسلمين كانوا يتمكنون أفرادًا من الحج ومن العمرة. وهؤلاء هم الذين تحرجوا من الطواف بين الصفا والمروة.. وكان هذا التحرج ثمرة التعليم الطويل، ووضوح التصور الإيماني في نفوسهم، هذا الوضوح الذي يجعلهم يتحرزون ويتوجسون من كل أمر كانوا يزاولونه في الجاهلية. إذ أصبحت نفوسهم من الحساسية في هذه الناحية بحيث تفزع من كل ما كان في الجاهلية، وتتوجس أن يكون منهيًا عنه في الإسلام. الأمر الذي ظهر بوضوح في مناسبات كثيرة.
كانت الدعوة الجديدة قد هزت أرواحهم هزًا وتغلغلت فيها إلى الأعماق، فأحدثت فيها انقلابًا نفسيًا وشعوريًا كاملًا، حتى لينظرون بجفوة وتحرز إلى ماضيهم في الجاهلية؛ ويحسون أن هذا شطر من حياتهم قد انفصلوا عنه انفصالًا كاملًا فلم يعد منهم، ولم يعودوا منه؛ وعاد دنسًا ورجسًا يتحرزون من الإلمام به!
وإن المتابع لسيرة هذه الفترة الأخيرة في حياة القوم ليحس بقوة أثر هذه العقيدة العجيب في تلك النفوس. يحس التغير الكامل في تصورهم للحياة. حتى لكأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمسك بهذه النفوس فهزها هزة نفضت عنها كل رواسبها، وأعادت تأليف ذراتها على نسق جديد؛ كما تصنع الهزة الكهربية في تأليف ذرات الأجسام على نسق آخر غير الذي كان!
وهذا هو الإسلام.. هذا هو: انسلاخًا كاملًا عن كل ما في الجاهلية، وتحرجًا بالغًا من كل أمر من أمور الجاهلية، وحذرًا دائمًا من كل شعور وكل حركة كانت النفس تأتيها في الجاهلية. حتى يخلص القلب للتصور الجديد بكل ما يقتضيه.. فلما أن تم هذا في نفوس الجماعة المسلمة أخذ الإسلام يقرر ما يريد الإبقاء عليه من الشعائر الأولى، مما لا يرى فيه بأسًا. ولكن يربطه بعروة الإسلام بعد أن نزعه وقطعه عن أصله الجاهلي. فإذا أتاه المسلم فلا يأتيه لأنه كان يفعله في الجاهلية؛ ولكن لأنه شعيرة جديدة من شعائر الإسلام، تستمد أصلها من الإسلام.
وهنا نجد مثالا من هذا المنهج التربوي العميق. إذ يبدأ القرآن بتقرير أن الصفا والمروة من شعائر الله: {إن الصفا والمروة من شعائر الله}.
فإذا أطوف بهما مطوف، فإنما يؤدي شعيرة من شعائر الله؛ وإنما يقصد بالطواف بينهما إلى الله. ولقد انقطع ما بين هذا الطواف الجديد وطواف الجاهلية الموروث؛ وتعلق الأمر بالله سبحانه لا بأساف ونائلة وغيرهما من أصنام الجاهلية!
ومن ثم فلا حرج ولا تأثم. فالأمر غير الأمر، والاتجاه غير الاتجاه:
{فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما}.
وقد أقر الإسلام معظم شعائر الحج التي كان العرب يؤدونها، ونفى كل ما يمت إلى الأوثان وإلى أوهام الجاهلية، وربط الشعائر التي أقرها بالتصور الإسلامي الجديد، بوصفها شعائر إبراهيم التي علمه ربه إياها وسيأتي تفصيل هذا عند الكلام على فريضة الحج في موضعه من سياق السورة.. فأما العمرة فكالحج في شعائرها فيما عدا الوقوف بعرفة دون توقيت بمواقيت الحج. وفي كلا الحج والعمرة جعل الطواف بين الصفا المروة من شعائرهما.
ثم يختم الآية بتحسين التطوع بالخير إطلاقًا:
{ومن تطوع خيرًا فإن الله شاكر عليم}.
فيلمح إلى أن هذا الطواف من الخير، وبذلك ينفي من النفوس كل حرج، ويطيب القلوب بهذه الشعائر، ويطمئنها على أن الله يعدها خيرًا، ويجازي عليها بالخير. وهو يعلم ما تنطوي عليه القلوب من نية وشعور.
ولابد أن نقف لحظة أمام ذلك التعبير الموحي: {فإن الله شاكر}.. إن المعنى المقصود أن الله يرضى عن ذلك الخير ويثيب عليه. ولكن كلمة {شاكر} تلقي ظلالًا ندية وراء هذا المعنى المجرد. تلقي ظلال الرضى الكامل، حتى لكأنه الشكر من الرب للعبد. ومن ثم توحي بالأدب الواجب من العبد مع الرب. فإذا كان الرب يشكر لعبده الخير، فماذا يصنع العبد ليوفي الرب حقه من الشكر والحمد؟؟ تلك ظلال التعبير القرآني التي تلمس الحس بكل ما فيها من الندى والرفق والجمال.
ومن بيان مشروعية الطواف بالصفا والمروة ينتقل السياق إلى الحملة على الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى، وهم اليهود الذين سبق الحديث عنهم طويلا في سياق السورة. مما يوحي بأن دسائسهم لم تنقطع حول مسألة الاتجاه إلى المسجد الحرام وفرض الحج إليه أيضًا:
{إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون}.
ولقد كان أهل الكتاب يعرفون مما بين أيديهم من الكتاب مدى ما في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم من حق، ومدى ما في الأوامر التي يبلغها من صدق، ومع هذا يكتمون هذا الذي بينه الله لهم في الكتاب.
فهم وأمثالهم في أي زمان، ممن يكتمون الحق الذي أنزله الله، لسبب من أسباب الكتمان الكثيرة، ممن يراهم الناس في شتى الأزمنة وشتى الأمكنة، يسكتون عن الحق وهم يعرفونه، ويكتمون الأقوال التي تقرره وهم على يقين منها، ويجتنبون آيات في كتاب الله لا يبرزونها بل يسكتون عنها ويخفونها لينحوا الحقيقة التي تحملها هذه الآيات ويخفوها بعيدًا عن سمع الناس وحسهم، لغرض من أغراض هذه الدنيا.. الأمر الذي نشهده في مواقف كثيرة، وبصدد حقائق من حقائق هذا الدين كثيرة. {أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون}.
كأنما تحولوا إلى ملعنة، ينصب عليها اللعن من كل مصدر، ويتوجه إليها- بعد الله- من كل لاعن.
واللعن: الطرد في غضب وزجر، وأولئك الخلق يلعنهم الله فيطردهم من رحمته، ويطاردهم اللاعنون من كل صوب. فهم هكذا مطاردون من الله ومن عباده في كل مكان.
{إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم}.
هؤلاء يفتح القرآن لهم هذه النافذة المضيئة- نافذة التوبة- يفتحها فتنسم نسمة الأمل في الصدور، وتقود القلوب إلى مصدر النور، فلا تيئس من رحمة الله، ولا تقنط من عفوه. فمن شاء فليرجع إلى الحمى الآمن، صادق النية. وآية صدق التوبة الإصلاح في العمل، والتبيين في القول، وإعلان الحق والاعتراف به والعمل بمقتضاه. ثم ليثق برحمة الله وقبوله للتوبة، وهو يقول: {وأنا التواب الرحيم} وهو أصدق القائلين.
فأما الذين يصرون ولا يتوبون حتى تفلت الفرصة وتنتهي المهلة، فأولئك ملاقون ما أوعد الله من قبل به، بزيادة وتفصيل وتوكيد:
{إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون}.
ذلك أنهم أغلقوا على أنفسهم ذلك الباب المفتوح، وتركوا الفرصة تفلت، والمهلة تنقضي، وأصروا على الكتمان والكفر والضلال: {أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين}.. فهي لعنة مطبقة لا ملجأ منها ولا صدر حنون!
ولم يذكر السياق لهم عذابًا آخر غير هذه اللعنة المطبقة؛ بل عدها عذابًا لا يخفف عنهم، ولا يؤجل موعده ولا يمهلون فيه، وإنه لعذاب دونه كل عذاب. عذاب المطاردة والنبذ والجفوة. فلا يتلقاهم صدر فيه حنان، ولا عين فيها قبول، ولا لسان فيه تحية. إنهم ملعونون مطرودون منبوذون من العباد ومن رب العباد في الأرض وفي الملأ الأعلى على السواء.. وهذا هو العذاب الأليم المهين.
بعد هذا يمضي السياق في إقامة التصور الإيماني على قاعدته الكبيرة. قاعدة التوحيد. ويعرض من مشاهد الكون ما يشهد بهذه الحقيقة شهادة لا تقبل الجدل.
ثم يندد بمن يتخذون من دون الله اندادًا؛ ويصور موقفهم المتخاذل يوم يرون العذاب، فيتبرأ بعضهم من بعض؛ فلا ينفعهم هذا التبرؤ، ولا تفيدهم حسراتهم ولا تخرجهم من النار.
{وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون ومن الناس من يتخذ من دون الله اندادًا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبًا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعًا وأن الله شديد العذاب إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار}.
إن وحدة الألوهية هي القاعدة الكبيرة التي يقوم عليها التصور الإيماني. فلم يكن هناك جدل حول الاعتقاد بوجود إله- تختلف التصورات حول ذاته وحول صفاته وحول علاقاته بالخلق ولكنها لا تنفي وجوده- ولم يقع أن نسيت الفطرة هذه الحقيقة، حقيقة وجود إله، إلا في هذه الأيام الأخيرة حين نبتت نابتة منقطعة عن أصل الحياة، منقطعة عن أصل الفطرة، تنكر وجود الله. وهي نابتة شاذة لا جذور لها في أصل هذا الوجود؛ ومن ثم فمصيرها حتمًا إلى الفناء والاندثار من هذا الوجود. هذا الوجود الذي لا يطيق تكوينه، ولا تطيق فطرته بقاء هذا الصنف من الخلائق المقطوعة الجذور!
لذلك اتجه السياق القرآني دائما إلى الحديث عن وحدة الألوهية، بوصفها التصحيح الضروري للتصور، والقاعدة الأساسية لإقامة هذا التصور.. ثم لإقامة سائر القواعد الأخلاقية والنظم الاجتماعية، المنبثقة من هذا التصور.. تصور وحدة الألوهية في هذا الوجود:
{وإلهكم إله واحد}. {لا إله إلا هو}. {الرحمن الرحيم}.
ومن وحدانية الألوهية التي يؤكدها هذا التأكيد، بشتى أساليب التوكيد، يتوحد المعبود الذي يتجه إليه الخلق بالعبودية والطاعة؛ وتتوحد الجهة التي يتلقى منها الخلق قواعد الأخلاق والسلوك؛ ويتوحد المصدر الذي يتلقى منه الخلق أصول الشرائع والقوانين؛ ويتوحد المنهج الذي يصرف حياة الخلق في كل طريق.
وهنا والسياق يستهدف إعداد الأمة المسلمة لدورها العظيم في الأرض، يعيد ذكر هذه الحقيقة التي تكرر ذكرها مرات ومرات في القرآن المكي، والتي ظل القرآن يعمق جذورها ويمد في آفاقها حتى تشمل كل جوانب الحس والعقل، وكل جوانب الحياة والوجود. يعيد ذكر هذه الحقيقة ليقيم على أساسها سائر التشريعات والتكاليف.. ثم يذكر من صفات الله هنا: {الرحمن الرحيم}.
فمن رحمته السابغة العميقة الدائمة تنبثق كل التشريعات والتكاليف.
وهذا الكون كله شاهد بالوحدانية وبالرحمة في كل مجاليه:
{إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل النهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون}.
وهذه الطريقة في تنبيه الحواس والمشاعر جديرة بأن تفتح العين والقلب على عجائب هذا الكون. العجائب التي تفقدنا الألفة جدتها وغرابتها وإيحاءاتها للقلب والحس، وهي دعوة للإنسان أن يرتاد هذا الكون كالذي يراه أول مرة مفتوح العين، متوفز الحس، حي القلب. وكم في هذه المشاهد المكرورة من عجيب. وكم فيها من غريب وكم اختلجت العيون والقلوب وهي تطلع عليها أول مرة؛ ثم الفتها ففقدت هزة المفاجأة، ودهشة المباغتة، وروعة النظرة الأولى إلى هذا المهرجان العجيب.
تلك السماوات والأرض.. هذه الأبعاد الهائلة والأجرام الضخمة والآفاق المسحورة، والعوالم المجهولة.. هذا التناسق في مواقعها وجريانها في ذلك الفضاء الهائل الذي يدير الرءوس.. هذه الأسرار التي توصوص للنفس وتلتف في رداء المجهول.. هذه السماوات والأرض حتى دون أن يعرف الإنسان شيئًا عن حقيقة أبعادها وأحجامها وأسرارها التي يكشف الله للبشر عن بعضها حينما تنمو مداركهم وتسعفهم أبحاث العلوم.
واختلاف الليل والنهار.. تعاقب النور والظلام.. توالي الإشراق والعتمة. ذلك الفجر وذلك الغروب.. كم اهتزت لها مشاعر، وكم وجفت لها قلوب، وكم كانت أعجوبة الأعاجيب.. ثم فقد الإنسان وهلتها وروعتها مع التكرار. إلا القلب المؤمن الذي تتجدد في حسه هذه المشاهد؛ ويظل أبدًا يذكر يد الله فيها فيتلقاها في كل مرة بروعة الخلق الجديد.
والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس.. وأشهد ما أحسست ما في هذه اللفتة من عمق قدر ما أحسست ونقطة صغيرة في خضم المحيط تحملنا وتجري بنا، والموج المتلاطم والزرقة المطلقة من حولنا. والفلك سابحة متناثرة هنا وهناك. ولا شيء إلا قدرة الله، وإلا رعاية الله، وإلا قانون الكون الذي جعله الله، يحمل تلك النقطة الصغيرة على ثبج الأمواج وخضمها الرعيب!
وما أنزل الله من السماء من ماء، فأحيا به الأرض بعد موتها، وبث فيها من كل دابة، وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض.. وكلها مشاهد لو أعاد الإنسان تأملها- كما يوحي القرآن للقلب المؤمن- بعين مفتوحة وقلب واع، لارتجف كيانه من عظمة القدرة ورحمتها.. تلك الحياة التي تنبعث من الأرض حينما يجودها الماء.. هذه الحياة المجهولة الكنه، اللطيفة الجوهر، التي تدب في لطف، ثم تتبدى جاهرة معلنة قوية.. هذه الحياة من أين جاءت؟ كانت كامنة في الحبة والنواة! ولكن من أين جاءت إلى الحبة والنواة؟ أصلها؟ مصدرها الأول؟ إنه لا يجدي الهرب من مواجهة هذا السؤال الذي يلح على الفطرة.
لقد حاول الملحدون تجاهل هذا السؤال الذي لا جواب عليه إلا وجود خالق قادر على إعطاء الحياة للموات. وحاولوا طويلًا أن يوهموا الناس أنهم في طريقهم إلى إنشاء الحياة- بلا حاجة إلى إله!- ثم أخيرًا إذا هم في أرض الإلحاد الجاحد الكافر ينتهون إلى نفض أيديهم والإقرار بما يكرهون: استحالة خلق الحياة! وأعلم علماء روسيا الكافرة في موضوع الحياة هو الذي يقول هذا الآن! ومن قبل راغ دارون صاحب نظرية النشوء والارتقاء من مواجهة هذا السؤال!
ثم تلك الرياح المتحولة من وجهة إلى وجهة، وذلك السحاب المحمول على هواء، المسخر بين السماء والأرض، الخاضع للناموس الذي أودعه الخالق هذا الوجود.. إنه لا يكفي أن تقول نظرية ما تقوله عن أسباب هبوب الريح، وعن طريقة تكون السحاب.. إن السر الأعمق هو سر هذه الأسباب.. سر خلقة الكون بهذه الطبيعة وبهذه النسب وبهذه الأوضاع، التي تسمح بنشأة الحياة ونموها وتوفير الأسباب الملائمة لها من رياح وسحاب ومطر وتربة.. سر هذه الموافقات التي يعد المعروف منها بالآلاف، والتي لو اختلت واحدة منها ما نشأت الحياة أو ما سارت هذه السيرة.. سر التدبير الدقيق الذي يشي بالقصد والاختيار، كما يشي بوحدة التصميم ورحمة التدبير.
إن في ذلك {لآيات لقوم يعقلون}.
نعم لو ألقى الإنسان عن عقله بلادة الألفة والغفلة، فاستقبل مشاهد الكون بحس متجدد، ونظرة مستطلعة، وقلب نوّره الإيمان. ولو سار في هذا الكون كالرائد الذي يهبط إليه أول مرة. تلفت عينه كل ومضة، وتلفت سمعه كل نأمة، وتلفت حسه كل حركة، وتهز كيانه تلك الأعاجيب التي ما تني تتوالى على الأبصار والقلوب والمشاعر.
إن هذا هو ما يصنعه الإيمان. هذا التفتح. هذه الحساسية. هذا التقدير للجمال والتناسق والكمال.. إن الإيمان رؤية جديدة للكون، وإدراك جديد للجمال، وحياة على الأرض في مهرجان من صنع الله، آناء الليل وأطراف النهار.
ومع هذا فإن هناك من لا ينظر ولا يتعقل، فيحيد عن التوحيد الذي يوحي به تصميم الوجود، والنظر في وحدة الناموس الكوني العجيب:
{ومن الناس من يتخذ من دون الله اندادًا يحبونهم كحب الله}.
من الناس من يتخذ من دون الله اندادًا.. كانوا على عهد المخاطبين بهذا القرآن أحجارًا وأشجارًا، أو نجومًا وكواكب، أو ملائكة وشياطين.. وهم في كل عهد من عهود الجاهلية أشياء أو أشخاص أو شارات أو اعتبارات.. وكلها شرك خفي أو ظاهر، إذا ذكرت إلى جانب اسم الله، وإذا أشركها المرء في قلبه مع حب الله، فكيف إذا نزع حب الله من قلبه وأفرد هذه الأنداد بالحب الذي لا يكون إلا لله؟
إن المؤمنين لا يحبون شيئًا حبهم لله.
لا أنفسهم ولا سواهم. لا أشخاصًا ولا اعتبارات ولا شارات ولا قيمًا من قيم هذه الأرض التي يجري وراءها الناس:
{والذين آمنوا أشد حبًا لله}.
أشد حبًا لله، حبًا مطلقًا من كل موازنة، ومن كل قيد. أشد حبًا لله من كل حب يتجهون به إلى سواه.
والتعبير هنا بالحب تعبير جميل، فوق أنه تعبير صادق. فالصلة بين المؤمن الحق وبين الله هي صلة الحب. صلة الوشيجة القلبية، والتجاذب الروحي. صلة المودة والقربى. صلة الوجدان المشدود بعاطفة الحب المشرق الودود.
{ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعًا وأن الله شديد العذاب إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار}.
أولئك الذين اتخذوا من دون الله اندادًا. فظلموا الحق، وظلموا أنفسهم.. لو مدوا بأبصارهم إلى يوم يقفون بين يدي الله الواحد! لو تطلعوا ببصائرهم إلى يوم يرون العذاب الذي ينتظر الظالمين! لو يرون لرأوا {أن القوة لله جميعًا} فلا شركاء ولا أنداد. {وأن الله شديد العذاب}.
لو يرون إذ تبرأ المتبوعون من التابعين. ورأوا العذاب. فتقطعت بينهم الأواصر والعلاقات والأسباب، وانشغل كل بنفسه تابعًا كان أم متبوعًا. وسقطت الرياسات والقيادات التي كان المخدوعون يتبعونها، وعجزت عن وقاية أنفسها فضلًا عن وقاية تابعيها. وظهرت حقيقة الألوهية الواحدة والقدرة الواحدة، وكذب القيادات الضالة وضعفها وعجزها أمام الله وأمام العذاب.
{وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا}.
وتبدى الحنق والغيظ من التابعين المخدوعين في القيادات الضالة. وتمنوا لو يردون لهم الجميل! لو يعودون إلى الأرض فيتبرأوا من تبعيتهم لتلك القيادات العاجزة الضعيفة في حقيقتها، التي خدعتهم ثم تبرأت منهم أمام العذاب!
إنه مشهد مؤثر: مشهد التبرؤ والتعادي والتخاصم بين التابعين والمتبوعين. بين المحبين والمحبوبين! وهنا يجيء التعقيب الممض المؤلم:
{كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار}.
بعد هذا يمضي السياق يدعو الناس إلى التمتع بطيبات الحياة، والبعد عن خبائثها، محذرًا من اتباع الشيطان، الذي يأمرهم بالخبائث، والادعاء على الله في التحليل والتحريم بغير إذن منه ولا تشريع؛ ويحذرهم من التقليد في شأن العقيدة بغير هدى من الله، ويندد بالذين يدعون من دون الله ما لا يعقل ولا يسمع.. وبهذا يلتقي موضوع هذه الفقرة بموضوع الفقرة السابقة في السياق:
{يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالًا طيبًا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون}.
لما بين الله سبحانه أنه الإله الواحد، وأنه الخالق الواحد- في الفقرات السابقة- وأن الذين يتخذون من دون الله أندادًا سينالهم ما ينالهم.. شرع يبين هنا أنه الرازق لعباده، وأنه هو الذي يشرع لهم الحلال والحرام وهذا فرع عن وحدانية الألوهية كما أسلفنا. فالجهة التي تخلق وترزق هي التي تشرع فتحرم وتحلل. وهكذا يرتبط التشريع بالعقيدة بلا فكاك.
وهنا يبيح الله للناس جميعًا أن يأكلوا مما رزقهم في الأرض حلالًا طيبًا- إلا ما شرع لهم حرمته وهو المبين فيما بعد- وأن يتلقوا منه هو الأمر في الحل والحرمة، وألا يتبعوا الشيطان في شيء من هذا، لأنه عدوهم؛ ومن ثم فهو لا يأمرهم بخير، إنما يأمرهم بالسوء من التصور والفعل؛ ويأمرهم بأن يحللوا ويحرموا من عند أنفسهم، دون أمر من الله، مع الزعم بأن هذا الذي يقولونه هو شريعة الله.. كما كان اليهود مثلًا يصنعون، وكما كان مشركو قريش يدعون:
{يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالًا طيبًا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}.
وهذا الأمر بالإباحة والحل لما في الأرض- إلا المحظور القليل الذي ينص عليه القرآن نصًا- يمثل طلاقة هذه العقيدة، وتجاوبها مع فطرة الكون وفطرة الناس. فالله خلق ما في الأرض للإنسان، ومن ثم جعله له حلالًا، لا يقيده إلا أمر خاص بالحظر، وإلا تجاوز دائرة الاعتدال والقصد. ولكن الأمر في عمومه أمر طلاقة واستمتاع بطيبات الحياة، واستجابة للفطرة بلا كزازة ولا حرج ولا تضييق.. كل أولئك بشرط واحد، هو أن يتلقى الناس ما يحل لهم وما يحرم عليهم من الجهة التي ترزقهم هذا الرزق. لا من إيحاء الشيطان الذي لا يوحي بخير لأنه عدو للناس بين العداوة. لا يأمرهم إلا بالسوء وبالفحشاء، وإلا بالتجديف على الله، والإفتراء عليه، دون تثبت ولا يقين!
{وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا}.
وسواء كان هؤلاء الذين تعنيهم الآية هم المشركون الذين تكرر منهم هذا القول كلما دعوا إلى الإسلام، وإلى تلقي شرائعهم وشعائرهم منه، وهجر ما ألفوه في الجاهلية مما لا يقره الإسلام. أو كانوا هم اليهود الذين كانوا يصرون على ما عندهم من مأثور آبائهم ويرفضون الاستجابة للدين الجديد جملة وتفصيلًا.. سواء كانوا هؤلاء أم هؤلاء فالآية تندد بتلقي شيء في أمر العقيدة من غير الله؛ وتندد بالتقليد في هذا الشأن والنقل بلا تعقل ولا إدراك:
{أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون}.
أولو كان الأمر كذلك، يصرون على اتباع ما وجدوا عليه آباءهم؟ فأي جمود هذا وأي تقليد؟!
ومن ثم يرسم لهم صورة زرية تليق بهذا التقليد وهذا الجمود، صورة البهيمة السارحة التي لا تفقه ما يقال لها، بل إذا صاح بها راعيها سمعت مجرد صوت لا تفقه ماذا يعني! بل هم أضل من هذه البهيمة، فالبهمية ترى وتسمع وتصيح، وهم صم بكم عمي:
{ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون}!
صم بكم عمي. ولو كانت لهم آذان وألسنة وعيون. ما داموا لا ينتفعون بها ولا يهتدون. فكأنها لا تؤدي وظيفتها التي خلقت لها، وكأنهم إذن لم توهب لهم آذان وألسنة وعيون.
وهذه منتهى الزراية بمن يعطل تفكيره، ويغلق منافذ المعرفة والهداية، ويتلقى في أمر العقيدة والشريعة من غير الجهة التي ينبغي أن يتلقى منها أمر العقيدة والشريعة.
وهنا يتجه بالحديث- خاصة- إلى الذين آمنوا. يبيح لهم الأكل من طيبات ما رزقهم. ويوجههم إلى شكر المنعم على نعمه. ويبين لهم ما حرم عليهم، وهو غير الطيبات التي أباحها لهم. ويندد بالذين يجادلونهم في هذه الطيبات والمحرمات من اليهود. وهي عندهم في كتابهم:
{يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناَ قليلًا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد}.
إن الله ينادي الذين آمنوا بالصفة التي تربطهم به سبحانه، وتوحي إليهم أن يتلقوا منه الشرائع؛ وأن يأخذوا عنه الحلال والحرام. ويذكرهم بما رزقهم فهو وحده الرازق، ويبيح لهم الطيبات مما رزقهم؛ فيشعرهم أنه لم يمنع عنهم طيبًا من الطيبات، وأنه إذا حرم عليهم شيئًا فلأنه غير طيب، لا لأنه يريد أن يحرمهم ويضيق عليهم- وهو الذي أفاض عليهم الرزق ابتداء- ويوجههم للشكر إن كانوا يريدون أن يعبدوه وحده بلا شريك. فيوحي إليهم بأن الشكر عبادة وطاعة يرضاها الله من العباد.. كل أولئك في آية واحدة قليلة الكلمات:
{يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون}.
ثم يبين لهم المحرمات من المآكل نصًا وتحديدًا باستعمال أداة القصر {إنما}.
{إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله}.
والميتة تأباها النفس السليمة وكذلك الدم. فضلًا على ما أثبته الطب- بعد فترة طويلة من تحريم القرآن والتوراة قبله بإذن الله- من تجمع الميكروبات والمواد الضارة في الميتة وفي الدم، ولا ندري إن كان الطب الحديث قد استقصى ما فيهما من الأذى أم إن هناك أسبابًا أخرى للتحريم لم يكشف عنها بعد للناس.
فأما الخنزير فيجادل فيه الآن قوم.. والخنزير بذاته منفر للطبع النظيف القويم.. ومع هذا فقد حرمه الله منذ ذلك الأمد الطويل ليكشف علم الناس منذ قليل أن في لحمه ودمه وأمعائه دودة شديدة الخطورة الدودة الشريطية وبويضاتها المتكيسة. ويقول الآن قوم: إن وسائل الطهو الحديثة قد تقدمت، فلم تعد هذه الديدان وبويضاتها مصدر خطر لأن إبادتها مضمونة بالحرارة العالية التي توافرها وسائل الطهو الحديثة.. وينسى هؤلاء الناس أن علمهم قد احتاج إلى قرون طويلة ليكشف آفة واحدة. فمن ذا الذي يجزم بأن ليس هناك آفات أخرى في لحم الخنزير لم يكشف بعد عنها؟ أفلا تستحق الشريعة التي سبقت هذا العلم البشري بعشرات القرون أن نثق بها، وندع كلمة الفصل لها، ونحرم ما حرمت، ونحلل ما حللت، وهي من لدن حكيم خبير!
أما ما أهل به لغير الله. أي ما توجه به صاحبه لغير الله. فهو محرم، لا لعلة فيه، ولكن للتوجه به لغير الله. محرم لعلة روحية تنافي صحة التصور، وسلامة القلب، وطهارة الروح، وخلوص الضمير، ووحدة المتجه.. فهو ملحق بالنجاسة المادية والقذارة الحقيقية على هذا المعنى المشترك للنجاسة. وهو ألصق بالعقيدة من سائر المحرمات قبله. وقد حرص الإسلام على أن يكون التوجه لله وحده بلا شريك.
ومن هنا تتجلى علاقة التحليل والتحريم في هذه الآيات، بالحديث عن وحدانية الله ورحمته كذلك في الآيات السابقة. فالصلة قوية ومباشرة بين الاعتقاد في إله واحد، وبين التلقي عن أمر الله في التحليل والتحريم.. وفي سائر أمور التشريع.
ومع هذا فالإسلام يحسب حساب الضرورات، فيبيح فيها المحظورات، ويحل فيها المحرمات بقدر ما تنتفي هذه الضرورات، بغير تجاوز لها ولا تعد لحدودها:
{فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم}.
وهو مبدأ عام ينصب هنا على هذه المحرمات. ولكنه بإطلاقه يصح أن يتناول سواها في سائر المقامات. فأيما ضرورة ملجئة يخشى منها على الحياة، فلصاحبها أن يتفادى هذا الحرج بتناول المحظور في الحدود التي تدفع هذه الضرورة ولا زيادة. على أن هناك خلافًا فقهيًا حول مواضع الضرورة.. هل فيها قياس؟ أم هي الضرورات التي نص عليها الله بأعيانها.
وحول مقدار ما تدفع به الضرورة؟ هل هو أقل قدر من المحظور أم أكلة أو شربة كاملة.. ولا ندخل نحن في هذا الخلاف الفقهي. وحسبنا هذا البيان في ظلال القرآن.
ولقد جادل اليهود جدالًا كثيرًا حول ما أحله القرآن وما حرمه فقد كانت هناك محرمات على اليهود خاصة وردت في سورة أخرى: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم}. بينما كانت هذه مباحة للمسلمين. ولعلهم جادلوا في هذا الحل. وكذلك روي أنهم جادلوا في المحرمات المذكورة هنا مع أنها محرمة عليهم في التوراة.. وكان الهدف دائما هو التشكيك في صحة الأوامر القرآنية وصدق الوحي بها من الله.
ومن ثم نجد هنا حملة قوية على الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب:
{إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنًا قليلًا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد}.
والتنديد بكتمان ما أنزل الله من الكتاب كان المقصود به أولًا أهل الكتاب. ولكن مدلول النص العام ينطبق على أهل كل ملة، يكتمون الحق الذي يعلمونه، ويشترون به ثمنًا قليلًا. إما هو النفع الخاص الذي يحرصون عليه بكتمانهم للحق، والمصالح الخاصة التي يتحرونها بهذا الكتمان، ويخشون عليها من البيان. وإما هو الدنيا كلها- وهي ثمن قليل حين تقاس إلى ما يخسرونه من رضى الله، ومن ثواب الآخرة.
وفي جو الطعام ما حرم منه وما حلل يقول القرآن عن هؤلاء:
{ما يأكلون في بطونهم إلا النار}.
تنسيقًا للمشهد في السياق. وكأنما هذا الذي يأكلونه من ثمن الكتمان والبهتان نار في بطونهم! وكأنما هم يأكلون النار! وإنها لحقيقة حين يصيرون إلى النار في الآخرة، فإذا هي لهم لباس، وإذا هي لهم طعام!
وجزاء ما كتموا من آيات الله أن يهملهم الله يوم القيامة، ويدعهم في مهانة وازدراء والتعبير القرآني عن هذا الإهمال وهذه المهانة وهذا الازدراء هو قوله: {لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم}.
لتجسيم الإهمال في صورة قريبة لحس البشر وإدراكهم.. لا كلام ولا اهتمام ولا تطهير ولا غفران. {ولهم عذاب أليم}.
وتعبير آخر مصور موح:
{أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة}.
فكأنما هي صفقة يدفعون فيها الهدى ويقبضون الضلالة! ويؤدون المغفرة ويأخذون فيها العذاب.. فما أخسرها من صفقة وأغباها! ويا لسوء ما ابتاعوا وما اختاروا! وإنها لحقيقة. فقد كان الهدى مبذولًا لهم فتركوه وأخذوا الضلالة.
وكانت المغفرة متاحة لهم فتركوها واختاروا العذاب.
{فما أصبرهم على النار}.
فيا لطول صبرهم على النار، التي اختاروها اختيارًا، وقصدوا إليها قصدًا.
فيا للتهكم الساخر من طول صبرهم على النار!
وإنه لجزاء مكافئ لشناعة الجريمة. جريمة كتمان الكتاب الذي أنزله الله ليعلن للناس. وليحقق في واقع الأرض، وليكون شريعة ومنهاجًا. فمن كتمه فقد عطله عن العمل. وهو الحق الذي جاء للعمل:
{ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق}.
فمن فاء إليه فهو على الهدى، وهو في وفاق مع الحق، وفي وفاق مع المهتدين من الخلق، وفي وفاق مع فطرة الكون وناموسه الأصيل.
{وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد}.
شقاق مع الحق، وشقاق مع ناموس الفطرة، وشقاق فيما بينهم وبين أنفسهم.. ولقد كانوا كذلك، وما يزالون. وتلحق بهم كل أمة تختلف في كتابها. فلا تأخذ به جملة، وتمزقه تفاريق.. وعد الله الذي يتحقق على مدار الزمان واختلاف الأقوام. ونحن نرى مصداقه واقعًا في هذا العالم الذي نعيش فيه.
وأخيرًا وفي آية واحدة يضع قواعد التصور الإيماني الصحيح، وقواعد السلوك الإيماني الصحيح، ويحدد صفة الصادقين المتقين:
{ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون}.
والراجح أن هناك صلة بين هذا البيان وبين تحويل القبلة وما ثار حوله من جدل طويل. ولقد سبق الكلام عن حكمة تحويل القبلة. فالآن يصل السياق إلى تقرير الحقيقة الكبرى حول هذه القضية وحول سائر القضايا الجدلية التي يثيرها اليهود حول شكليات الشعائر والعبادات، وكثيرًا ما كانوا يثيرون الجدل حول هذه الأمور.
إنه ليس القصد من تحويل القبلة، ولا من شعائر العبادة على الإطلاق، أن يولي الناس وجوهم قبل المشرق والمغرب.. نحو بيت المقدس أو نحو المسجد الحرام.. وليست غاية البر- وهو الخير جملة- هي تلك الشعائر الظاهرة. فهي في ذاتها- مجردة عما يصاحبها في القلب من المشاعر وفي الحياة من السلوك- لا تحقق البر، ولا تنشئ الخير.. إنما البر تصور وشعور وأعمال وسلوك. تصور ينشئ أثره في ضمير الفرد والجماعة؛ وعمل ينشئ أثره في حياة الفرد والجماعة. ولا يغني عن هذه الحقيقة العميقة تولية الوجوه قبل المشرق والمغرب.. سواء في التوجه إلى القبلة هذه أم تلك؛ أو في التسليم من الصلاة يمينا وشمالًا، أو في سائر الحركات الظاهرة التي يزاولها الناس في الشعائر.
{ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين} الآية.
ذلك هو البر الذي هو جماع الخير.. فماذا في تلك الصفات من قيم تجعل لها هذا الوزن في ميزان الله؟
ما قيمة الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين؟
إن الإيمان بالله هو نقطة التحول في حياة البشرية من العبودية لشتى القوى، وشتى الأشياء، وشتى الاعتبارات.. إلى عبودية واحدة لله تتحرر بها النفس من كل عبودية، وترتفع بها إلى مقام المساواة مع سائر النفوس في الصف الواحد أمام المعبود الواحد؛ ثم ترتفع بها فوق كل شيء وكل اعتبار.. وهي نقطة التحول كذلك من الفوضى إلى النظام، ومن التيه إلى القصد، ومن التفكك إلى وحدة الاتجاه. فهذه البشرية دون إيمان بالله الواحد، لا تعرف لها قصدًا مستقيمًا ولا غاية مطردة، ولا تعرف لها نقطة ارتكاز تتجمع حولها في جد وفي مساواة، كما يتجمع الوجود كله، واضح النسب والارتباطات والأهداف والعلاقات.. والإيمان باليوم الآخر هو الإيمان بالعدالة الإلهية المطلقة في الجزاء؛ وبأن حياة الإنسان على هذه الأرض ليست سدى ولا فوضى بغير ميزان. وبأن الخير لا يعدم جزاءه ولو بدا أنه في هذه الأرض لا يلقى الجزاء.. والإيمان بالملائكة طرف من الإيمان بالغيب الذي هو مفرق الطريق بين إدراك الإنسان وإدراك الحيوان، وتصور الإنسان لهذا الوجود وتصور الحيوان. الإنسان الذي يؤمن بما وراء الحس والحيوان المقيد بحسه لا يتعداه.. والإيمان بالكتاب والنبيين هو الإيمان بالرسالات جميعًا وبالرسل أجمعين، وهو الإيمان بوحدة البشرية، ووحدة إلهها، ووحدة دينها، ووحدة منهجها الإلهي.. ولهذا الشعور قيمة في شعور المؤمن الوارث لتراث الرسل والرسالات.
وما قيمة إيتاء المال- على حبه والاعتزاز به- لذوي القربي واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب؟
إن قيمته هي الانعتاق من ربقة الحرص والشح والضعف والأثرة. انعتاق الروح من حب المال الذي يقبض الأيدي عن الإنفاق، ويقبض النفوس عن الأريحية، ويقبض الأرواح عن الانطلاق. فهي قيمة روحية يشير إليها ذلك النص على حب المال. وقيمة شعورية أن يبسط الإنسان يده وروحه فيما يحب من مال. لا في الرخيص منه ولا الخبيث. فيتحرر من عبودية المال، هذه العبودية التي تستذل النفوس، وتنكس الرءوس. ويتحرر من الحرص. والحرص يذل اعناق الرجال. وهي قيمة إنسانية كبرى في حساب الإسلام، الذي يحاول دائمًا تحرير الإنسان من وساوس نفسه وحرصها وضعفها قبل أن يحاول تحريره من الخارج في محيط الجماعة وارتباطاتها، يقينًا منه بأن عبيد أنفسهم هم عبيد الناس؛ وأن أحرار النفوس من الشهوات هم أحرار الرءوس في المجتمعات!.. ثم إنها بعد ذلك كله قيمة إنسانية في محيط الجماعة.. هذه الصلة لذوي القربى فيها تحقيق لمروءة النفس، وكرامة الأسرة، ووشائج القربى. والأسرة هي النواة الأولى للجماعة. ومن ثم هذه العناية بها وهذا التقديم.. وهي لليتامى تكافل بين الكبار والصغار في الجماعة، وبين الأقوياء فيها والضعفاء؛ وتعويض لهؤلاء الصغار عن فقدان الحماية والرعاية الأبويتين؛ وحماية للأمة من تشرد صغارها، وتعرضهم للفساد، وللنقمة على المجتمع الذي لم يقدم لهم برًا ولا رعاية.
وهي للمساكين الذين لا يجدون ما ينفقون- وهم مع ذلك ساكنون لا يسألون ضنًا بماء وجوههم- احتفاظ لهم بكرامة نفوسهم، وصيانة لهم من البوار، وإشعار لهم بالتضامن والتكافل في محيط الجماعة المسلمة، التي لا يهمل فيها فرد، ولا يضيع فيها عضو.. وهي لابن السبيل- المنقطع عن ماله وأهله- واجب للنجدة في ساعة العسرة، وانقطاع الطريق دون الأهل والمال والديار؛ وإشعار له بأن الإنسانية كلها أهل، وبأن الأرض كلها وطن، يلقى فيها أهلًا بأهل، ومالًا بمال، وصلة بصلة، وقرارًا بقرار.. وهي للسائلين إسعاف لعوزهم، وكف لهم عن المسألة التي يكرهها الإسلام. وفي الإسلام لا يسأل من يجد الكفاية أو من يجد عملًا، فهو مأمور من دينه أن يعمل ولا يسأل، وأن يقنع ولا يسأل. فلا سائل إلا حيث يعييه العمل والمال.. وهي في الرقاب اعتاق وتحرير لمن أوقعه سوء عمله في الرق بحمل السيف في وجه الإسلام- حتى يسترد حريته وإنسانيته الكريمة. ويتحقق هذا النص إما بشراء الرقيق وعتقه، وإما بإعطائه ما يؤدي به ما كاتب عليه سيده في نظير عتقه. والإسلام يعلن حرية الرقيق في اللحظة التي يطلب فيها الحرية، ويطلب مكاتبته عليها- أي أداء مبلغ من المال في سبيلها، ومنذ هذه اللحظة يصبح عمله بأجر يحسب له، ويصبح مستحقًا في مصارف الزكاة، ويصبح من البر كذلك إعطاؤه من النفقات غير الزكاة.. كل أولئك ليسارع في فك رقبته، واسترداد حريته.
وإقامة الصلاة؟ ما قيمتها في مجال البر الذي هو جماع الخير؟
إن إقامة الصلاة شيء غير التولي قبل المشرق والمغرب. إنها توجه الإنسان بكليته إلى ربه، ظاهرًا وباطنًا جسمًا وعقلًا وروحًا. إنها ليست مجرد حركات رياضية بالجسم. وليست مجرد توجه صوفي بالروح. فالصلاة الإسلامية تلخص فكرة الإسلام الأساسية عن الحياة. إن الإسلام يعترف بالإنسان جسمًا وعقلًا وروحًا في كيان؛ ولا يفترض أن هناك تعارضًا بين نشاط هذه القوى المكونة في مجموعها للإنسان، ولا يحاول أن يكبت الجسم لتنطلق الروح، لأن هذا الكبت ليس ضروريًا لانطلاق الروح. ومن ثم يجعل عبادته الكبرى.. الصلاة. مظهرًا لنشاط قواه الثلاث وتوجهها إلى خالقها جميعًا في ترابط واتساق. يجعلها قيامًا وركوعًا وسجودًا تحقيقًا لحركة الجسد، ويجعلها قراءة وتدبرًا وتفكيرًا في المعنى والمبنى تحقيقا لنشاط العقل؛ ويجعلها توجها واستسلامًا لله تحقيقا لنشاط الروح.. كلها في آن.. وإقامة الصلاة على هذا النحو تذكر بفكرة الإسلام كلها عن الحياة، وتحقق فكرة الإسلام كلها عن الحياة.. في كل ركعة وفي كل صلاة.
وإيتاء الزكاة؟.. إنه الوفاء بضريبة الإسلام الاجتماعية التي جعلها الله حقًا في أموال الأغنياء للفقراء، بحكم أنه هو صاحب المال، وهو الذي ملكه للفرد بعقد منه، من شروطه إيتاء الزكاة. وهي مذكورة هنا بعد الحديث عن إيتاء المال- على حبه- لمن ذكرتهم الآية من قبل على الإطلاق؛ مما يشير إلى أن الإنفاق في تلك الوجوه ليس بديلا من الزكاة، وليست الزكاة بديلة منه.. وإنما الزكاة ضريبة مفروضة، والإنفاق تطوع طليق.. والبر لا يتم إلا بهذه وتلك. وكلتاهما من مقومات الإسلام. وما كان القرآن ليذكر الزكاة منفردة بعد الإنفاق إلا وهي فريضة خاصة لا يسقطها الإنفاق، ولا تغني هي عن الإنفاق.
والوفاء بالعهد؟ إنه سمة الإسلام التي يحرص عليها، ويكررها القرآن كثيرًا؛ ويعدها آية الإيمان، وآية الآدمية وآية الإحسان. وهي ضرورية لإيجاد جو من الثقة والطمأنينة في علاقات الأفراد وعلاقات الجماعات وعلاقات الأمم والدول. تقوم ابتداء على الوفاء بالعهد مع الله. وبغير هذه السمة يعيش كل فرد مفزعًا قلقًا لا يركن إلى وعد، ولا يطمئن إلى عهد، ولا يثق بإنسان، ولقد بلغ الإسلام من الوفاء بالعهد لأصدقائه وخصومه على السواء قمة لم تصعد إليها البشرية في تاريخها كله، ولم تصل إليها إلا على حداء الإسلام وهدي الإسلام.
والصبر في البأساء والضراء وحين البأس؟.. إنها تربية للنفوس وإعداد، كي لا تطير شعاعًا مع كل نازلة، ولا تذهب حسرة مع كل فاجعة، ولا تنهار جزعًا أمام الشدة. إنه التجمل والتماسك والثبات حتى تنقشع الغاشية وترحل النازلة ويجعل الله بعد عسر يسرًا. إنه الرجاء في الله والثقة بالله والاعتماد على الله. ولابد لأمة تناط بها القوامة على البشرية، والعدل في الأرض والصلاح، أن تهيأ لمشاق الطريق ووعثائه بالصبر في البأساء والضراء وحين الشدة. الصبر في البؤس والفقر. والصبر في المرض والضعف. والصبر في القلة والنقص. والصبر في الجهاد والحصار، والصبر على كل حال. كي تنهض بواجبها الضخم، وتؤدي دورها المرسوم، في ثبات وفي ثقة وفي طمأنينة وفي اعتدال.
ويبرز السياق هذه الصفة.. صفة الصبر في البأساء والضراء وحين البأس.. يبرزها بإعطاء كلمة {الصابرين} وصفًا في العبارة يدل على الاختصاص. فما قبلها من الصفات مرفوع أما هي فمنصوبة على الاختصاص بتقدير: وأخص الصابرين.. وهي لفتة خاصة لها وزنها في معرض صفات البر.. لفتة خاصة تبرز الصابرين وتميزهم، وتخصص هذه السمة من بين سمات الإيمان بالله والملائكة والكتاب والنبيين وإيتاء المال- على حبه- وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والوفاء بالعهد.. وهو مقام للصابرين عظيم، وتقدير لصفة الصبر في ميزان الله، يلفت الأنظار.
وهكذا تجمع آية واحدة بين أصول الاعتقاد، وتكاليف النفس والمال، وتجعلها كلًا لا يتجزأ، ووحدة لا تنفصم.
وتضع على هذا كله عنوانًا واحدًا هو البر أو هو جماع الخير أو هو الإيمان كما ورد في بعض الأثر. والحق أنها خلاصة كاملة للتصور الإسلامي ولمبادئ المنهج الإسلامي المتكامل لا يستقيم بدونها إسلام.
ومن ثم تعقب الآية على من هذه صفاتهم بأنهم:
{أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون}.
أولئك الذين صدقوا ربهم في إسلامهم. صدقوا في إيمانهم واعتقادهم، وصدقوا في ترجمة هذا الإيمان والاعتقاد إلى مدلولاته الواقعة في الحياة.
وأولئك هم المتقون الذين يخشون ربهم ويتصلون به، ويؤدون واجبهم له في حساسية وفي إشفاق.
وننظر نحن من خلال هذه الآية إلى تلك الآفاق العالية التي يريد الله أن يرفع الناس إليها، بمنهجه الرفيع القويم.. ثم ننظر إلى الناس وهم ينأون عن هذا المنهج ويتجنبونه، ويحاربونه، ويرصدون له العداوة، ولكل من يدعوهم إليه.. ونقلب أيادينا في أسف، ونقول ما قال الله سبحانه: يا حسرة على العباد!
ثم ننظر نظرة أخرى فتنجلي هذه الحسرة، على أمل في الله وثيق، وعلى يقين في قوة هذا المنهج لا يتزعزع، ونستشرف المستقبل فإذا على الأفق أمل. أمل وضيء منير. أن لابد لهذه البشرية من أن تفيء- بعد العناء الطويل- إلى هذا المنهج الرفيع. وأن تتطلع إلى هذا الأفق الوضيء.. والله المستعان. اهـ.