فصل: فصل في بلاغة قوله: {والمُوفُونَ} دون وأَوْفَى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل في بلاغة قوله: {والمُوفُونَ} دون وأَوْفَى:

قال الرَّاغب: وإنَّما لم يقل وأوْفَى؛ كما قال: وأَقَامَ؛ لأمرين:
أحدهما: اللفظ، وهو أن الصِّلة، متى طالت، كان الأحسن أن يعطف على الموصول، دون الصلة؛ لئلاَّ يطول ويقبح.
والثاني: أنَّه ذكر في الأول ما هو داخل في حيِّز الشريعة، وغير مستفاد إلا منها والحكمة العقليَّة تقتضي العدالة دون الجور، ولما ذكر وفاء العهد، وهو مما تقضي به العقول المجرَّدة، صارعطفه على الأوَّل أحسن، ولما كان الصَّبر من وجه مبدأ الفضائل، ومن وجه: جامعًا للفضائل؛ إذ لا فضيلة إلا وللصَّبر فيها أثر بليغ- غيَّر إعرابه تنبيهًا على هذا المقصد؛ وهذا كلام حسن. اهـ.

.فائدة فيما تضمنته الآية من أمهات الأحكام:

قال القرطبيُّ: تضمَّنت هذه الآية الكريمة ستَّ عشرة قاعدةً من أُمَّهات الأحكام:
الإيمان بالله وبأسمائه، وصفاته، والحشر، والنشر، والصراط، والحوض، والشَّفاعة، والجنة، والنار، والملائكة، والرُّسل، والكتب المنزلة، وأنَّها حقٌّ من عند الله؛ كما تقدم، والنَّبيين، وإنفاق المال فيما يعنُّ له من الواجب، والمندوب، وإيصال القرابة، وترك قطعهم، وتفقُّد اليتيم، وعدم إهماله المساكين كذلك، ومراعاة ابن السبيل، وهو: المسافر المنقطع به، وقيلك الضعيف، والسُّؤَّال، وفكّ الرقاب، والمحافظة على الصَّلوات، وإيتاء الزَّكاة، والوفاء بالعهود، والصَّبر في الشَّدائد، وكلُّ قاعدةٍ من هذه القواعد تحتاج إلى كتاب. اهـ.

.فوائد وأسئلة وأجوبة في الآية الكريمة لابن عرفة:

قال ابن عرفة: ومن لوازم الإيمان بالملائكة الإيمان بعصمتهم وأنهم أجسام. وصوب المقترح في شرح الإرشاد القول بثبوت الجسمية لهم بالسمع لا بالعقل، كأنه اختار ثبوت الجوهر المفارق سمعا لا عقلا.
قوله تعالى: {واليوم الأخر}.
قوله تعالى: {والنبيين}.
قال ابن عرفة: النبي أعمّ من الرسول، وثبوت الأعم لا يستلزم ثبوت الأخص، فما يلزم من الإيمان بالنبي الإيمان بالرسول فهلا قيل المرسلين؟
والجواب: أن ذلك باعتبار الوصف، لأن وصف النبوة أعم من وصف الرسالة. وترتب الحكم هنا عليهم من حيث ذواتهم لا من حيث أوصافهم، وعرف بالألف واللاّم الدالة على العموم فيدخل في ضمنه الأخص بلا شك فهو كقولك كل حيوان في الدار.
قيل لابن عرفة: أو يجاب بأن الإيمان باليوم الآخر والملاَئِكَة وَالكِتَابِ يستلزم الإيمان بالرسول؟
فقال: لايحتاج إلى هذا والجواب ما قلناه.
فإن قلت: لم جمع الكل وأفرد ابن السبيل؟
قلنا: لِكثرتهم باعتبار الوجود الخارجي وقلة ابن السبيل، وقرئ {لَيْسَ البِرَّ} بالنصب.
قال ابن عرفة: و{أَنْ تُوَلُّوا} اسم ليس إما لكون {أَن} وما بعدها أعرف المعارف أو لأن التولية معلومة والبر مجهول أي ليست التولية برا.
قوله تعالى: {وَفِي الرقاب}.
قوله تعالى: {والموفون بِعَهْدِهِمْ}.
قال ابن عرفة: إن قلت: هلا قيل: بعهودهم فهذا أبلغ من الوفاء، فالعهد الواحد لا يستلزم الوفاء بالعهود بخلاف العكس؟
فالجواب: أنه يستلزم من ناحية أنّ المكلف إذا عاهد هو وغيره ووفى غيره بالعهود وبِهِ فإنه قد حصل الوفاء بالعهد على الإطلاق بخلاف ما إذا عاهد وحده ولم يوف فإنّه لم يقع في الوجود وفاء بالعهد، فتعظم العقوبة والذم.
فإن قلت: ما فائدة قوله: {إِذَا عَاهَدُواْ} ولو أسقط لكان الكلام مستقلاّ صحيحا؟
فالجواب عن ذلك: أنّه أفاد سرعة الوفاء فالعهد به يعقب العهد منهم فهُم بنفس أن يعاهدوا يبادرون إلى الوفاء بالعهد.
قوله تعالى: {والصابرين فِي البأساء والضراء وَحِينَ البأس}.
البَأْسَاءُ هو الفقر، والضَّرّاءُ هو المرض، وحين البأس أي حين القتال وهذا ترق، لأن وقوع الفقر والحاجة في الناس أكثر من وقوع القتال فالصبّر على القتال أشد لغرابته، وقلة وقوعه، ودونه الصبر على المرض ودونه الصبر على الفقر، ولهذا تجد الفقراء الأصحاء أكثر عددا من المرضى، والمرضى أكثر عددا من الفرسان المقاتلين.
فإن قلت: لم قال: {في البأساء} فعداه بفي ولم يقل وفي البأس وكان يقال: والصابرين حين البأساء وحين الضراء؟
فالجواب عن ذلك: أنه لما كان وقوع القتال أقلها وجودا بالنسبة إلى غيره كان الصبر عليه أغرب وأعجب فالمراد بالصابرين من حصل الوصف الكامل من الصبر ولو عدي بفي لتناول من حصل منه مطلق الصبر، وهو الصابر في أول جزء من أجزاء القتال لأنه حينئذ يصدق بأول جزء، فقيل: {وَحِينَ البَأْسِ} ليفيد كمال الصبر من أول القتال إلى آخره وأما الفقر والمرض فكلاهما أكثري الوقوع فلا غرابة فيهما فلم يحتج إلى التنبيه على كمال الصبر فيه.
قال سيدنا علي رضي الله تعالى عنه: الصبر رأس كل عبادة وإذا ذهب رأس الشيء ذهب ذلك الشيء.
وذكر بعضهم أن العهد يكون بالقول وبالفعل كمن يحدث حديثا وهو مترقب لمن يسمعه فهذا كالعهد في عدم نقله عنه والتحدث به.
قوله تعالى: {أولئك الذين صَدَقُواْ}.
كرر لفظ أُوْلئِكَ تنبيها على أن كل وصف من هذا كاف في حصول المدح والثناء لا المجموع.
قيل لابن عرفة: احتجّ بها بعض الأصوليين على أن هذه الأمور واجبة؟
ابن عرفة: الصحيح عند الأصوليين أن الواجب ما ذمّ تاركه فالواجب إنما يستفاد من الذم على الترك لا من المدح على الفعل لأن ذلك قدر مشترك بين الواجب والمندوب.
قيل لابن عرفة: هذه الآية حجة على أن ابن قتيبة في قوله: إن الخبر المستقبل إذا طابق مخبره فإنما يسمّى موافقة ووفاقا ولايسمى صدقا، وقد سماه هنا صدقا فقال: والصدق هنا المراد به المطابقة المطلقة.
فقال ابن عرفة: بل هي حجة له لأنه يجعل {أولئك الذين صَدَقُواْ} راجعا للماضي ويجعل {الموفون بِعَهْدِهِمْ} راجعا للأمر المستقبل فيكون الكلام تأسيسا وعلى قولكم أنتم يكون تأكيدا والتأسيس أولى من التأكيد. اهـ.

.فصل في المشار إليه بالضمير:

قال القفال: قد قيل في نزول هذه الآية أقوال، والذي عندنا أنه أشار إلى السفهاء الذين طعنوا في المسلمين وقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها مع أن اليهود كانوا يستقبلون المغرب، والنصارى كانوا يستقبلون المشرق، فقال الله تعالى: إن صفة البر لا تحصل بمجرد استقبال المشرق والمغرب، بل البر لا يحصل إلا عند مجموع أمور أحدها: الإيمان بالله وأهل الكتاب أخلوا بذلك، أما اليهود فقولهم: بالتجسيم ولقولهم: بأن عزيرًا ابن الله، وأما النصارى، فقولهم: المسيح ابن الله، ولأن اليهود وصفوا الله تعالى بالبخل، على ما حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله: {قَالُواْ إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء} [آل عمران: 181] وثانيها: الإيمان باليوم الآخر واليهود أخلوا بهذا الإيمان حيث قالوا: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى} [البقرة: 111] وقالوا: {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً} [البقرة: 80] والنصارى أنكروا المعاد الجسماني، وكل ذلك تكذيب باليوم الآخر وثالثها: الإيمان بالملائكة، واليهود أخلوا ذلك حيث أظهروا عداوة جبرل عليه السلام ورابعها: الإيمان بكتب الله، واليهود والنصارى قد أخلوا بذلك، لأن مع قيام الدلالة على أن القرآن كتاب الله ردوه ولم يقبلوه قال تعالى: {وَإِن يَأْتُوكُمْ أسارى تفادوهم وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: 85] وخامسها: الإيمان بالنبيين واليهود أخلوا بذلك حيث قتلوا الأنبياء، على ما قال تعالى: {وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق} [البقرة: 61] وحيث طعنوا في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وسادسها: بذل الأموال على وفق أمر الله سبحانه واليهود وأخلوا بذلك لأنهم يلقون الشبهات لطلب المال القليل كما قال: {واشتروا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة: 187] وسابعها: إقامة الصلوات والزكوات واليهود كانوا يمنعون الناس منها وثامنها: الوفاء بالعهد، واليهود نقضوا العهد حيث قال: {أَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40]. اهـ.
ههنا سؤال: وهو أنه تعالى نفى أن يكون التوجه إلى القبلة برًا ثم حكم بأن البر مجموع أمور أحدها الصلاة ولابد فيها من استقبال فيلزم التناقض ولأجل هذا السؤال اختلف المفسرون على أقوال الأول: أن قوله: {لَّيْسَ البر} نفي لكمال البر وليس نفيًا لأصله كأنه قال ليس البر كله هو هذا، البر اسم لمجموع الخصال الحميدة واستقبال القبلة واحد منها، فلا يكون ذلك تمام البر الثاني: أن يكون هذا نفيًا لأصل كونه برًا، لأن استقبالهم للمشرق والمغرب كان خطأ في وقت النفي حين ما نسخ الله تعالى ذلك، بل كان ذلك إثمًا وفجورًا لأنه عمل بمنسوخ قد نهى الله عنه، وما يكون كذلك فإنه لا يعد في البر الثالث: أن استقبال القبلة لا يكون برًا إذا لم يقارنه معرفة الله، وإنما يكون برًا إذا أتي به مع الإيمان، وسائر الشرائط كما أن السجدة لا تكون من أفعال البر، إلا إذا أتي بها مع الإيمان بالله ورسوله، فأما إذا أتي بها بدون هذا الشرط، فإنها لا تكون من أفعال البر، روي أنه لما حولت القبلة كثر الخوض في نسخها وصار كأنه لا يراعي بطاعة الله إلا الإستقبال، فأنزل الله تعالى هذه الآية كأنه تعالى قال ما هذا الخوض الشديد في أمر القبلة مع الإعراض عن كل أركان الدين. اهـ.

.من فوائد الجصاص في الآية:

قال رحمه الله:
بَابُ هَلْ فِي الْمَالِ حَقٌّ وَاجِبٌ سِوَى الزَّكَاةِ:
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} الْآيَةَ.
قِيلَ: فِي قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ} إنَّهُ يُرِيدُ بِهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى حِينَ أَنْكَرَتْ نَسْخَ الْقِبْلَةِ، فَأَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْبِرَّ إنَّمَا هُوَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَاتِّبَاعِ أَمْرِهِ لَا فِي التَّوَجُّهِ إلَى الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ اتِّبَاعُ أَمْرِهِ.
وَإِنَّ طَاعَةَ اللَّهِ الْآنَ فِي التَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ، إذًا لِمَ كَانَ التَّوَجُّهُ إلَى غَيْرِهَا مَنْسُوخًا.
وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} قِيلَ إنَّ فِيهِ حَذْفًا، وَمَعْنَاهُ: إنَّ الْبِرَّ بِرُّ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَقِيلَ: إنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنَّ الْبَارَّ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ، كَقَوْلِ الْخَنْسَاءِ:
تَرْتَعُ مَا رَتَعَتْ حَتَّى إذَا ادَّكَرَتْ ** فَإِنَّمَا هِيَ إقْبَالٌ وَإِدْبَارُ

يَعْنِي مُقْبِلَةً وَمُدْبِرَةً.
وقَوْله تَعَالَى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} يَعْنِي أَنَّ الْبَارَّ مَنْ آتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ.
قِيلَ فِيهِ: إنَّهُ يَعْنِي حُبَّ الْمَالِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَقِيلَ: إنَّهُ يَعْنِي حُبَّ الْإِيتَاءِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مُتَسَخِّطًا عِنْدَ الْإِعْطَاءِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ عَلَى حُبِّ اللَّهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ جَمِيعَ هَذِهِ الْوُجُوهِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ حُبَّ الْمَالَ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمَلُ الْغِنَى، وَلَا تُمْهِلُ حَتَّى إذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ قُلْتَ: لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ».
وَحَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ الْجُرْجَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} قَالَ: أَنْ تُؤْتِيَهُ وَأَنْتَ صَحِيحٌ تَأْمَلُ الْعَيْشَ وَتَخْشَى الْفَقْر.
وقَوْله تَعَالَى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} يَحْتَمِلُ بِهِ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الصَّدَقَةَ الْوَاجِبَةَ وَأَنْ يُرِيدَ بِهِ التَّطَوُّعَ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا الْوَاجِبَةُ، وَإِنَّمَا فِيهَا حَثٌّ عَلَى الصَّدَقَةِ، وَوَعْدٌ بِالثَّوَابِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهَا أَنَّهَا مِنْ الْبِرِّ، وَهَذَا لَفْظٌ يَنْطَوِي عَلَى الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ، إلَّا أَنَّ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ، وَنَسَقِ التِّلَاوَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الزَّكَاةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} فَلَمَّا عَطَفَ الزَّكَاةَ عَلَيْهَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الزَّكَاةَ بِالصَّدَقَةِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَهَا.
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: أَرَادَ بِهِ حُقُوقًا وَاجِبَةً فِي الْمَالِ سِوَى الزَّكَاةِ نَحْوَ وُجُوبِ صِلَةِ الرَّحِمِ إذَا وَجَدَهُ ذَا ضُرٍّ شَدِيدٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ مَنْ قَدْ أَجْهَدَهُ الْجُوعُ حَتَّى يُخَافَ عَلَيْهِ التَّلَفُ فَيَلْزَمَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا يَسُدُّ جَوْعَتَهُ.
وَقَدْ رَوَى شَرِيكٌ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ»، وَتَلَا قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الْآيَةَ.
وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ الْإِبِلَ فَقَالَ: إنَّ فِيهَا حَقًّا فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إطْرَاقُ فَحْلِهَا وَإِعَارَةُ ذَلُولِهَا وَمِنْحَةُ سَمِينِهَا.
فَذَكَرَ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ فِي الْمَالِ حَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ، وَبَيَّنَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ تَأْوِيلُ قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} الْآيَةَ.
وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ مَا يَلْزَمُ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى ذَوِي الْمَحَارِمِ الْفُقَرَاءِ، وَيَحْكُمُ بِهِ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ لِوَالِدَيْهِ وَذَوِي مَحَارِمِهِ إذَا كَانُوا فُقَرَاءَ عَاجِزِينَ عَنْ الْكَسْبِ.
وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ طَعَامِ الْجَائِعِ الْمُضْطَرِّ.
وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ حَقًّا مَنْدُوبًا إلَيْهِ لَا وَاجِبًا؛ إذْ لَيْسَ قوله: «فِي الْمَالِ حَقٌّ» يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، إذْ مِنْ الْحُقُوقِ مَا هُوَ نَدْبٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ فَرْضٌ.
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَمَّادِ بْنِ سُفْيَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ الضَّبِّيِّ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَسَخَتْ الزَّكَاةُ كُلَّ صَدَقَةٍ.
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ التُّسْتَرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُسَيِّبُ بْنُ شَرِيكٍ، عَنْ عُبَيْدٍ الْمُكْتِبِ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: نَسَخَتْ الزَّكَاةُ كُلَّ صَدَقَةٍ.
فَإِنْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَائِرُ الصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَةِ مَنْسُوخَةٌ بِالزَّكَاةِ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجَهَالَةِ رَاوِيهِ فَإِنَّ حَدِيثَ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَسَنُ السَّنَدِ، وَهُوَ يُوجِبُ أَيْضًا إثْبَاتَ نَسْخِ الصَّدَقَاتِ الَّتِي كَانَتْ وَاجِبَةً بِالزَّكَاةِ، وَذَلِكَ لَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ، فَيُعْلَمُ بِذَلِكَ أَنَّ مَا قَالَهُ عَلِيٌّ هُوَ بِتَوْقِيفٍ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إيَّاهُ عَلَيْهِ.
وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَنْسُوخُ مِنْ الصَّدَقَاتِ صَدَقَاتٍ قَدْ كَانَتْ وَاجِبَةً ابْتِدَاءً بِأَسْبَابٍ مِنْ قِبَلِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ تَقْتَضِي لُزُومَ إخْرَاجِهَا ثُمَّ نُسِخَتْ بِالزَّكَاةِ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} وَنَحْوَ مَا رُوِيَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} أَنَّهُ مَنْسُوخٌ عِنْدَ بَعْضِهِمْ بِالْعُشْرِ وَنِصْفِ الْعُشْرِ، فَيَكُونُ الْمَنْسُوخُ بِالزَّكَاةِ مِثْلَ هَذِهِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ فِي الْمَالِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةِ.
وَأَمَّا مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحُقُوقِ الَّتِي تَلْزَمُ مِنْ نَحْوِ الْإِنْفَاقِ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ التَّكَسُّبِ، وَمَا يَلْزَمُ مِنْ إطْعَامِ الْمُضْطَرِّ، فَإِنَّ هَذِهِ فُرُوضٌ لَازِمَةٌ ثَابِتَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ بِالزَّكَاةِ.
وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ وَاجِبَةٌ عِنْدَ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ، وَلَمْ تُنْسَخْ بِالزَّكَاةِ مَعَ أَنَّ وُجُوبَهَا ابْتِدَاءً مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِسَبَبٍ مِنْ قِبَلِ الْعَبْدِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ لَمْ تَنْسَخْ صَدَقَةَ الْفِطْرِ.
وَقَدْ رَوَى الْوَاقِدِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الزَّكَاةُ، فَلَمَّا فُرِضَتْ الزَّكَاةُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ، وَلَمْ يَنْهَهُمْ، وَكَانُوا يُخْرِجُونَهَا».
فَهَذَا الْخَبَرُ لَوْ صَحَّ لَمْ يَدُلَّ عَلَى نَسْخِهَا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ لَا يَنْفِي بَقَاءَ وُجُوبِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَعَلَى أَنَّ الْأَوْلَى أَنَّ فَرْضَ الزَّكَاةِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى صَدَقَةِ الْفِطْرِ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ السَّلَف فِي أَنَّ حم السَّجْدَةَ مَكِّيَّةٌ، وَأَنَّهَا مِنْ أَوَائِلِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ، وَفِيهَا وَعِيدُ تَارِكِ الزَّكَاةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} وَالْأَمْرُ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ إنَّمَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الزَّكَاةِ مُتَقَدِّم لِصَدَقَةِ الْفِطْرِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَمُجَاهِدٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ وَأَنَّهُ حَقُّ وَاجِبٌ عِنْدَ الْقَوْمِ غَيْرُ الزَّكَاةِ.
وَأَمَّا الْحُقُوقُ الَّتِي تَجِبُ بِأَسْبَابٍ مِنْ قِبَلِ الْعَبْدِ نَحْوَ الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ، فَلَا خِلَافَ أَنَّ الزَّكَاة لَمْ تَنْسَخْهَا.
وَالْيَتَامَى الْمُرَادُونَ بِالْآيَةِ هُمْ الصِّغَارُ الْفُقَرَاءُ الَّذِينَ مَاتَ آبَاؤُهُمْ.
وَالْمَسَاكِينُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَابْنُ السَّبِيلِ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ الْمُسَافِرُ، وَعَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ الضَّيْفُ.
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَشْبَهُ لِأَنَّهُ إنَّمَا سُمِّيَ ابْنَ السَّبِيلِ لِأَنَّهُ عَلَى الطَّرِيقِ، كَمَا قِيلَ لِلطَّيْرِ الْإِوَزِّ: ابْنُ مَاءٍ لِمُلَازَمَتِهِ لَهُ.
قَالَ ذُو الرُّمَّةِ: وَرَدْتُ اعْتِسَافًا وَالثُّرَيَّا كَأَنَّهَا عَلَى قِمَّةِ الرَّأْسِ ابْنُ مَاءٍ مُحَلِّقُ وَالسَّائِلِينَ يَعْنِي بِهِ الطَّالِبِينَ لِلصَّدَقَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ أَبِي يَحْيَى عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِلسَّائِلِ حَقٌّ، وَإِنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ».
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ شَرِيكٍ: حَدَّثَنَا أَبُو الْجُمَاهِرِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَعْطُوا السَّائِلَ وَإِنْ أَتَى عَلَى فَرَسٍ» وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. اهـ.