فصل: (سورة المؤمنون: الآيات 19- 20).

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



. [سورة المؤمنون: الآيات 19- 20].

{فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)}.
خصّ هذه الأنواع الثلاثة، لأنها أكرم الشجر وأفضلها وأجمعها للمنافع. ووصف النخل والعنب بأنّ ثمرهما جامع بين أمرين: بأنه فاكهة يتفكه بها، وطعام يؤكل رطبا ويابسا، رطبا وعنبا، وتمرا وزبيبا. والزيتون بأنّ دهنه صالح للاستصباح والاصطباغ جميعا. ويجوز أن يكون قوله: {وَمِنْها تَأْكُلُونَ} من قولهم: يأكل فلان من حرفة يحترفها، ومن ضيعة يغتلها، ومن تجارة يتربح بها: يعنون أنها طعمته وجهته التي منها يحصل رزقه، كأنه قال: وهذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعايشكم، منها ترتزقون وتتعيشون {وَشَجَرَةً} عطف على جنات. وقرئت مرفوعة على الابتداء، أى: ومما أنشئ لكم شجرة {طُورِ سَيْناءَ} وطور سينين، لا يخلو إما أن يضاف فيه الطور إلى بقعة اسمها سيناء وسينون، وإمّا أن يكون اسما للجبل مركبا من مضاف ومضاف إليه، كإمرئ القيس، وكبعلبك، فيمن أضاف. فمن كسر سين سيناء فقد منع الصرف للتعريف والعجمة أو التأنيث، لأنها بقعة، وفعلاء لا يكون ألفه للتأنيث كعلباء وحرباء.
ومن فتح فلم يصرف، لأنّ الألف للتأنيث كصحراء. وقيل: هو جبل فلسطين. وقيل: بين مصر وأيلة. ومنه نودي موسى عليه السلام. وقرأ الأعمش: سينا على القصر بِالدُّهْنِ في موضع الحال، أى: تنبت وفيها الدهن. وقرئ: {تنبت} وفيه وجهان، أحدهما: أن أنبت بمعنى نبت. وأنشد لزهير:
رأيت ذوى الحاجات حول بيوتهم ** قطينا بها حتى إذا أنبت البقل

هنالك إن يستخولوا المال يخولوا ** وإن سئلوا يعطوا وإن يسروا يغلوا

وفيهم مقامات حسان وجوههم ** وأندية ينتابها القول والفعل

لزهير بن أبى سلمي يمدح سنان بن أبى حارثة، والشهباء: الفرس يخالط سوادها بياض، شبه بها السنة المجدبة لكثرة بياض أرضها وخلوها عن سواد النبات والأمطار. أو لاختلاط نور الغنى فيها بظلمة الفقر. أجحفت بالناس: أى ذهبت بهم ومحقت عنهم آثار الغنى، والاسناد مجاز عقلى. والجحرة- بتقديم الجيم المفتوحة-: السنة المجدبة وروى: في الحجرة. وأصلها بالتحريك، فسكونها لغة أو ضرورة وهي شدة الشقاء. ويجوز أن تقرأ بالضم بمعنى البيت، أى: ونال الأكل كرام الناس. ووصلهم داخل بيوتهم لبخلهم تلك السنة. ويروى: كرام المال. والمعنى أن كرائم الأموال نالها التأكل والتنقص في تلك السنة لجديها. ورأيت: جواب إذا. وذوى الحاجات: كناية عن الفقراء. حول بيوتهم: أى سنان وقومه. قطينا: أى مقيمين، فهو يطلق على الواحد والمتعدد. وقيل أنه جمع. ويروى قطينا لهم: أى مساكنين لهم عند البيوت، وذلك كناية عن كرمهم، حتى إذا أنبت البقل: أى نبت النبات الرطب وظهر الخصب، فهنالك: أى في ذلك الزمان إن يسألهم أحد أن يخولوه مالا كثيرا يخولوه: أى يولوه عليه. وإن سئلوا مالا قليلا يعطوا السائل. ويروى: إن يستخبلوا المال يخبلوا، بالموحدة، يستعر: أى منهم أحد إبلهم للانتفاع بألبانها وأوبارها زمن الجدب ثم يردها: أعاروه، وإن سألهم الإعطاء من غير رد أعطوه فلا يردون سائلا. وإن يسروا: أى لعبوا الميسر، يغلوا: أى يجعلوا الخطر غاليا كثيرا لعدم خوفهم على الفقراء لأن المال كثير بخلاف زمن الجدب. ويجوز أن يقرأ: وإن يسروا أى أعطوا بلا سؤال، يفلوا بالفاء. أى يتفقدوا الفقراء ويعطوهم، يقال: يسر كوعد: لعب الميسر، ويسر كترب وتعب: لأن ورق ورفق. وروى: يسألوا وييسروا بالمضارع. والمقامات: المجامع من الناس. وروى: وجوهها. وعلى كل فالضمير للمقامات.
والأندية- جمع الندى- بمعنى الكرم، على غير قياس، ينتابها: أى يحرى عليها نوبة بعد نوبة قولهم وفعلهم.
أو يتداولها قول الناس وفعلهم. ويحتمل أنها جمع ناد بمعنى متحدث القوم. أو ندى على فعيل كذلك، ينتابها: أى يجيئها نوبة بعد نوبة القول والفعل، أى: الصالحات.
والثاني: أنّ مفعوله محذوف، أى: تنبت زيتونها وفيه الزيت. وقرئ: {تنبت} بضم التاء وفتح الباء، وحكمه حكم تنبت. وقرأ ابن مسعود: {تخرج الدهن وصبغ الآكلين} وغيره: {تخرج بالدهن} وفي حرف أبىّ: {تثمر بالدهن} وعن بعضهم: {تنبت بالدهان} وقرأ الأعمش: {وصبغا} وقرئ {وصباغ} ونحوهما: دبغ ودباغ. والصبغ: الغمس للائتدام. وقيل: هي أوّل شجرة نبتت بعد الطوفان، ووصفها اللّه تعالى بالبركة في قوله: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ}.

. [سورة المؤمنون: الآيات 21- 22].

{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)}.
قرئ: {تسقيكم} بتاء مفتوحة، أى: تسقيكم الأنعام {وَمِنْها تَأْكُلُونَ} أى تتعلق بها منافع من الركوب والحمل وغير ذلك، كما تتعلق بما لا يؤكل لحمه من الخيل والبغال والحمير. وفيها منفعة زائدة، وهي الأكل الذي هو انتفاع بذواتها، والقصد بالأنعام إلى الإبل لأنها هي المحمول عليها في العادة، وقرنها بالفلك- التي هي السفائن- لأنها سفائن البرّ. قال ذو الرمة:
سفينة برّ تحت خدّى زمامها

يريد صيدحه.

. [سورة المؤمنون: الآيات 23- 25].

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحًا إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)}.
{غَيْرُهُ} بالرفع على المحل، وبالجرّ على اللفظ، والجملة استئناف تجرى مجرى التعليل للأمر بالعبادة {أَفَلا تَتَّقُونَ} أفلا تخافون أن ترفضوا عبادة اللّه الذي هو ربكم وخالقكم ورازقكم، وشكر نعمته التي لا تحصونها واجب عليكم، ثم تذهبوا فتعبدوا غيره مما ليس من استحقاق العبادة في شيء أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ أن يطلب الفضل عليكم ويرأسكم، كقوله تعالى: {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الأرض}. بِهذا إشارة إلى نوح عليه السلام، أو إلى ما كلهم به من الحث على عبادة اللّه، أى: ما سمعنا بمثل هذا الكلام، أو بمثل هذا الذي يدعى وهو بشر أنه رسول اللّه، وما أعجب شأن الضلال لم يرضوا للنبوّة ببشر وقد رضوا للإلهية بحجر: وقولهم {ما سَمِعْنا بِهذا} يدل على أنهم وآباؤهم كانوا في فترة متطاولة. أو تكذبوا في ذلك لانهماكهم في الغى، وتشمرهم لأن يدفعوا الحق بما أمكنهم وبما عنّ لهم، من غير تمييز منهم بين صدق وكذب. ألا تراهم: كيف جننوه وقد علموا أنه أرجح الناس عقلا وأوزنهم قولا. والجنة: الجنون أو الجنّ، أى: به جنّ يخبلونه {حَتَّى حِينٍ} أى احتملوه واصبروا عليه إلى زمان، حتى ينجلي أمره عن عاقبة، فإن أفاق من جنونه وإلا قتلتموه.

. [سورة المؤمنون: الآيات 26- 30].

{قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)}.
في نصرته إهلاكهم، فكأنه قال: أهلكهم بسبب تكذيبهم إياى، أو انصرني بدل ما كذبوني، كما تقول: هذا بذاك، أى بدل ذاك ومكانه. والمعنى: أبدلنى من غمّ تكذيبهم، سلوة النصرة عليهم. أو انصرني بإنجاز ما وعدتهم من العذاب، وهو ما كذبوه فيه حين قال لهم {إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيم}. بِأَعْيُنِنا بحفظنا وكلاءتنا، كأن معه من اللّه حفاظا يكلئونه بعيونهم، لئلا يتعرض له ولا يفسد عليه مفسد عمله. ومنه قولهم: عليه من اللّه عين كالئة. {وَوَحْيِنا} أى نأمرك كيف تصنع ونعلمك. روى أنه أوحى إليه أن يصنعها على مثال جؤجؤ الطائر. روى أنه قيل لنوح عليه السلام: إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت ومن معك في السفينة، فلما نبع الماء من التنور أخبرته امرأته فركب. وقيل: كان تنور آدم عليه السلام، وكان من حجارة، فصار إلى نوح. واختلف في مكانه، فعن الشعبي: في مسجد الكوفة عن يمين الداخل مما يلي باب كندة، وكان نوح عمل السفينة وسط المسجد. وقيل: بالشام بموضع يقال له عين وردة. وقيل بالهند. وعن ابن عباس رضي الله عنه: التنور وجه الأرض. وعن قتادة: أشرف موضع في الأرض، أى أعلاه. وعن على رضي الله عنه: فار التنور: طلع الفجر. وقيل: معناه أن فوران التنور كان عند تنوير الفجر. وقيل: هو مثل، كقولهم: حمى الوطيس. والقول هو الأوّل. يقال: سلك فيه: دخله. وسلك غيره، وأسلكه. قال:
حتّى إذا أسلكوهم في قتائده

{مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ} من كل أمّتى زوجين، وهما أمة الذكر وأمّة الأنثى، كالجمال والنوق، والحصن والرماك اثْنَيْنِ واحدين مزدوجين، كالجمل والناقة، والحصان والرمكة: روى أنه لم يحمل إلا ما يلد ويبيض. وقرئ: {من كل} بالتنوين، أى: من كل أمّة زوجين. واثنين: تأكيد وزيادة بيان.
جيء بعلى مع سبق الضارّ، كما جيء باللام مع سبق النافع. قال اللّه تعالى {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى} {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ} ونحوه قوله تعالى: {لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ} وقول عمر رضي الله عنه: «ليتها كانت كفافا، لا علىّ ولا لي».
فإن قلت: لم نهاه عن الدعاء لهم بالنجاة؟ قلت: لما تضمنته الآية من كونهم ظالمين، وإيجاب الحكمة أن يغرقوا لا محالة، لما عرف من المصلحة في إغراقهم، والمفسدة في استبقائهم، وبعد أن أملى لهم الدهر المتطاول فلم يزيدوا إلا ضلالا، ولزمتهم الحجة البالغة لم يبق إلا أن يجعلوه عبرة للمعتبرين. ولقد بالغ في ذلك حيث أتبع النهى عنه، الأمر بالحمد على هلاكهم والنجاة منهم، كقوله: {فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ}، ثم أمره أن يدعوه بدعاء هو أهم وأنفع له، وهو طلب أن ينزله في السفينة أو في الأرض عند خروجه منها، منزلا يبارك له فيه ويعطيه الزيادة في خير الدارين، وأن يشفع الدعاء بالثناء عليه المطابق لمسألته، وهو قوله: {وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} فإن قلت: هلا قيل: فقولوا، لقوله: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ} لأنه في معنى: فإذا استويتم؟ قلت: لأنه نبيهم وإمامهم، فكان قوله قولهم، مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوّة وإظهار كبرياء الربوبية، وأن رتبة تلك المخاطبة لا يترقى إليها إلا ملك أو نبىّ. وقرئ: {منزلا} بمعنى إنزالا، أو موضع إنزال، كقوله: {ليدخلنهم مدخلا يرضونه} إِنَّ هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بين النافية وبينها في المعنى، وإن الشأن والقصة {كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} أى مصيبين قوم نوح ببلاء عظيم وعقاب شديد أو مختبرين بهذه الآيات عبادنا لننظر من يعتبر ويذكر، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}.