فصل: قال الخطيب الشربيني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاء بِقَدَرٍ} بتقدير يكثر نفعه ويقل ضرره، أو بمقدار ما علمنا من صلاحهم. {فَأَسْكَنَّاهُ} فجعلناه ثابتًا مستقرًا. {فِي الأرض وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ} على إزالته بالإِفساد أو التصعيد أو التعميق بحيث يتعذر استنباطه. {لقادرون} كما كنا قادرين على إنزاله، وفي تنكير {ذَهَابٍ} إيماء إلى كثرة طرقه ومبالغة في الإِيعاد به ولذلك جعل أبلغ من قوله تعالى: {قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ}.
{فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ} بالماء. {جنات مّن نَّخِيلٍ وأعناب لَّكُمْ فِيهَا} في الجنات. {فواكه كَثِيرَةٌ} تتفكهون بها. {وَمِنْهَا} ومن الجنات ثمارها وزروعها. {تَأْكُلُونَ} تغذيًا أو ترزقون وتحصلون معايشكم من قولهم: فلان يأكل من حرفته، ويجوز أن يكون الضميران لل {نَّخِيلٍ} وال {أعناب} أي لكم في ثمراتها أنواع من الفواكه الرطب والعنب والتمر والزبيب والعصير والدبس وغير ذلك وطعام تأكلونه.
{وَشَجَرَةً} عطف على {جنات} وقرئت بالرفع على الابتداء أي: ومما أنشأنا لكم به شجرة. {تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء} جبل موسى عليه الصلاة والسلام بين مصر وأيلة، وقيل بفلسطين وقد يقال له طور سينين ولا يخلو من أن يكون الطور للجبل وسيناء اسم بقعة أضيف إليها، أو المركب منهما علم له كامرئ القيس ومنع صرفه للتعريف والعجمة أو التأنيث على تأويل البقعة لا للألف لأنه فيعال كديماس من السناء بالمد وهو الرفعة، أو بالقصر وهو النور أو ملحق بفعلال كعلباء من السين إذ لا فعلاء بألف التأنيث بخلاف {سَيْنَاء} على قراءة الكوفيين والشامي ويعقوب فإنه فيعال ككيسان أو فعلاء كصحراء لا فعلال إذ ليس في كلامهم، وقرئ بالكسر والقصر. {تَنبُتُ بالدهن} أي تنبت ملتبسًا بالدهن ومستصحبًا له، ويجوز أن تكون الباء صلة معدية ل {تنبتُ} كما في قولك: ذهبت بزيد، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب في رواية {تنبِتُ} وهو إما أن أنبت بمعنى نبت كقول زهير:
رَأَيْتُ ذوي الحَاجَاتِ عِنْدَ بُيُوتِهِم ** قَطِينًا لَهُمْ حَتَّى إذا أَنْبَتَ البَقْلُ

أو على تقدير {تنبتُ} زيتونها ملتسبًا بالدهن، وقرئ على البناء للمفعول وهو كالأول وتثمر بالدهن وتخرج بالدهن وتخرج الدهن وتنبت بالدهان. {وَصِبْغٍ لّلآكِلِيِنَ} معطوف على الدهن جار على إعرابه عطف أحد وصفي الشيء على الآخر أي: تنبت بالشيء الجامع بين كونه دهنيًا يدهن به ويسرج منه وكونه إدامًا يصبغ فيه الخبز أي: يغمس فيه للائتدام، وقرئ {وصباغ} كدباغ في دبغ.
{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً} تعتبرون بحالها وتستدلون بها. {نُّسْقِيكُمْ مّمَّا فِي بُطُونِهَا} من الألبان أو من العلف، فإن اللبن يتكون منه فمن للتبعيض أو للإِبتداء، وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر ويعقوب {نُّسْقِيكُمْ} بفتح النون. {وَلَكُمْ فيِهَا منافع كَثِيرَةٌ} في ظهورها وأصوافها وشعورها. {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} فتنتفعون بأعيانها.
{وَعَلَيْهَا} وعلى الأنعام فإن منها ما يحمل عليه كالإِبل والبقر، وقيل المراد الإِبل لأنها هي المحمول عليها عندهم والمناسب للفلك فإنها سفائن البر قال ذو الرمة:
سَفِينَةُ بَرٍ تَحْتَ خَدّي زِمَامُهَا

فيكون الضمير فيه كالضمير في {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ}. {وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ} في البر والبحر.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ فَقَالَ ياقوم اعبدوا الله} إلى آخر القصص مسوق لبيان كفران الناس ما عدد عليهم من النعم المتلاحقة وما حاق بهم من زوالها. {مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ} استئناف لتعليل الأمر بالعبادة، وقرأ الكسائي غيره بالجر على اللفظ. {أَفَلاَ تَتَّقُونَ} أفلا تخافون أن يزيل عنكم نعمه فيهلككم ويعذبكم برفضكم عبادته إلى عبادة غيره وكفرانكم نعمه التي لا تحصونها.
{فَقَالَ الملؤا} الأشراف. {الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ} لعوامهم. {مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} أن يطلب الفضل عليكم ويسودكم. {وَلَوْ شَاء الله} أن يرسل رسولًا. {لأَنزَلَ ملائكة} رسلًا. {مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا في ءَابَآئِنَا الأَوَّلِينَ} يعنون نوحًا عليه السلام أي ما سمعنا به أنه نبي، أو ما كلمهم به من الحث على عبادة الله سبحانه وتعالى ونفي إله غيره، أو من دعوى النبوة وذلك إما لفرط عنادهم أو لأنهم كانوا في فترة متطاولة.
{إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} أي جنون ولأجله يقول ذلك {فَتَرَبَّصُواْ بِهِ} فاحتملوه وانتظروا. {حتى حِينٍ} لعله يفيق من جنونه.
{قَالَ} بعدما أيس من إيمانهم. {رَبّ انصرني} بإهلاكهم إو بإنجاز ما وعدتهم من العذاب. {بِمَا كَذَّبُونِ} بدل تكذيبهم إياي أو بسببه.
{فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا} بحفظنا نحفظه أن تخطىء فيه أو يفسده عليك مفسد. {وَوَحْيِنَا} وأمرنا وتعليمنا كيف تصنع. {فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا} بالركوب أو نزول العذاب. {وَفَارَ التنور}. روي أنه قيل لنوح إذا فار الماء من التنور اركب أنت ومن معك، فلما نبع الماء منه أخبرته امرأته فركب ومحله في مسجد الكوفة عن يمين الداخل مما يلي باب كندة. وقيل عين وردة من الشام وفيه وجوه أخر ذكرتها في هود. {فاسلك فِيهَا} فادخل فيها يقال سلك فيه وسلك غيره قال تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ في سَقَرَ} {مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثنين} من كل أمتي الذكر والأنثى واحدين مزدوجين، وقرأ حفص {مِن كُلّ} بالتنوين أي من كل نوع زوجين واثنين تأكيد. {وَأَهْلَكَ} وأهل بيتك أو من آمن معك. {إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول مِنْهُمْ} أي القول من الله تعالى بإهلاكه لكفره، وإنما جيء بعلى لأن السابق ضار كما جيء باللام حيث كان نافعًا في قوله تعالى: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى} {وَلاَ تخاطبني فِي الذين ظَلَمُواْ} بالدعاء لهم بالإنجاء. {إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} لا محالة لظلمهم بالإِشراك والمعاصي، ومن هذا شأنه لا يشفع له ولا يشفع فيه كيف وقد أمره بالحمد على النجاة منهم بهلاكهم بقوله: {فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الفلك فَقُلِ الحمد للَّهِ الذى نَجَّانَا مِنَ القوم الظالمين} كقوله تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ والحمد للَّهِ رَبّ العالمين} {وَقُل رَّبّ أَنزِلْنِي} في السفينة أو في الأرض. {مُنزَلًا مُّبَارَكًا} يتسبب لمزيد الخير في الدارين على قراءة أبي بكر، وقرئ {مُنزَلًا} بمعنى إنزالًا أو موضع إنزال. {وَأَنتَ خَيْرُ المنزلين} ثناء مطابق لدعائه أمره بأن يشفعه به مبالغة فيه وتوسلًا به إلى الإِجابة، وإنما أفرده بالأمر والمعلق به أن يستوي هو ومن معه إظهارًا لفضله وإشعارًا بأن في دعائه مندوحة عن دعائهم فإنه يحيط بهم.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} فيما فعل بنوح وقومه. {لاَيَاتٍ} يستدل بها ويعتبر أولو الاستبصار والاعتبار. {وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} لمصيبين قوم نوح ببلاء عظيم، أو ممتحنين عبادنا بهذه الآيات {وَإِنْ} هي المخففة واللام هي الفارقة.
{ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا ءَاخَرِينَ} هم عاد أو ثمود.
{فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مّنْهُمْ} هو هود أو صالح، وإنما جعل القول موضع الإِرسال ليدل على أنه لم يأتهم من مكان غير مكانهم وإنما أوحي إليه وهو بين أظهرهم. {أَنِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مّنْ إله غَيْرُهُ} تفسير لأرسلنا أي قلنا لهم على لسان الرسول اعبدوا الله. {أَفَلاَ تَتَّقُونَ} عذاب الله.
{وَقَالَ الملؤا مِن قَوْمِهِ الذين كَفَرُواْ} لعله ذكر بالواو لأن كلامهم لم يتصل بكلام الرسول صلى الله عليه وسلم بخلاف قول قوم نوح حيث استؤنف به، فعلى تقدير سؤال.
{وَكَذَّبُواْ بِلِقَاء الآخرة} بلقاء ما فيها من الثواب والعقاب، أو بمعادهم إلى الحياة الثانية بالبعث {وأترفناهم} ونعمناهم {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بكثرة الأموال والأولاد. {مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ} في الصِفة والحالة. {يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} تقرير للمماثلة و ما خبرية والعائد إلى الثاني منصوب محذوف أو مجرور حذف مع الجار لدلالة ما قبله عليه.
{وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مّثْلَكُمْ} فيما يأمركم به. {إِنَّكُمْ إِذًا لخاسرون} حيث أذللتم أنفسكم، و{إِذَا} جزاء للشرط وجواب للذين قَاوَلُوهُمْ من قومه.
{أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وعظاما} مجردة عن اللحوم والأعصاب. {أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ} من الأجداث أو من العدم تارة أخرى إلى الوجود، و{أَنَّكُمْ} تكرير للأول أكد به لما طال الفصل بينه وبين خبره، أو أنكم لمخرجون مبتدأ خبره الظرف المقدم، أو فاعل للفعل المقدر جوابًا للشرط والجملة خبر الأول أي: أنكم إخراجكم إذا متم، أو إنكم إذا متم وقع إخراجكم ويجوز أن يكون خبر الأول محذوفًا لدلالة خبر الثاني عليه لا أن يكون الظرف لأن اسمه جثة. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني:

سورة المؤمنون مكية.
وهي مائة وثمان أو تسع عشرة آية، وألف وثمانمائة وأربعون كلمة، وأربعة آلاف وثمانمائة حرف {بسم الله} الذي له الأمر كله {الرحمن} الذي عم إنعامه {الرحيم} الذي خص من أراد بالإيمان عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي يسمع عند وجهه دويّ كدويّ النحل، فأنزل عليه يومًا فمكث ساعة حتى سرّي عنه، فاسقبل القبلة ورفع يديه فقال: اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، اللهم أرضنا وارض عنا، ثم قال: لقد أنزل على عشر آيات من أقامهن دخل الجنة. ثم قرأ: {قد أفلح المؤمنون} حتى ختم العشرة آيات» قال ابن عباس: قد سعد المصدّقون بالتوحيد وبقوا في الجنة، وقيل: الفلاح البقاء والنجاة، روى هذا الحديث الترمذي وغيره وأنكره النسائي وغيره.
تنبيه:
قال الزمخشري قد نقيضة لما هي تثبت المتوقع ولما تنفيه، ولا شك أنّ المؤمنين كانوا متوقعين لمثل هذه البشارة وهي الإخبار بثبات الفلاح لهم، فخوطبوا بما دل على ثبات ما توقعوه. فإن قيل: ما المؤمن؟
أجيب: بأنه في اللغة هو المصدق وأما في الشريعة فقد اختلف فيه على قولين: أحدهما: أنّ كل من نطق بالشهادتين مواطئًا قلبه لسانه، فهو مؤمن والآخر أنه صفة مدح لا يستحقها إلا البر التقي دون الفاسق، ثم إنه تعالى حكم بحصول الفلاح لمن كان مستجمعًا لصفات سبعة:
الصفة الأولى: كونهم مؤمنين.
الصفة الثانية: المذكورة في قوله تعالى: {الذين هم} أي: بضمائرهم وظواهرهم {في صلاتهم خاشعون} قال ابن عباس: مخبتون أذلاء، وقيل: خائفون، وقيل: متواضعون، وعن قتادة: الخشوع إلزام موضع السجود، روى الحاكم- وقال: صحيح على شرط الشيخين: «أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي رافعًا بصره إلى السماء، فلما نزلت هذه الآية رمى ببصره إلى نحو مسجده» أي: موضع سجوده وكان الرجل إذا قام إلى الصلاة هاب الرحمن أنّ يشدّ بصره إلى شيء أو يحدّث بشيء من شأنّ الدنيا، وقيل: هو جمع الهمة لها والإعراض عما سواها، ومن الخشوع أنّ يستعمل الأدب فيتوقى كف الثوب والعبث بجسده وثيابه والتشبيك والالتفات والتمطي والتثاؤب والتغميض وتغطية الفم والسدل والفرقعة والاختصار، وتقليب الحصى؛ روى الترمذي لكن بسند ضعيف: «أنه صلى الله عليه وسلم أبصر رجلًا يعبث بلحيته في الصلاة فقال: لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه»، ونظر الحسن إلى رجل يعبث بالحصى وهو يقول: اللهم زوّجني الحور العين فقال: بئس الخاطب أنت تخطب وأنت تعبث، وعنه أنه قال: كل صلاة لا يحضر فيها القلب فهي إلى العقوبة أسرع، وعن معاذ بن جبل: من عرف من على يمينه وشماله وهو في الصلاة فلا صلاة له، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إنما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها»، وقال صلى الله عليه وسلم «كم من قائم حظه من قيامه التعب والنصب» وقال: «من لم تنهه الصلاة عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدًا».
فينبغي للشخص أنّ يحتاط في صلاته ليوقعها على التمام، فإنّ بعض العلماء اختار عدم الإمامة، فقيل له في ذلك، فقال: أخاف إن تركت الفاتحة أنّ يعاتبني الشافعيّ وإن قرأتها أنّ يعاتبني أبو حنيفة فاخترت عدم الإمامة طلبًا للخلاص من هذا الخلاف. فإن قيل: لم أضيفت الصلاة إليهم؟
أجيب: بأنّ الصلاة وصلة بين الله وبين عباده والمصلي هو المنتفع بها وحده، وهي عدّته وذخيرته فهي صلاته، وأما الله تعالى فهو غنيّ متعالٍ عن الحاجة إليها والانتفاع بها.