فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقرأ أبو جعفر وشيبة بالكسر فيهما من غير تنوين، وروي هذا عن عيسى وهو لغة في تميم وأسد. وعنه أيضًا عن خالد بن الياس أنهما قرآ بكسرهما والتنوين. وقرأ خارجة بن مصعب عن أبي عمرو والأعرج وعيسى أيضًا بالإسكان فيهما، فمنهم من يبقى التاء ويقف عليها كما في مسلمات، ومنهم من يبدلها هاء تشبيهًا بتاء التأنيث ويقف على الهاء، وقيل: الوقف على الهاء لاتباع الرسم، والذي يفهم من مجمع البيان أن {هَيْهَاتَ} بالفتح تكتب بالهاء كأرطاة وأصلها هيهية كزلزلة قلبت الياء الثانية ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها وكذا هيهات بالرفع والتنوين، وهي على هذا اسم معرب مفرد، ومتى اعتبرت جمعًا كتبت بالتاء وذلك إذا كانت مكسورة نونة أو غير منونة ونقل ذلك عن ابن جني وقرأ {أيهاه} بإبدال الهمزة من الهاء الأولى والوقف بالسكون على الهاء، والذي أميل إليه أن جميع هذه القراءات لغات والمعنى واحد، وفي هذه الكلمة ما يزيد على أربعين لغة وقد ذكر ذلك في التكميل لشرح التسهيل وغيره.
{إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا} أصله إن الحياة إلا حياتنا الدنيا ثم وضع الضمير موضع الحياة لأن الخبر يدل عليها ويبينها فالضمير عائد على متأخر وعوده كذلك جائز في صور، منها إذا فسر بالخبر كما هنا كذا قالوا.
واعترض بأن الخبر موصوف فتلاحظ الصفة في ضميره كما هو المشهور في الضمير الراجع إلى موصوف وحينئذٍ يصير التقدير إن حياتنا الدنيا إلا حياتنا الدنيا.
وأجيب بأن الضمير قد يعود إلى الموصوف بدون صفته، وهذا في الآخرة يعود إلى القول بأن الضمير عائد على ما يفهم من جنس الحياة ليفيد الحمل ما قصدوه من نفي البعث فكأنهم قالوا: لا حياة إلا حياتنا الدنيا ومن ذلك يعلم خطأ من قال: إنه كشعري شعري، ومن هذا القبيل على رأي قولهم: هي العرب تقول ما شاءت، وقوله:
هي النفس ما حملتها تتحمل ** وللدهر أيام تجوز وتعدل

وفي الكشف ليس المعنى النفس النفس لأنه لا يصلح الثاني حينئذٍ تفسيرًا والجملة بعدها بيانًا بل الضمير راجع إلى معهود ذهني أشير إليه ثم أخبر بما بعده كما في هذا أخوك انتهى فتأمل ولا تغفل.
وقوله تعالى: {نَمُوتُ وَنَحْيَا} جملة مفسرة لما ادعوه من أن الحياة هي الحياة الدنيا وأرادوا بذلك يموت بعضنا ويولد بعض وهكذا، وليس المراد بالحياة حياة أخرى بعد الموت إذ لا تصلح الجملة حينئذٍ للتفسير ولا يذم قائلها وناقضت قولهم: {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} وقيل: أرادوا بالموت العدم السابق على الوجود أو أرادوا بالحياة بقاء أولادهم فإن بقاء الأولاد في حكم حياة الآباء ولا يخفى بعده، ومثله على ما قيل وأنا لا أراه كذلك أن القوم كانوا قائلين بالتناسخ فحياتهم بتعلق النفس التي فارقت أبدانهم بأبدان أخر عنصرية تنقلت في الأطوار حتى استعدت لأن تتعلق بها تلك النفس المفارقة فزيد مثلًا إذا مات تتعلق نفسه ببدن آخر قد استعد في الرحم للتعلق ثم يولد فإذا مات أيضًا تتعلق نفسه ببدن آخر كذلك وهكذا إلى ما لا يتناهى، وهذا مذهب لبعض التناسخية وهم مليون ونحليون، ويمكن أن يقال: إن هذا على حد قوله تعالى لعيسى عليه السلام: {إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} [آل عمران: 55] على قول فإن العطف فيه بالواو وهي لا تقتضي الترتيب فيجوز أن تكون الحياة التي عنوها الحياة التي قبل الموت ويحتمل أنهم قالوا نحيا ونموت إلا أنه لما حكى عنهم قيل: {نَمُوتُ وَنَحْيَا} ليكون أوفق بقوله تعالى: {إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا} ثم المراد بقولهم {وَمَا نَحْنُ} إلخ استمرار النفي وتأكيده.
{إِنْ هُوَ} أي ما هو {إِلاَّ رَجُلٌ افترى على الله كَذِبًا} فيما يدعيه من إرساله تعالى إياه وفيما يعدنا من أن الله تعالى يبعثنا {وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} بمصدقين فيما يقوله، والمراد أيضًا استمرار النفي وتأكيده.
{قَالَ} أي رسولهم عند يأسه من إيمانهم بعدما سلك في دعوتهم كل مسلم متضرعًا إلى الله عز وجل {رَبّ انصرنى} عليهم وانتقم لي منهم {بِمَا كَذَّبُونِ} أي بسبب تكذيبهم إياي وإصرارهم عليه أو بدل تكذيبهم، ويجوز أن تكون الباء آلية وما موصولة كما مر في قصة نوح عليه السلام {قَالَ} تعالى إجابة لدعائه وعدة بما طلب.
{عَمَّا قَلِيلٍ} أي عن زمان قليل فما صلة بين الجار والمجرور جيء بها لتأكيد معنى القلة و{قَلِيلٌ} صفة لزمان حذف واستغنى به عنه ومجيئه كذلك كثير، وجوز أن تكون {مَا} نكرة تامة و{قَلِيلٌ} بدلًا منها، وأن تكون نكرة موصوفة بقليل، و{عَنْ} بمعنى بعد هنا وهي متعلق بـ قوله تعالى: {لَّيُصْبِحُنَّ نادمين} وتعلقها بكل من الفعل والوصف محتمل، وجاز ذلك مع توسط لام القسم لأن الجار كالظرف يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره.
وقال أبو حيان: جمهور أصحابنا على أن لام القسم لا يتقدمها معمول ما بعدها سواء كان ظرفًا أم جارًا ومجرورًا أو غيرهما، وعليه يكون ذلك متعلقًا بمحذوف يدل عليه ما قبله والتقدير عما قليل تنصر أو ما بعده أي يصبحون عما قليل ليصبحن الخ، ومذهب الفراء وأبي عبيدة أنه يجوز تقديم معمول ما في حيز هذه اللام عليها مطلقًا، و{يُصْبِحَ} بمعنى يصير أي بالله تعالى ليصيرن نادمين على ما فعلوا من التكذيب بعد زمان قليل وذلك وقت نزول العذاب في الدنيا ومعاينتهم له، وقيل: بعد الموت، وفي اللوامح عن بعضهم {لتصبحن} بتاء على المخاطبة فلو ذهب ذاهب إلى أن القول من الرسول إلى الكفار بعدما أجيب دعاؤه لكان جائزًا.
{فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة} أي صيحة جبريل عليه السلام صاح عليه السلام بهم فدمرهم، وهذا على القول بأن القرن قوم صالح عليه السلام ظاهر، ومن قال: إنهم قوم هود عليه السلام أشكل ظاهر هذا عليه بناءًا على أن المصرح به في غير هذه السورة أنهم أهلكوا بريح عاتية، وأجاب بأن جبريل عليه السلام صاح بهم من الريح كما روى في بعض الأحاديث، وفي ذكر كل على حدة إشارة إلى أن كلا لو انفرد لتدميرهم لكفى، ويجوز أن يراد بالصيحة العقوبة الهائلة والعذاب المصطلم كما في قوله:
صاح الزمان بآل برمك صيحة ** خروا لشدتها على الأذقان

{بالحق} متعلق بـ الأخذ أي بالأمر الثابت الذي لا مدفع له كما في قوله تعالى: {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ} [ق: 19] أو بالعدل من الله عز وجل من قولك: فلان يقضي بالحق إذا كان عادلًا في قضاياه أو بالوعد الصدق الذي وعده الرسول في ضمن قوله تعالى: {عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نادمين} [المؤمنون: 40] {فجعلناهم غُثَاء} أي كغثاء السيل وهو ما يحمله من الورق والعيدان البالية ويجمع على أغثاء شذوذًا وقد تشدد ثاؤه كما في قول امرئ القيس:
كأن ذرى رأس المجيمر غدوة ** من السيل والغثاء فلكة مغزل

{فَبُعْدًا لّلْقَوْمِ الظالمين} يحتمل الاخبار والدعاء، والبعد ضد القرب والهلاك وفعلهما ككرم وفرح والمتعارف الأول في الأول والثاني في الثاني وهو منصوب بمقدر أي بعدوا بعدًا من رحمة الله تعالى أو من كل خير أو من النجاة أو هلكوا هلاكًا، ويجب حذف ناصب هذا المصدر عند سيبويه فيما إذا كان دعائيًا كما صرح به في الدر المصون، واللام لبيان من دعى عليه أو أخبر ببعده فهي متعلقة بمحذوف لا ببعدًا، ووضع الظاهر موضع الضمير إيذانًا بأن إبعادهم لظلمهم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وجملة {هيهات} بيان لجملة {يَعِدُكم} فلذلك فصلت ولم تعطف.
و{هيهات} كلمة مبنية على فتح الآخر وعلى كسره أيضًا.
وقرأها الجمهور بالفتح، وقرأها أبو جعفر بالكسر، وتدل على البعد.
وأكثر ما تستعمل مكررة مرتين كما في هذه الآية أو ثلاثًا كما جاء في شعر لحُميد الأرقط وجرير يأتيان.
واختلف فيها أهي فعل أم اسم؛ فجمهور النحاة ذهبوا إلى أن هيهات اسم فعل للماضي من البُعد، فمعنى هيهات كذا: بعُد.
فيكون ما يلي هيهات فاعلًا.
وقيل هي اسم للبُعد، أي فهي مصدر جامد وهو الذي اختاره الزجاج في تفسيره.
قال الراغب: وقال البعض: غلط الزجاج في تفسيره واستهواه اللام في قوله تعالى: {هيهات هيهات لما توعدون}.
وقيل: هيهات ظرف غير متصرف، وهو قول المبرد.
ونسبه في لسان العرب إلى أبي على الفارسي.
قال: قال ابن جني: كان أبو على يقول في هيهات: أنا أفتي مرة بكونها اسمًا سمي به الفعل مثل صَهْ ومَهْ، وأُفتي مرة بكونها ظرفًا على قدر ما يحضرني في الحال.
وفيها لغات كثيرة وأفصحها أنها بهاءين وتاء مفتوحة فتحة بناء، وأن تاءها تثبت في الوقف وقيل يوقف عليها هاء، وأنها لا تنون تنوين تنكير.
وقد ورد ما بعد هيهات مجرورًا باللام كما في هذه الآية.
وورد مرفوعًا كما في قول جرير:
فهيهاتَ هيهاتَ العقيقُ وأهلُهُ ** وهيهاتَ خِلّ بالعقيق نحاوله

وورد مجرورًا بـ مِن في قول حميد الأرقط:
هيهاتتِ من مُصبَحها هيهاتِ ** ههياتتِ حِجْرٌ من صُنَيْبِعَاتِ

فالذي يتضح في استعمال هيهات أن الأصل فيما بعدها أن يكون مرفوعًا على تأويل هيهات بمعنى فعل ماض من البُعد كما في بيت جرير، وأن الأفصح أن يكون ما بعدها مجرورًا باللام فيكون على الاستغناء عن فاعل اسم الفعل للعلم به مما يسبق هيهات من الكلام لأنها لا تقع غالبًا إلا بعد كلام، وتجعل اللام للتبيين، أي إيضاح المراد من الفاعل، فيحصل بذلك إجمال ثم تفصيل يفيد تقوية الخبر. وهذه اللام ترجع إلى لام التعليل.
وإذا ورد ما بعدها مجرورًا بـ مِن ف مِن بمعنى عن أي بَعُد عنه أو بُعدًا عنه.
على أنه يجوز أن تؤوّل هيهات مرة بالفعل وهو الغالب ومرة بالمصدر فتكون اسم مصدر مبنيًا جامدًا غير مشتق.
ويكون الإخبار بها كالإخبار بالمصدر، وهو الوجه الذي سلكه الزجاج في تفسير هذه الآية ويشير كلام الزمخشري إلى اختياره.
وجاء هنا فعل {توعدون} من أوعد وجاء قبله فعل {أيَعِدكم} وهو من وَعَدَ مع أن الموعود به شيء واحد.
قال الشيخ ابن عرفة: لأن الأول: راجع إليهم في حال وجودهم فجعل وعدًا، والثاني راجع إلى حالتهم بعد الموت والانعدام فناسب التعبير عنه بالوعيد. اهـ.
وأقول: أحسن من هذا أنه عبَّر مرة بالوعد ومرة بالوعيد على وجه الاحتباك، فإن إعلامهم بالبعث مشتمل على وعد بالخير إن صدّقوا وعلى وعيد إن كذّبوا، فذكر الفعلان على التوزيع إيجازًا.
وقوله: {إن هي إلا حياتنا الدنيا} يَجوز أن يكون بيانًا للاستبعاد الذي في قوله: {هيهات لما توعدون} واستدلالًا وتعليلًا له، ولكلا الوجهين كانت الجملة مفصولة عن التي قبلها.
وضمير {هي} عائد إلى ما لم يسبق في الكلام بل عائد على مذكور بعده قصدًا للإبهام ثم التفصيل ليتمكن المعنى في ذهن السامع.
وهذا من مواضع عود الضمير على ما بعده إذا كان ما بعده بيانًا له، ولذلك يجعل الاسم الذي بعد الضمير عطف بيان.
ومنه قول الشاعر أنشده في الكشاف المصراع الأول وأثبته الطيبي كاملًا:
هي النفس ما حملتها تتحمل ** وللدهر أيام تجور وتعدل

وقول أبي العلاء المعري:
هو الهجر حتى ما يُلم خيال ** وبعضُ صدود الزائرين وصال

ومبيّن الضمير هنا قوله: {إلا حياتنا} فيكون الاسم الذي بعد إلا عطف بيان من الضمير.
والتقدير: إن حياتنا إلا حياتنا الدنيا.
ووصفها بالدنيا وصف زائد على البيان فلا يقدر مثله في المبيَّن.