فصل: قال الثعلبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ}، يعني: أرسلناه إلى قومه كما أرسلناك إلى قومك.
فإن قيل: إيش الحكمة في تكرار القصص؟ قيل له: لأن في كل قصة كررها ألفاظًا وفوائد ونكتًا ما ليس في الأخرى، ونظمها سوى نظم الأخرى.
وقال الحسن: للقصة ظهر وبطن، فالظهر خبر يخبرهم، والبطن عظة تعظهم؛ ويقال: إنما كررها تأكيدًا للحجة والعظة، كما أنه كرر الدلائل ويكفي دليل واحد لمن يستدل به تفضلًا من الله تعالى ورحمة منه.
فقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ}، {فَقَالَ يا قوم قَوْمٌ اعبدوا الله}؛ يعني: أطيعوا الله عز وجل ووحدوه.
{مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ}، يعني: ليس لكم رب سواه، {أَفَلاَ تَتَّقُونَ} عبادة غير الله عز وجل فتوحدونه؟ يعني: اتقوه ووحدوه.
قوله عز وجل: {فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ}، يعني: الأشراف الذين كفروا {مِن قَوْمِهِ مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ}، يعني: خلقًا آدميًا مثلكم.
{يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ}.
بالرسالة، ويقال: يريد أن يتفضل عليكم، يعني: يريد أن يجعل لنفسه فضلًا عليكم بالرسالة.
{وَلَوْ شَاء الله لاَنزَلَ ملائكة}، أي لو شاء أن يرسل إلينا رسولًا، لأنزل ملائكة.
{مَّا سَمِعْنَا بهذا}، يعني: مما يدعونا إليه نوح من التوحيد.
{فَقَالَ الملؤا الذين إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ}، يعني: الجنون، {فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حتى حِينٍ}؛ يعني: انتظروا به حتى يتبين لكم أمره وصدقه من كذبه؛ ويقال: {حتى حِينٍ}، أي حتى يموت فتنجوا منه. فلما أبوا على نوح، دعا عليهم.
{قَالَ رَبّ انصرنى} يعني: أعني عليهم بالعذاب.
{بِمَا كَذَّبُونِ}، يعني: بتحقيق قولي في العذاب، لأنه أنذر قومه بالعذاب، فكذبوه.
قوله عز وجل: {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا}، أي اعمل السفينة بأَعيننا، يعني: بمنظر منا وبعلمنا.
ثم قال: {وَوَحْيِنَا}، يعني: بوحينا إليك وأمرنا.
{فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا}، يعني: عذابنا، {وَفَارَ التنور}؛ يعني: بنبع الماء من أسفل التنور، {فاسلك فِيهَا}؛ يعني: فأدخل في السفينة {مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثنين}، يعني: من كل حيوان صنفين ولونين ذكرًا وأنثى، {وَأَهْلَكَ}؛ يعني: وأدخل فيها أهلك، {إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول مِنْهُمْ}؛ يعني: إلا من وجب عليه العذاب، وهو ابنه كنعان.
{وَلاَ تخاطبنى في الذين ظَلَمُواْ} يعني: ولا تراجعني بالدعاء في الذين كفرُوا وهو ابنه.
{إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} بالطوفان.
قرأ عاصم في رواية حفص {مِن كُلّ زَوْجَيْنِ} بتنوين اللام، وقرأ الباقون بغير تنوين.
ثم قال عز وجل: {فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الفلك}، يعني: ركِبت في السفينة، {فَقُلِ الحمد للَّهِ}، يعني: الشكر لله {الذى نَجَّانَا مِنَ القوم الظالمين} المشركين.
قوله عز وجل: {وَقُل رَّبّ أَنزِلْنِى}، يعني: إذا نزلت من السفينة إلى البر، فقل: رب أنزلني {مُنزَلًا مُّبَارَكًا}.
قرأ عاصم في رواية أبي بكر {مُنزَلًا} بنصب الميم وكسر الزاي، يعني: موضع النزول؛ وقرأ الباقون {مُنزَلًا} بضم الميم ونصب الزاي، وهو اختيار أبي عبيدة، وهو المصدر من أنزل ينزل، فصار بمعنى أنزلني إنزالًا مباركًا.
{وَأَنتَ خَيْرُ المنزلين} من غيرك؛ وقد قرأ في الشواذ {وَأَنتَ خَيْرُ المنزلين} بنصب الزاي، يعني: أن الله تعالى قال لنوح عليه السلام: قل هذا القول، حتى تكون خير المنزلين.
ثم قال عز وجل: {إِنَّ في ذَلِكَ}، يعني: في إهلاك قوم نوح.
{لاَيَاتٍ}، يعني: لعبرًا لمن بعدهم.
{وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ}، يعني: وقد كنا لمختبرين بالغرق؛ ويقال: بالطاعة والمعصية.
وإن بمعنى قد، كقوله: {قَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال} [إبراهيم: 46]، يعني: وقد كان مكرهم.
قوله عز وجل: {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ}، أي خلقنا من بعدهم {قَرْنٍ مكناهم} وهم قوم هود، {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مّنْهُمْ}؛ يعني: نبيّهم هودًا عليه السلام {أَنِ اعبدوا الله}، يعني: قال لهم هود: احمدوا الله وأطيعوه، {مَا لَكُمْ مّنْ إله غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ}، يعني: اتقوه.
اللفظ لفظ الاستفهام، والمراد به الأمر.
قوله عز وجل: {وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِهِ الذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَاء الآخرة}، يعني: بالبعث بعد الموت، {وأترفناهم}؛ يعني: أنعمنا عليهم، ويقال: وسعنا عليهم حتى أترفوا.
{وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِهِ الذين}، يعني قالوا: ما هذا {إِلاَّ بَشَرٌ}، يعني: آدميًا {مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ}، يعني: كما تأكلون منه، {وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ}؛ يعني: كما تشربون.
{وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا}، يعني: آدميًا {مّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لخاسرون}، أي لمغبونون {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا}، أي صرتم ترابًا {وعظاما أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ}، يعني: محيون. اهـ.

.قال الثعلبي:

{قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون}.
قد حرف تأكيد، وقال المحققون: معنى قد تقريب بالماضي من الحال، فدلَّ على أنّ فلاحهم قد حصل وهم عليه في الحال، وهذا أبلغ في الصفة من تجريد ذكر الفلاح، والفلاح: النجاح والبقاء.
أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن الحسن المفسّر بقراءته على في سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة قال: أخبرنا أبو عمرو المعتزّ بن محمد بن الفضل القاضي قال: حدَّثنا أحمد بن الحسين الفريابي قال: حدَّثنا عبد الرحيم بن حبيب البغدادي عن إسحاق بن تجيح الملطي عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لمّا خلق الله سبحانه جنّة عدن خلق فيها ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ثمَّ قال لها: تكلّمي، قالت: قد أفلح المؤمنون- ثلاثًا- ثمَّ قالت: أنا حرام على كلّ بخيل ومرائي».
وقرأطلحة بن مصرف: قد أُفلح المؤمنون على المجهول، أي أُبقوا في الثواب.
{الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} اختلف المفسّرون في معنى الخشوع، فقال ابن عباس: مخبتون أذلاّء، الحسن وقتادة: خائفون.
مقاتل: متواضعون على الخشوع في القلب، وأن تلين للمرء المسلم كنفك ولا تلتفت.
مجاهد: هو غضّ البصر وخفض الجناح وكان الرجل من العلماء إذا قام إلى الصلاة هاب الرَّحْمن أن يمدّ بصره إلى شيء أو أن يحدّث نفسه بشيء من شأن الدنيا.
عمرو بن دينار: ليس الخشوع الركوع والسجود ولكنّه السكون وحسن الهيئة في الصلاة.
ابن سيرين وغيره: هو أن لا ترفع بصرك عن موضع سجودك.
قالوا: وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يرفعون أبصارهم في الصلاة إلى السماء وينظرون يمينًا ويسارًا حتى نزلت هذه الآية، فجعلوا بعد ذلك وجوههم حيث يسجدون، وما رؤي بعد ذلك أحد منهم ينظر ألاّ إلى الأرض.
ربيع: هو أن لا يلتفت يمينًا ولا شمالًا.
أخبرنا أبو عمرو الفراتي قال: أخبرنا أبو موسى قال: حدَّثنا السراج قال: حدَّثنا محمد بن الصباح قال: أخبرنا إسحاق بن سليمان قال: حدَّثنا إبراهيم الخوزي عن عطاء بن أبي رباح قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انَّ العبد إذا قام إلى الصلاة فإنّه بين عينيّ الرَّحْمن عز وجلّ فإذا التفت قال له الربّ: إلى من تلتفت؟ إلى من هو خير لك منّي؟ ابن آدم أقبل إلى فأنا خيرٌ ممّن تلتفت إليه».
عطاء: هو أن لا تعبث بشيء من جسدك في الصلاة، وأبصر النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا يعبث بلحيته في الصلاة فقال: «لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه».
وأخبرنا محمد بن أحمد بن عقيل القطان قال: أخبرنا صاحب بن أحمد بن ترحم بن سفيان قال: حدَّثنا أبو عبد الرَّحْمن بن نبيت المروزي عبدان قال: حدَّثنا عبد الله بن المبارك عن معمّر أنه سمع الزهري يحدّث عن أبي الاحوص عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإنّ الرحمة تواجهه فلا يحرّكن الحصى».
ويقال: نظر الحسن إلى رجل يعبث بالحصى ويقول: اللهم زوّجني من الحور العين، فقال: بئس الخاطب أنت تخطب وأنت تعبث.
خليد بن دعلج عن قتادة: هو وضع اليمين على الشمال في الصلاة.
بعضهم: هو جمع الهمّة لها وإلاعراض عمّا سواها.
أبو بكر الواسطي: هو الصلاة لله سبحانه على الخلوص من غير عوض.
سمعت ابن الإمام يقول: سمعت ابن مقسم يقول: سمعت أبا الفضل جعفر بن أحمد الصيدلي يقول: سمعت ابن أبي الورد يقول: يحتاج المصلي إلى أربع خلال حتى يكون خاشعًا: إعظام المقام، وإخلاص المقال، واليقين التمام، وجمع الهمّة.
{والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ} قال الحسن: عن المعاصي، ابن عباس: الحلف الكاذب، مقاتل: الشتم والأذى، غيرهم: ما لا يحمل من القول والفعل، وقيل: اللغو الفعل الذي لا فائدة فيه.
{والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ} الواجبة {فَاعِلُونَ} مؤدّون، وهي فصيحة وقد جاءت في كلام العرب قال أُميّة بن أبي الصلت:
المطعمون الطعام في السنة ** الأزمة والفاعلون للزكوات

{والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ} أي من أزواجهم، على بمعنى من {أَوْ مَا} في محل الخفض يعني أو من ما {مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} على إتيان نسائهم وإمائهم.
{فَمَنِ ابتغى وَرَاءَ ذلك} أي التمس وطلب سوى زوجته وملك يمينه {فأولئك هُمُ العادون} من الحلال إلى الحرام، فمن زنى فهو عاد.
{والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ} التي ائتمنوا عليها {وَعَهْدِهِمْ} وعقودهم التي عاقدوا الناس عليها {رَاعُونَ} حافظون وافون.
وقرأ ابن كثير: لأمانتهم على الواحد لقوله: {وعهدهم}. الباقون: بالجمع لقوله: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا} [النساء: 58].
{والذين هُمْ على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} يداومون على فعلها ويراعون أوقاتها، فأمر بالمحافظة عليها كما أمر بالخشوع فيها لذلك كرّر ذكر الصلاة.
{أولئك} أهل هذه الصفة {هُمُ الوارثون} يوم القيامة منازل أهل الجنة من الجنة.
وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما منكم من أحد إلاّ وله منزل في الجنة ومنزل في النار، فإن مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله، فذلك قوله تعالى: {أولئك هُمُ الوارثون}».
وقال مجاهد: لكل واحد منزلان: منزل في الجنة ومنزل في النار، فأمّا المؤمن فيبنى منزله الذي له في الجنة، ويهدم منزله الذي هو في النار، وأما الكافر فيهدم منزله الذي في الجنة، ويبنى منزله الذي في النار.
وقال بعضهم: معنى الوراثة هو أنّه يؤول أمرهم إلى الجنة وينالونها كما يؤول أمر الميراث إلى الوارث.
{الذين يَرِثُونَ الفردوس} أي البستان ذا الكرم، قال مجاهد: هي بالرومية، عكرمة: هي الجنة بلسان الحبش، السدّي: هي البساتين عليها الحيطان بلسان الروم.
وفي الحديث: «إن حارثة بن سراقة قُتل يوم بدر فقالت أُمّه: يا رسول الله إن كان ابني من أهل الجنة لم أبك عليه، وإن كان من أهل النار بالغت في البكاء، فقال: يا أُمّ حارثة إنّها جنان وإنّ ابنك قد أصاب الفردوس الأعلى من الجنة».