فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

قوله: {ثَمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى}.
فيه قولان:
أحدهما: متواترين يتبع بعضهم بعضًا، قاله ابن عباس، ومجاهد.
الثاني: منقطعين بين كل اثنين دهر طويل وهذا تأويل من قرأ بالتنوين.
وفي اشتقاق تترى ثلاثة أقاويل.
أحدها: أنه مشتق من وتر القوس لاتصاله بمكانه منه، قاله ابن عيسى. وهو اشتقاقه على القول الأول.
الثاني: أنه مشتق من الوتر وهو الفرد لأن كل واحد بعد صاحبه فرد، قاله الزجاج، وهو اشتقاقه على التأويل الثاني.
الثالث: أنه مشتق من التواتر، قاله ابن قتيبة ويحتمل اشتقاقه التأويلين معًا. اهـ.

.قال ابن عطية:

و{تترا} مصدر بمنزلة فعلى مثل الدعوى والعدوى ونحوها، وليس تترى بفعل وإنما هو مصدر من تواتر الشيء، وقرأ الجمهور: {تترا} كما تقدم ووقفهم بالألف، وحمزة والكسائي يميلانها، قال أبو حاتم هي ألف تأنيث، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو تترًا بالتنوين ووقفهما بالألف وهي ألف إلحاق قال ابن سيده يقال جاءو تَتْرًا وتِتْرًا أي متواترين التاء مبدلة من الواو على غير قياس لأن قياس إبدال الواو تاء إنما هو في افتعل وذلك نحو اترز واتجه، وقوله: {أتبعنا بعضهم بعضًا} أي في الإهلاك، وقوله: {وجعلناهم احاديث} يريد أحاديث مثل، وقلَّما يستعمل الجعل حديثًا إلا في الشر. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

{ثم أرسلنا رسلنا تترى}.
قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر: تترىً كلَّما منونة والوقف بالألف.
وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي: بلا تنوين، والوقف عند نافع وابن عامر بألف.
وروى هبيرة، وحفص عن عاصم، أنه يقف بالياء؛ قال أبو علي: يعني بقوله: يقف بالياء، أي: بألِفٍ مُمالة.
قال الفراء: أكثر العرب على ترك التنوين، ومنهم من نوَّن، قال ابن قتيبة: والمعنى: نُتَابع بفترة بين كل رسولين، وهو من التَّواتر، والأصل: وَتْرَى، فقُلبت الواو تاءً كما قلبوها في التَّقوى والتخمة.
وحكى الزجاج عن الأصمعي أنه قال: معنى واتَرْتُ الخَبرَ: أتْبَعْتُ بعضه بعضًا، وبين الخبرين هُنيَّة وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: ومما تضعه العامة غير موضعه قولهم: تواترتْ كتُبي إِليك، يعنون: اتصلتْ من غير انقطاع، فيضعون التواتر في موضع الاتصال، وذلك غلط، إِنما التواتر مجيء الشيء ثم انقطاعه ثم مجيئه، وهو التفاعل من الوِتر، وهو الفرد، يقال: واترتُ الخبر، أَتْبعتُ بعضه بعضًا، وبين الخبرين هُنَيهة، قال الله تعالى: {ثم أرسلنا رُسُلنا تترى} أصلها وَتْرى من المواترة، فأبدلت التاء من الواو، ومعناه: منقطعة متفاوتة، لأن بين كل نبيَّين دهرًا طويلًا.
وقال أبو هريرة: لا بأس بقضاء رمضان تترى، أي: منقطعًا.
فإذا قيل: واتر فلان كتبه، فالمعنى: تابعها، وبين كل كتابين فترة.
قوله تعالى: {فأتْبَعْنَا بعضَهم بعضًا} أي: أهلكنا الأمم بعضهم في إِثر بعض {وجعلناهم أحاديث} قال أبو عبيدة: أي: يُتمثَّل بهم في الشرِّ؛ ولا يقال في الخير: جعلتُه حديثًا. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ}.
أي من بعد هلاك هؤلاء.
{قُرُونًا} أي أممًا.
{آخَرِينَ} قال ابن عباس: يريد بني إسرائيل؛ وفي الكلام حذف: فكذبوا أنبياءهم فأهلكناهم.
{مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا} من صلة؛ أي ما تسبق أمة الوقت المؤقت لها ولا تتأخره؛ مثل قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34].
ومعنى {تَتْرَى} تتواتر، ويتبع بعضهم بعضًا ترغيبًا وترهيبًا.
قال الأصمعي: واترتُ كتبي عليه أتبعت بعضها بعضًا؛ إلا أن بين كل واحد منها وبين الآخر مهلة.
وقال غيره: المواترة التتابع بغير مهلة.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو تترًى بالتنوين على أنه مصدر أدخل فيه التنوين على فتح الراء؛ كقولك: حَمْدًا وشكرًا؛ فالوقف على هذا على الألف المعوّضة من التنوين.
ويجوز أن يكون ملحقًا بجعفر، فيكون مثل أرْطًى وعَلْقًى؛ كما قال:
يَسْتَنّ في عَلْقًى وفي مُكُورِ

فإذا وقف على هذا الوجه جازت الإمالة، على أن ينوِي الوقف على الألف الملحقة.
وقرأ ورْشٌ بين اللفظتين؛ مثل سكرى وغضبى، وهو اسم جمع؛ مثل شَتّى وأسرى.
وأصله وَتْرى من المواترة والتواتر، فقلبت الواو تاء؛ مثل التقوى والتّكلان وتُجاه ونحوها.
وقيل: هو من الوتر وهو الفرد؛ فالمعنى أرسلناهم فَرْدًا فردًا.
النحاس: وعلى هذا يجوز تِتْرًا بكسر التاء الأولى، وموضعها نصب على المصدر؛ لأن معنى ثم أرسلنا واترنا. ويجوز أن يكون في موضع الحال أي متواترين.
{فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا} أي بالهلاك.
{وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} جمع أحدوثة وهي ما يتحدّث به؛ كأعاجيب جمع أعجوبة، وهي ما يتعجّب منه.
قال الأخفش: إنما يقال هذا في الشر جعلناهم أحاديث ولا يقال في الخير؛ كما يقال: صار فلان حديثًا أي عِبرة ومثلًا؛ كما قال في آية أخرى: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ: 19].
قلت: وقد يقال فلانٌ حديثٌ حَسَن، إذا كان مقيَّدا بذكر ذلك؛ ومنه قول ابن دُريد:
وإنما المرء حديث بعده ** فكن حديثًا حسنًا لمن وَعَى

. اهـ.

.قال أبو السعود:

{ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ}.
أي بعد هلاكِهم {قُرُونًا ءاخَرِينَ} هم قومُ صالحٍ ولوطٍ وشُعيبٍ عليهم السَّلامُ وغيرُهم.
{مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا} أي ما تتقدَّمُ أمةٌ من الأُممِ المهلَكةِ الوقت الذي عُيِّن لهلاكِهم أي ما تهلكُ أمةٌ قبل مجيءِ أجلِها {وَمَا يَسْتَئْخِرُونَ} ذلك الأجلَ بساعةٍ.
وقوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا} عطفٌ على أنشأنا لكنْ لا على مَعْنى أنَّ إرسالَهم مُترَاخٍ عن إنشاء القُرون المذكورةِ جميعًا بل على مَعْنى أنَّ إرسالَ كلِّ رسولٍ متأخِّرٌ عن إنشاءِ قرنٍ مخصُوصٍ بذلك الرَّسولِ، كأنَّه قيل: ثمَّ أنشأنا من بعدِهم قُرونًا آخرينَ قد أرسلنا إلى كلِّ قرنٍ منهُم رسولًا خاصًّا بهِ. والفصل بين المعطوفينِ بالجملة المعترِضةِ النَّاطقةِ لعدم تقدُّمِ الأممِ أجلَها المضروبَ لهلاكِهم للمسارعةِ إلى بيان هلاكِهم على وجهٍ إجماليَ {تَتْرَى} أي متواتِرينَ واحدًا بعد واحدٍ من الوِتْرِ وهو الفَردُ. والتَّاءُ بدلٌ من الواوِ كما في تولج وينقوا. والألفُ للتأنيثِ باعتبار أنَّ الرُّسلَ جماعةٌ. وقرئ بالتَّنوينِ على أنَّه مصدرٌ بمعنى الفاعلِ وقع حالًا. وقولُه تعالى: {كُلَّمَا جَاءهُمْ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ} استئنافٌ مبيِّنٌ لمجيء كلِّ رسولٍ لأمَّتِه ولما صدرَ عنهم عند تبليغِ الرِّسالةِ. والمرادُ بالمجيءِ إمَّا التَّبليغُ وإمَّا حقيقةُ المجيء للإيذانِ بأنَّهم كذَّبوه في أوَّلِ المُلاقاة. وإضافةُ الرَّسولِ إلى الأُمَّةِ مع إضافة كلِّهم فيما سبق إلى نُونِ العظمةِ لتحقيق أنَّ كلَّ رسولٍ جاء أُمَّته الخاصَّةَ به لا أنَّ كلَّهم جاءوا كلَّ الأممِ، والإشعارِ بكمالِ شناعتِهم وضلالِهم حيثُ كذَّبتْ كلُّ واحدةٍ منهُم رسولَها المعيَّنِ لها. وقيل: لأنَّ الإرسالَ لائقٌ بالمرسلِ والمجيءُ بالمرسلِ إليهم {فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا} في الهلاكِ حسبما تبع بعضُهم بعضًا في مباشرة أسبابِه التي هي الكفرُ والتَّكذيبُ وسائرُ المعاصي {وجعلناهم أَحَادِيثَ} لم يبقَ منهم إلا حكاياتٌ يعتبر بها المعتبرون وهو اسمُ جمعٍ للحديثِ أو جمعُ أُحدوثةٍ وهي ما يُتحدَّثُ به تَلهِّيًا كأعاجيبَ جمعُ أُعجوبةٍ وهي ما يُتعجَّبُ منه أي جعلناهم أحاديثَ يُتحدَّثُ بها تَلهِّيًا وتعجُّبًا {فَبُعْدًا لّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} اقتصر هاهنا على وصفهم بعدمِ الإيمانِ حسبما اقتصر على حكايةِ تكذيبهم إجمالًا. وأمَّا القُرونُ الأَوَّلُون فحيث نُقل عنهم ما مرَّ من الغُلوِّ وتجاوزِ الحدِّ في الكُفرِ والعُدوانِ وُصفوا بالظُّلمِ. اهـ.

.قال الألوسي:

{ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ}.
أي بعد هلاكهم {قُرُونًا ءاخَرِينَ} هم عند أكثر المفسرين قوم صالح وقوم لوط وقوم شعيب وغير ذلك.
{مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا} أي ما تتقدم أمة من الأمم المهلكة الوقت الذي عين لهلاكهم فمن سيف خطيب جيء بها لتأكيد الاستغراق المستفاد من النكرة الواقعة في سياق النفي، وحاصل المعنى ما تهلك أمة من الأمم قبل مجيء أجلها {وَمَا يَسْتَئَخِرُونَ} ذلك الأجل ساعة، وضمير الجمع عائد على {أُمَّةٍ} باعتبار المعنى.
{ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا} عطف على {أَنشَأْنَا} [المؤمنون: 42] لكن لا على معنى أن إرسالهم متراخ عن إنشاء القرون المذكورة جميعًا بل على معنى أن إرسال كل رسول متأخر عن إرسال قرن مخصوص بذلك الرسول كأنه قيل: ثم أنشأنا من بعدهم قرونًا آخرين قد أرسلنا إلى كل قرن منهم رسولًا خاصًا به، والفصل بين المعطوفين بالجملة المعترضة للمسارعة إلى بيان هلاك أولئك القرون على وجه إجمالي، وتعليق الإرسال بالرسل نظير تعليق القتل بالقتيل في من قتل قتيلًا وللعلماء فيه توجيهات {تَتْرَا} من المواترة وهو التتابع مع فصل ومهلة على ما قاله الأصمعي واختاره الحريري في الدرة.
وفي الصحاح المواترة المتابعة ولا تكون المواترة بين الأشياء إلا إذا وقعت بينها فترة وإلا فهي مداركة ومثله في القاموس، وعن أبي على أنه قال: المواترة أن يتبع الخبر الخبر والكتاب الكتاب فلا يكون بينهما فصل كثير، ونقل في البحر عن بعض أن المواترة التتابع بغير مهلة، وقيل: هو التتابع مطلقًا، والتاء الأولى يدل من الواو كما في تراث وتجاه ويدل على ذلك الاشتقاق، وجمهور القراء والعرب على عدم تنوينه فالفه للتأنيث كالف دعوى وذكرى وهو مصدر في موضع الحال والظاهر أنه حال من المفعول، والمراد كما قال أبو حيان والراغب وغيرهما ثم أرسلنا رسلنا متواترين، وقيل: حال من الفاعل والمراد أرسلنا متواترين.
وقيل هو صفة لمصدر مقدر أي إرسالًا متواترًا، وقيل مفعول مطلق لأرسلنا لأنه بمعنى واترنا.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وقتادة، وأبو جعفر، وشعبة، وابن محيصن والإمام الشافعي عليه الرحمة {رُسُلَنَا تَتْرَى} بالتنوين وهو لغة كنانة، قال في البحر: وينبغي عند من ينون أن تكون الألف فيه للإلحاق كما في أرطى وعلقى لكن ألف الإلحاق في المصادر نادرة، وقيل: إنها لا توجد فيها.
وقال الفراء: يقال تتر في الرفع وتتر في الجر وتترًا في النصب فهو مثل صبر ونصر ووزنه فعل لا فعلي ومتى قيل تترى بالألف فألفه بدل التنوين كما في صبرت صبرًا عند الوقف.
ورد بأنه لم يسمع فيه إجراء الحركات الثلاث على الراء وعلى مدعيه الإثبات. وأيضًا كتبه بالياء يأبى ذلك، وما ذكرنا من مصدرية {تَتْرَى} هو المشهور، وقيل: هو جمع، وقيل: اسم جمع وعلى القولين هو حال أيضًا.
وقوله تعالى: {كُلَّ مَا جَاء أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ} استئناف مبين لمجيء كل رسول لأمته ولما صدر عنهم عند تبليغ الرسالة، والمراد بالمجيء إما التبليغ وإما حقيقة المجيء للإيذان بأنهم كذبوه في أول الملاقاة، وإضافة الرسول إلى الأمة مع إضافة كلهم فيما سبق إلى نون العظمة لتحقيق أن كل رسول جاء أمته الخاصة به لا أن كلهم جاؤا كل الأمم وللإشعار بكمال شناعة المكذبين وضلالهم حيث كذبوا الرسول المعين لهم، وقيل: أضاف سبحانه الرسول مع الإرسال إليه عز وجل ومع المجيء إلى المرسل إليهم لأن الإرسال الذي هو مبدأ الأمر منه تعالى والمجيء الذي هو منتهاه إليهم {فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا} في الهلاك حسبما تبع بعضهم بعضًا في مباشرة سببه وهو تكذيب الرسول {وجعلناهم أَحَادِيثَ} جمع أحدوثه وهو ما يتحدث به تعجبًا وتلهيًا كأعاجيب جمع أعجوبة وهو ما يتعجب منه أي جعلناهم أحاديث يتحدث بها على سبيل التعجب والتلهي، ولا تقال الأحدوثة عند الأخفش إلا في الشر.
وجوز أن يكون جمع حديث وهو جمع شاذ مخالف للقياس كقطيع وأقاطيع ويسميه الزمخشري اسم جمع، والمراد إنا أهلكناهم ولم يبق إلا خبرهعم {فَبُعْدًا لّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} اقتصر هاهنا على وصفهم بعدم الايمان حسبما اقتصر على حكاية تكذيبهم إجمالًا، وأما القرون الأولون فحيث نقل عنهم ما مر من الغلو وتجاوز الحد في الكفر والعدوان وصفوا بالظلم. اهـ.