فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ورد بأن الداعي لارتكابه عطف قوله تعالى: {وأترفناهم في الحياة الدنيا} أي نعمناهم ووسعنا عليهم فيها على الصلة فيكون صفة معنى للموصوف بالموصول والمتعارف إنما هو وصف الأشراف بالمترفين دون غيرهم وكذا الحال إذا لم يعطف وجعل حالًا من ضمير {كَذَّبُواْ} وأنت تعلم أنا لا نسلم أن المتعارف إنما هو وصف الأشراف بالمترفين ولئن سلمنا فوصفهم بذلك قد يبقى مع جعل الموصول صفة لقومه بأن يجعل جملة {أترفناهم} حالًا من {يا أيها الملأ} بدون تقدير قد أو بتقديرها أي قال الملأ في حق رسولنا {مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ} إلخ في حال إحساننا عليهم.
نعم الظاهر لفظًا عطف جملة {أترفناهم} على جملة الصلة، والأبلغ معنى جعلها حالًا من الضمير لإفادته الإساءة إلى من أحسن وهو أقوى في الذم، وجىء بالواو العاطفة في {الفاتحين وَقَالَ الملأ} هنا ولم يجأ بها بل جىء بالجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا في موضع آخر لأن ما نحن فيه حكاية لتفاوت ما بين المقالتين أعني مقالة المرسل ومقالة المرسل إليهم لا حكاية المقاولة لأن المرسل إليهم قالوا ما قالوا بعضهم لبعض وظاهر إباء ذلك الاستئناف وأما هنالك فيحق الاستئناف لأنه في حكاية المقاولة بين المرسل والمرسل إليهم واستدعاء مقام المخاطبة ذلك بين كذا في الكشف، ولا يحسم مادة السؤال إذ يقال معه: لم حكى هنالك المقاولة وهنا التفاوت بين المقالتين ولم يعكس؟ ومثل هذا يرد على من علل الذكر هنا والترك هناك بالتفنن بأن يقال: إنه لو عكس بأن ترك هنا وذكر هناك لحصل التفنن أيضًا، وأنا لم يظهر لي السر في ذلك، وأما الإتيان بالواو هنا والفاء في {فَقَالَ الملأ} [المؤمنون: 24] في قصة نوح عليه السلام فقد قيل: لعله لأن كلام الملأ هنا لم يتصل بكلام رسولهم بخلاف كلام قوم نوح عليه السلام والله تعالى أعلم بحقائق الأمور.
ولا يخفى ما في قولهم {مَا هذا} إلخ من المبالغة في توهين أمر الرسول عليه السلام وتهوينه قاتلهم الله ما أجهلهم، وقوله تعالى: {يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} تقرير للمماثلة، والظاهر أن {مَا} الثانية موصولة والعائد إليها ضمير مجرور حذف مع الجار لدلالة ما قبله عليه والحذف هنا مثله في قولك: مررت بالذي مررت في استيفاء الشرائط، وحسنه هنا كون {تَشْرَبُونَ} فاصلة.
وفي التحرير زعم الفراء حذف العائد المجرور مع الجار في هذه الآية وهذا لا يجوز عند البصريين، والآية إما لا حذف فيها أو فيها حذف المفعول فقط لأن ما إذا كانت مصدرية لم تحتج إلى عائد وإن كانت موصولة فالعائد المحذوف ضمير منصوب على المفعولية متصل بالفعل والتقدير مما تشربونه اهـ. وهذا تخريج على قاعدة البصريين ويفوت عليه فصاحة معادلة التركيب على أن الوجه الأول محوج إلى تأويل المصدر باسم المفعول وبعد ذلك يحتاج إلى تكلف لصحة المعنى ويحتاج إلى ذلك التكلف على الوجه الثاني أيضًا إذ لا يشرب أحد من مشروبهم ولا من الذي يشربونه وإنما يشرب من فرد آخر من الجنس فلابد من إرادة الجنس على الوجهين.
{وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مّثْلَكُمْ} فيما ذكر من الأحوال والصفات أي إن امتثلتم بأوامره {إِنَّكُمْ إِذًا لخاسرون} عقولكم ومغبونون في آرائكم حيث أذللتم أنفسكم، واللام موطئة للقسم وجملة {إِنَّكُمْ لخاسرون} جواب القسم، و{إِذَا} فيما أميل إليه ظرفية متعلقة بما تدل عليه النسبة بين المبتدأ والخبر من الثبوت أو بالخبر واللام لا تمنع عن العمل في مثل ذلك، وجواب الشرط محذوف دل عليه المذكور.
قال أبو حيان: ولو كان هذا هو الجواب للزمت الفاء فيه بأن يقال: فإنكم إلخ بل لو كان بالفاء في تركيب غير القرآن الكريم لم يكن ذلك التركيب جائزًا إلا عند الفراء، والبصريون لا يجيزونه وهو عندهم خطأ. اهـ.
وذكر بعضهم أن {إِذَا} هنا للجزاء والجواب وتكلف لذلك ولا يدعو إليه سوى ظن وجوب اتباع المشهور وأن الحق في أمثال هذه المقامات منحصر فيما عليه الجمهور، وفي همع الهوامع وكذا في الاتقان للجلال السيوطي في هذا البحث ما ينفعك مراجعته فراجعه.
{أَيَعِدُكُمْ} استئناف مسوق لتقرير ما قبله من زجرهم عن اتباعه عليه السلام بإنكار وقوع ما يدعوهم للإيمان به واستبعاده، وقوله تعالى: {إِنَّكُمْ} على تقدير حرف الجر أي بأنكم، ويجوز أن لا يقدر نحو وعدتك الخير {إِذَا مِتٌّمْ} بكسر الميم من مات يمات، وقرئ بضمها من مات يموت {وَكُنتُمْ تُرَابًا وعظاما} أي وكان بعض أجزائكم من اللحم ونظائره ترابًا وبعضها عظامًا نخرة مجردة عن اللحوم والأعصاب، وتقديم التراب لعراقته في الاستبعاد وانقلابه من الأجزاء البادية أو وكان متقدموكم ترابًا صرفًا ومتأخروكم عظامًا، وقوله تعالى: {إِنَّكُمْ} تأكيد لأنكم الأول لطول الفصل بينه وبين خبره الذي هو قوله تعالى: {مُّخْرَجُونَ} وإذا ظرف متعلق به أي أيعدكم أنكم مخرجون من قبوركم أحياء كما كنتم أولًا إذا متم وكنتم ترابًا.
واختار هذا الإعراب الفراء والجرمي والمبرد، ولا يلزم من ذلك كون الإخراج وقت الموت كما لا يخفى خلافًا لما توهمه أبو نزار الملقب بملك النحاة.
ورده السخاوي ونقله عنه الجلال السيوطي في الأشباه والمنقول عن سيبويه أن {إِنَّكُمْ} بدل من {إِنَّكُمْ} الأول وفيه معنى التأكيد وخبر أن الأولى محذوف لدلالة خبر الثانية عليه أي أيعدكم أنكم تبعثون إذا متم وهذا الخبر المحذوف هو العامل في إذا، ولا يجوز أن يكون هو الخبر لأن ظرف الزمان لا يخبر به عن الجثة، وإذا أول بحذف المضاف أي إن إخراجكم إذا متم جاز، وكان المبرد يأبى البدل لكونه من غير مستقل إذ لم يذكر خبر أن الأولى.
وذهب الأخفش إلى أن {أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ} مقدر بمصدر مرفوع بفعل محذوف تقديره يحدث إخراجكم، فعلى هذا التقدير يجوز أن تكون الجملة الشرطية خبر {إِنَّكُمْ} الأول ويكون جواب {إِذَا} ذلك الفعل المحذوف، ويجوز أن يكون ذلك الفعل هو خبر أن ويكون عاملًا في إذا، وبعضهم يحكي عن الأخفش أنه يجعل {أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ} فاعلًا بإذا كما يجعل الخروج في قولك: يوم الجمعة الخروج فاعلًا بيوم على معنى يستقر الخروج يوم الجمعة.
وجوز بعضهم أن يكون {أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ} مبتدأ و{إِذَا مِتٌّمْ} خبرًا على معنى إخراجكم إذا متم وتجعل الجملة خبر أن الأولى، قال في البحر: وهذا تخريج سهل لا تكلف فيه ونسبه السخاوي في سفر السعادة إلى المبرد، والذي يقتضيه جزالة النظم الكريم ما ذكرناه عن الفراء ومن معه.
وفي قراءة عبد الله {أَيَعِدُكُمْ إِذَا مِتٌّمْ} بإسقاط {إِنَّكُمْ} الأولى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31)}.
تعقيب قصة نوح وقومه بقصة رسول آخر، أي أخرى، وما بعدها من القصص يراد منه أن ما أصاب قوم نوح على تكذيبهم له لم يكن صدفة ولكنه سنة الله في المكذبين لرسله ولذلك لم يعيَّن القرن ولا القرون بأسمائهم. والقرن: الأمة.
والأظهر أن المراد به هنا ثمود لأنه الذي يناسبه قوله في آخر القصة {فأخذتهم الصيحة بالحق} [المؤمنون: 41]، لأن ثمود أُهلكوا بالصاعقة ولقوله: {قال عمَّا قليلٍ لَيُصْبِحُنّ نادمين} [المؤمنون: 40] مع قوله في سورة الحجر (83) {فأخذتهم الصيحَةُ مصبحين} فكان هلاكهم في الصباح.
ولعل تخصيصهم بالذكر هنا دون عاد خلافًا لما تكرر في غير هذه الآية لأن العبرة بحالهم أظهر لبقاء آثار ديارهم بالحِجر كما قال تعالى: {وإنكم لَتَمُرّونَ عليهم مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْللِ أفلا تعقلون} [الصافات: 137، 138].
وقوله: {فأرسلنا فيهم رسولًا} أي جعل الرسول بينهم وهو منهم، أي من قبيلتهم.
وضمير الجمع عائد إلى {قرنًا} لأنه في تأويل الناس كقوله: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات: 9].
وعُدِّي فعل {أرسلنَا} بـ في دون إلى لإفادة أن الرسول كان منهم ونشأ فيهم لأن القرن لما لم يعين باسم حتى يعرف أن رسولهم منهم أو واردًا إليهم مثل لوط لأهل سدوم، ويونس لأهل نينوَى، وموسى للقبط.
وكان التنبيه على أن رسولهم منهم مقصودًا إتمامًا للمماثلة بين حالهم وحال الذين أرسل إليهم محمد صلى الله عليه وسلم وكلام رسولهم مثل كلام نوح.
و أنْ تفسير لما تضمنه {أرسلنا} من معنى القول.
{وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}.
عُطفت حكاية قول قومه على حكاية قوله ولم يؤت بها مفصولة كما هو شأن حكاية المحاورات كما بيناه غير مرة في حكاية المحاورات بـ قال ونحوها دون عطف.
وقد خولف ذلك في الآية السابقة للوجه الذي بيناه، وخولف أيضًا في سورة الأعراف وفي سورة هود إذ حكي جواب هؤلاء القوم رسولَهم بدون عطف.
ووجه ذلك أن كلام الملأ المحكيَّ هنا غير كلامهم المحكي في السورتين لأن ما هنا كلامهم الموجَّه إلى خطاب قومهم إذ قالوا: {ما هذا إلا بشر مثلُكم يأكل مما تأكلون منه} إلى آخره خشيةً منهم أن تؤثر دعوة رسولهم في عامتهم، فرأوا الاعتناء بأن يحولوا دون تأثر نفوس قومهم بدعوة رسولهم أولى من أن يجاوبوا رسولهم كما تقدم بيانه آنفًا في قصة نوح.
وبهذا يظهر وَجه الإعجاز في المواضع المختلفة التي أورد فيها صاحب الكشاف سؤالًا ولم يكن في جوابه شافيًا وتحيّر شراحه فكانوا على خلاف.
وإنما لم يعطف قول الملأ بفاء التعقيب كما ورد في قصة نوح آنفًا لأن قولهم هذا كان متأخرًا عن وقت مقالة رسولهم التي هي فاتحة دعوته بأن يكونوا أجابوا كلامه بالرد والزجر فلما استمر على دعوتهم وكررها فيهم وجهوا مقالتهم المحكية هنا إلى قومهم ومن أجل هذا عطفت جملة جوابهم ولم تأت على أسلوب الاستعمال في حكاية أقوال المحاورات.
وأيضًا لأن كلام رسولهم لم يُحك بصيغة القول بل حكي بـ أنْ التفسيرية لِمَا تضمنه معنى الإرسال في قوله: {فأرسلنا فيهم رسولًا منهم أن اعبدوا الله} [المؤمنون: 32].
وقد حكى الله في آيات أخرى عن قوم هود وعن قوم صالح أنهم أجابوا دعوة رسولهم بالرد والزجر كقول قوم هود {قالوا يا هود ما جئتنا بِبَيِّنَة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء} [هود: 53، 54]، وقول قوم صالح {قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوًّا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب} [هود: 62].
وقوله: {وقال الملأ من قومه الذين كفروا} {الذين كفروا} نعت ثان ل {الملأ} فيكون على وزان قوله في قصة نوح {فقال الملأ الذين كفروا من قومه} [المؤمنون: 24].
وإنما أخر النعت هنا ليتصل به الصفتان المعطوفتان من قوله: {وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم}.
واللقاء: حضور أحد عند آخر.
والمراد لقاء الله تعالى للحساب كقوله تعالى: {واعلموا أنكم ملاقوه} في سورة البقرة (223) وعند قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لَقِيتُم فِئَةً فاثبتوا} في سورة الأنفال (45).
وإضافة {لقاء} إلى {الآخرة} على معنى في أي اللقاء في الآخرة.
والإتراف: جعلهم أصحاب ترف.
والترف: النعمة الواسعة.
وقد تقدم عند قوله: {وارْجِعُوا إلى ما أترِفْتم فيه} في سورة الأنبياء (13).
وفي هذين الوصفين إيماء إلى أنهما الباعث على تكذيبهم رسولَهم لأن تكذيبهم بلقاء الآخرة ينفي عنهم توقع المؤاخذة بعد الموت، وثروتهم ونعمتهم تغريهم بالكبر والصلف إذ ألِفوا أن يكونوا سادة لا تبعًا، قال تعالى: {وذَرْني والمكذّبين أولي النعمة} [المزمل: 11]، ولذلك لم يتقبلوا ما دعاهم إليه رسولهم من اتقاء عذاب يوم البعث وطلبهم النجاة باتباعهم ما يأمرهم به فقال بعضهم لبعض {ولئن أطَعْتُم بشرًا مثلكم إنكم إذًا لخاسرون أيَعِدُكم أنكم إذا متم وكنتم ترابًا وعظامًا أنكم مُخْرَجون}.
و{ما هذا إلا بشر مثلكم} كناية عن تكذيبه في دعوى الرسالة لتوهمهم أن البشرية تنافي أن يكون صاحبها رسولًا من الله فأتوا بالملزوم وأرادوا لازمه.