فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)}.
{الكتاب} التوراة، و{لعلهم} يريد بني إسرائيل لأن التوراة إنما نزلت بعد هلاك فرعون والقبط، والترجي في لعل في جيز البشر أَي كان من فعلنا معهم ما يرجو معه ابن آدم إيمانهم وهداهم والقضاء قد حتم بما حتم، و{ابن مريم}، عيسى عليه السلام وقصتهما كلها آية عظمى بمجموعها وهي آيات مع التفصيل وأخذها من كلا الوجهين متمكن، و آوى معناه ضم واستعمل اللفظة في الأماكن أي أقررناهما، و الربوة المرتفع من الأرض، وقرأ جمهور الناس رُبوة بضم الراء، وقرأ عاصم وابن عامر بفتحها وهي قراءة الحسن وأبي عبد الرحمن، وقرأ ابن عباس ونصر عن عاصم بكسرها، وقرأ محمد بن إسحاق رُباوة بضم الراء، وقرأ الأشهب العقيلي بفتحها، وقرأت فرقة بكسرها وكلها لغات قرئ بها، و القرار، التمكن فمعنى هذا أَنها مستوية بسيطة للحرث والغراسة قاله ابن عباس، وقال قتادة القرار هنا الحبوب والثمار، ومعنى الآية أنها من البقاع التي كملت خصالها فهي أَهل أَن يستقر فيها وقد يمكن أَن يستقر على الكمال في البقاع التي ماؤها آبار فبين بعد أَن ماء هذه الربوة يرى معينًا جاريًا على وجه الأرض قاله ابن عباس وهذا كمال الكمال، و المعين، الظاهر الجري للعين فالميم زائدة وهو الذي يعاين جريه لا كالبئر ونحوه، وكذلك أدخل الخليل وغيره هذه اللفظة في باب. ع، ي، ن، وقد يحتمل أن تكون من قولهم معن الماء إذا كثر، ومنه قولهم المعن المعروف والجود، فالميم فاء الفعل، وأنشد الطبري على هذا قول عبيد بن الأبرص:
واهية أو معين ممعن ** وهضبة دونها لهوب

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله هاجر لو تركت زمزم لكانت عينًا معينًا»، وهذا يحتمل الوجهين، وهذه الربوة هي الموضع الذي فرت إليه مريم حين استحيت في قصة عيسى عليه السلام وهو الذي قيل لها فيه {قد جعل ربك تحتك سريا} [مريم: 24] هذا قول بعض المفسرين واختلف الناس في موضع الربوة فقال: ابن المسيب سعيد: هي الغوطة بدمشق وهذا أشهر الأقوال لأن صفة الغوطة أنها {ذات قرار ومعين} على الكمال، وقال أبو هريرة هي الرملة من فلسطين وأسنده الطبري عن كريب البهزي عن النبي عليه السلام، ويعارض هذا القول أن الرملة ليس يجري بها ماء البتة وذكره الطبري وضعف القول به، وقال كعب الأحبار الربوة بيت المقدس وزعم أن في التوراة أن بيت المقدس أقرب الأرض إلى السماء وأنه يزيد على أَعلى الأرض ثمانية عشر ميلًا.
ويترجح أن الربوة بيت لحم من بيت المقدس لأن ولادة عيسى هنالك كانت، وحينئذ كان الإيواء، وقال ابن زيد الربوة بأرض مصر وذلك أنها رُبا يجيء فيض النيل إليها فيملأ الأرض ولا ينال تلك الربا وفيها القرى وبها نجاتها، ويضعف هذا القول أنه لم يرو أَن عيسى عليه السلام ومريم كانًا بمصر ولا حفظت لهما بهما. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب}.
يعني التوراة؛ وخصّ موسى بالذكر لأن التوراة أنزلت عليه في الطور، وهارون خليفة في قومه.
ولو قال: ولقد آتيناهما جاز؛ كما قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان} [الأنبياء: 48].
قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} تقدم في الأنبياء القول فيه {وَآوَيْنَاهُمَآ إلى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} الربوة المكان المرتفع من الأرض؛ وقد تقدم في البقرة.
والمراد بها هاهنا في قول أبي هريرة: فلسطين.
وعنه أيضًا الرملة؛ وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن عباس وابن المسيِّب وابن سَلاَم: دمشق.
وقال كعب وقتادة: بيت المقدس.
قال كعب: وهي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر مِيلًا.
قال:
فكنت هَمِيدًا تحت رَمْس برَبْوَة ** تَعاوَرُني ريحٌ جنوبٌ وشَمْألُ

وقال ابن زيد: مصر.
وروى سالم الأفطس عن سعيد بن جُبير وآويناهما إلى ربوة قال: النَّشز من الأرض.
{ذَاتِ قَرَارٍ} أي مستوية يُستقر عليها.
وقيل: ذات ثمار، ولأجل الثمار يَستقر فيها الساكنون.
{وَمَعِينٍ} ماء جارٍ ظاهر للعيون.
يقال: مَعِين ومُعُن؛ كما يقال: رغيف ورُغُف؛ قاله على بن سليمان.
وقال الزجاج: هو الماء الجاري في العيون؛ فالميم على هذا زائدة كزيادتها في مبيع، وكذلك الميم زائدة في قول من قال إنه الماء الذي يرى بالعين.
وقيل: إنه فعيل بمعنى مفعول.
قال على بن سليمان: يقال مَعَن الماء إذا جرى فهو معين ومَعْيُون.
ابن الأعرابي: معن الماء يَمْعَن مُعونا إذا جرى وسَهُل، وأمعن أيضًا وأمعنته، ومياه مُعْنان. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلَقَدْ ءاتَيْنَا}.
بعد إهلاكهم وإنجاء بني إسرائيل من مملكتهم {مُوسَى الكتاب} أي التوراة، وحيث كان إيتاؤه عليه السلام إياها لإرشاد قومه إلى الحق كما هو شأن الكتب الإلهية جعلوا كأنهم أوتوها فقيل: {لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} أي إلى طريق الحق علمًا وعملًا لما تضمنته من الاعتقاديات والعمليات.
وجوز أن يكون الكلام على تقدير مضاف أي آتينا قوم موسى وضمير {لَعَلَّهُمْ} عائد عليه، وقيل أريد بموسى عليه السلام قومه كما يقال تميم وثقيف للقبيلة.
وتعقب بأن المعروف في مثله إطلاق أبي القبيلة عليهم وإطلاق موسى عليه السلام على قومه ليس من هذا القبيل وإن كان لا مانع منه، ولم يجعل ضمير {لَعَلَّهُمْ} لفرعون وملئه لظهور أن التوراة إنما نزلت بعد إغراقهم لبني إسرائيل وقد يستشهد على ذلك بقوله تعلاى: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الكتاب مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا القرون الاولى} [القصص: 43] بناء على أن المراد بالقرون الأولى ما يعم فرعون وقومه ومن قبلهم من المهلكين كقوم نوح وهود لا ما يخص من قبلهم من الأمم المهلكين لأن تقييد الأخبار بإتيانه عليه السلام الكتاب بأنه بعد إهلاك من تقدم من الأمم معلوم فلو لم يدخل فرعون وقومه لم يكن فيه فائدة كما قيل، ولم يذكر هرون مع موسى عليهما السلام اقتصارًا على من هو كالأصل في الايتاء، وقيل لأن الكتاب نزل بالطور وهرون عليه السلام كان غائبًا مع بني إسرائيل.
{وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءايَةً} أية آية دالة على عظيم قدرتنا بولادته منها من غير مسيس بشر فالآية أمر واحد مشترك بينهما فلذا أفردت، وجوز أن يكون الكلام على تقدير مضاف أي جعلنا حال ابن مريم وأمه آية أو جعلنا ابن مريم وأمه ذوي آية وأن يكون على حذف آية من الأول لدلالة الثاني عليه أو بالعكس أي جعلنا ابن مريم آية لما ظهر فيه عليه السلام من الخوارق كتكلمه في المهد بما تكلم صغيرًا وإحيائه الموتى وإبرائه الأكمه والأبرص وغير ذلك كبيرًا وجعلنا أمه آية بأن ولدت من غير مسيس، وقال الحسن: إنها عليها السلام تكلمت في صغرها أيضًا حيث قالت: {هُوَ مِنْ عِندِ الله إنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37] ولم تلتقم ثديًا قط، وقال الخفاجي: لك أن تقول: إنما يحتاج إلى توجيه إفراد الآية بما ذكر إذا أريد أنها آية على قدرة الله تعالى أما إذا كانت بمعنى المعجزة أو الإرهاص فلا لأنها إنما هي لعيس عليه السلام لنبوته دون مريم. اهـ.
ولا يخفى ما فيه والوجه عندي ما تقدم، والتعبير عن عيسى عليه السلام بابن مريم وعن مريم بأمه للإيذان من أول الأمر بحيثية كونهما آية فإن نسبته عليه السلام إليها مع أن النسب إلى الآباء دالة على أن لا أب له أي جعلنا ابن مريم وحدها من غير أن يكون له أب وأمه التي ولدته خاصة من غير مشاركة الأب آية، وتقديمه عليه السلام لأصالته فيما ذكر من كونه آية كما قيل أن تقديم أمه في قوله تعالى: {وجعلناها وابنها ءايَةً للعالمين} [الأنبياء: 91] لأصالتها فيما نسب إليها من الإحصان والنفخ، ثم اعلم أن الذي أجمع عليه الإسلاميون أنه ليس لمريم ابن سوى عيسى عليه السلام.
وزعم بعض النصارى قاتلهم الله تعالى أنها بعد أن ولدت عيسى تزوجت بيوسف النجار وولدت منه ثلاثة أبناء، والمعتمد عليه عندهم أنها كانت في حال الصغر خطيبة يوسف النجار وعقد عليها ولم يقربها ولما رأى حملها بعيسى عليه السلام هم بتخليتها فرأى في المنام ملكًا أوقفه على حقيقة الحال فلما ولدت بقيت عنده مع عيسى عليه السلام فجعل يربيه ويتعهده مع أولاد له من زوجة غيرها فأما هي فلم يكن يقربها أصلًا.
والمسلمون لا يسلمون أنها كانت معقودًا عليها ليوسف ويسلمون أنها كانت خطيبته وأنه تعهدها وتعهد عيسى عليه السلام ويقولون: كان ذلك لقرابته منها {وءاويناهما} أي جعلناهما يأويان {إلى رَبْوَةٍ} هي ما ارتفع من الأرض دون الجبل.
واختلف في المراد بها هنا فاخرج وكيع وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن عساكر بسند صحيح عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: {إلى رَبْوَةٍ} أنبئنا أنها دمشق، وأخرج ابن عساكر عن عبد الله بن سلام وعن يزيد بن شجرة الصحابي وعن سعيد بن المسيب وعن قتادة عن الحسن أنهم قالوا: الربوة هي دمشق، وفي ذلك حديث مرفوع أخرجه ابن عساكر عن أبي أمامة بسند ضعيف.
وأخرج جماعة عن أبي هريرة أنه قال: هي الرملة من فلسطين، وأخرج ذلك ابن مردويه من حديثه مرفوعًا، وأخرج الطبراني في الأوسط وجماعة عن مرة البهزي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الربوة الرملة» وأخرج ابن جرير وغيره عن الضحاك أنه قال: هي بيت المقدس، وأخرج هو وغيره أيضًا عن قتادة أنه قال: كنا نحدث أن الربوة بيت المقدس، وذكروا عن كعب أن أرضه كبد الأرض وأقربها إلى السماء بثمانية عشر ميلًا ولذا كان المعراج ورفع عيسى عليه السلام منه، وهذا القول أوفق بإطلاق الربوة على ما سمعت من معناها، وأخرج ابن المنذر وغيره عن وهب وابن جرير وغيره عن ابن زيد الربوة مصر، وروى عن زيد بن أسلم أنه قال: هي الإسكندرية، وذكروا أي قرى مصر كل واحدة منها على ربوة مرتفعة لعموم النيل في زيادته جميع أرضها فلو لم تكن القرى على الربى لغرقت، وذكر أن سبب هذا الإيواء أن ملك ذلك الزمان عزم على قتل عيسى عليه السلام ففرت به أمه إلى أحد هذه الأماكن التي ذكرت كذا في البحر، ورأيت في إنجيل متى أن عيسى عليه السلام لما ولد في بيت لحم في أيام هيرودس الملك وافى جماعة من المجوس من المشرق إلى أورشليم يقولون: أين المولود ملك اليهود فقد رأينا نجمه في المشرق وجئنا لنسجد له فلما سمع هيرودس اضطرب وجمع رؤساء الكهنة وكتبة الشعب فسألهم أين يولد المسيح؟ فقالوا: في بيت لحم فدعا المجوس سرًا وتحقق منهم الزمان الذي ظهر لهم فيه النجم وأرسلهم إلى بيت لحم وقال لهم: اجهدوا في البحث عن هذا المولود فإذا وجدتموه فأخبروني لأسجد له معكم فذهبوا فوجدوه مع مريم فسجدوا وقربوا القرابين ورأوا في المنام أن لا يرجعوا إلى هيرودس فذهبوا إلى كورتهم ورأى يوسف في المنام ملكًا يقول له قم فخذ الطفل وأمه واهرب إلى مصر وكن هناك حتى أقول لك فإن هيرودس قد عزم على أن يطلب الطفل ليهلكه فقام وأخذ الطفل وأمه ليلًا ومضى إلى مصر وكان هناك إلى وفاة هيرودس فلما توفى رأى يوسف الملك في المنام يقول له: قم فخذ الطفل وأمه واذهب إلى أرض إسرائيل فقد مات من يطلب نفس الطفل فقام وأخذهما وجاء إلى أرض إسرائيل فلما سمع أن أرشلاوس قد ملك على اليهودية بعد أبيه هيرودس خاف أن يذهب هناك فأخبر في المنام وذهب إلى تخوم الجليل فسكن في مدينة تدعى ناصرة اهـ. فإن صح هذا كان الظاهر أن الربوة في أرض مصر أو ناصرة من أرض الشام والله تعالى أعلم.
وقرأ أكثر القراء {رَبْوَةٍ} بضم الراء وهي لغة قريش، وقرأ أبو إسحاق السبيعي {رَبْوَةٍ} بكسرها، وابن أبي إسحاق {رباة} بضم الراء وبالألف، وزيد بن على رضي الله تعالى عنهما، والأشهب العقيلي، والفرزدق، والسلمي في نقل صاحب اللوامح بفتحه وبالألف.
وقرئ بكسرها وبالألف {رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ} أي مستقر من أرض منبسطة، والمراد أنها في واد فسيح تنبسط به نفس من يأوى إليه، وقال مجاهد: ذات ثمار وزروع، والمراد أنها محل صالح لقرار الناس فيه لما فيه من الزروع والثمار وهو أنسب بقوله تعالى: {وَمَعِينٍ} أي وماء معين أي جار، ووزنه فعيل على أن الميم أصلية من معنى بمعنى جرى، وأصله الإبعاد في الشيء ومنه أمعن النظر.
وفي البحر معن الشيء معانة كثر أو من الماعون، وإطلاقه على الماء الجاري لنفعه، وجوز أن يكون وزنه مفعول كمخيط على أن الميم زائدة من عانه أدركه بعينه كركبه إذا ضربه بركبته وإطلاقه على الماء الجاري لما أنه في الأغلب يكون ظاهرًا مشاهدًا بالعين، ووصف الماء بذلك لأنه الجامع لانشراح الصدر وطيب المكان وكثرة المنافع. اهـ.