فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد مضى القول في الطيبات والرزق في غير موضع، والحمد لله.
وفي قوله عليه السلام: «يمد يديه» دليل على مشروعية مدّ اليدين عند الدعاء إلى السماء؛ وقد مضى الخلاف في هذا والكلام فيه والحمد لله.
وقوله عليه السلام «فأنَّى يستجاب لذلك» على جهة الاستبعاد؛ أي أنه ليس أهلًا لإجابة دعائه لكن يجوز أن يستجيب الله له تفضلًا ولطفًا وكرمًا.
{وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)}.
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} المعنى: هذا الذي تقدم ذكره هو دينكم وملتكم فالتزموه.
والأمّة هنا الدِّين؛ وقد تقدم محامله؛ ومنه قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَآ آبَاءَنَا على أُمَّةٍ} [الزخرف: 23] أي على دين.
وقال النابغة:
حلفتُ فلم أترك لنفسك رِيبةً ** وهل يَأْثَمَنْ ذو أمّةٍ وهو طائع

الثانية: قرئ {وإن هذه} بكسر أن على القطع، وبفتحها وتشديد النون.
قال الخليل: هي في موضع نصب لمّا زال الخافض؛ أي أنا عالم بأن هذا دينكم الذي أمرتكم أن تؤمنوا به.
وقال الفرّاء: أن متعلقة بفعل مضمر تقديره: واعلموا أن هذه أمتكم.
وهي عند سيبويه متعلقة بقوله: {فاتقون}؛ والتقدير فاتقون لأن أمتكم واحدة.
وهذا كقوله تعالى: {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَدًا} [الجن: 18]؛ أي لأن المساجد لله فلا تدعوا معه غيره.
وكقوله: {لإِيلاَفِ قُرَيشٍ}؛ أي فليعبدوا ربّ هذا البيت لإيلاف قريش.
الثالثة: وهذه الآية تقوّي أن قوله تعالى: {يأيها الرسل} إنما هو مخاطبة لجميعهم، وأنه بتقدير حضورهم.
وإذا قدرت {يأيها الرسل} مخاطبة لمحمد صلى الله عليه وسلم فَلَق اتصالَ هذه الآية واتصالَ قوله: {فتقطعوا}.
أما أنّ قوله: {وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاتقون} وإن كان قيل للأنبياء فأممهم داخلون فيه بالمعنى؛ فيحسن بعد ذلك اتصال.
{فتقطعوا} أي افترقوا، يعني الأمم، أي جعلوا دينهم أديانًا بعد ما أمروا بالاجتماع.
ثم ذكر تعالى أن كلًا منهم معجب برأيه وضلالته وهذا غاية الضلال.
الرابعة: هذه الآية تنظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم: «ألاَ إنّ مَن قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملّة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة» الحديث. خرّجه أبو داود، ورواه الترمذي وزاد: قالوا ومن هي يا رسول الله؟ قال: «ما أنا عليه وأصحابي» خرّجه من حديث عبد الله بن عمرو.
وهذا يبيّن أن الافتراق المحذر منه في الآية والحديث إنما هو في أصول الدين وقواعده، لأنه قد أطلق عليها مِلَلًا، وأخبر أن التمسك بشيء من تلك الملل موجب لدخول النار.
ومثل هذا لا يقال في الفروع، فإنه لا يوجب تعديد الملل ولا عذاب النار؛ قال الله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48].
قوله تعالى: {زُبُرًا} يعني كتبًا وضعوها وضلالات ألّفوها؛ قاله ابن زيد.
وقيل: إنهم فرّقوا الكتب فاتبعت فرقةٌ الصحفَ وفرقة التوراة وفرقة الزبور وفرقة الإنجيل، ثم حرف الكلّ وبدّل؛ قاله قتادة.
وقيل: أخذ كل فريق منهم كتابًا آمن به وكفر بما سواه.
و{زُبُرًا} بضم الباء قراءة نافع، جمع زبور.
والأعمش وأبو عمرو بخلافٍ عنه {زُبَرًا} بفتح الباء، أي قطعًا كقطع الحديد؛ كقوله تعالى: {آتُونِي زُبَرَ الحديد} [الكهف: 96].
{كُلُّ حِزْبٍ} أي فريق ومِلّة.
{بِمَا لَدَيْهِمْ} أي عندهم من الدين.
{فَرِحُونَ} أي معجبون به.
وهذه الآية مثال لقريش خاطب محمدًا صلى الله عليه وسلم في شأنهم متصلًا بقوله: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ} أي فذر هؤلاء الذين هم بمنزلة من تقدم، ولا يضيق صدرك بتأخير العذاب عنهم؛ فلكل شيء وقت.
والغَمرة في اللغة ما يَغْمُرك ويعلوك؛ وأصله الستر؛ ومنه الغِمْر الحقد لأنه يغطّي القلب.
والغَمْر الماء الكثير لأنه يغطي الأرض.
وغَمْرُ الرداء الذي يشمل الناس بالعطاء؛ قال:
غَمْرُ الرداء إذا تبسّم ضاحكا ** غَلِقتْ لضَحْكته رِقابُ المالِ

المراد هنا الحَيْرة والغفلة والضلالة. ودخل فلان في غمار الناس، أي في زحمتهم.
وقوله تعالى: {حتى حِينٍ} قال مجاهد: حتى الموت، فهو تهديد لا توقيت؛ كما يقال: سيأتي لك يوم.
قوله تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ} ما بمعنى الذي؛ أي أيحسبون يا محمد أن الذي نعطيهم في الدنيا من المال والأولاد هو ثواب لهم، إنما هو استدراج وإملاء، ليس إسراعًا في الخيرات.
وفي خبر أن ثلاثة أقوال، منها أنه محذوف.
وقال الزجاج: المعنى نسارع لهم به في الخيرات، وحذفت به.
وقال هشام الضرير قولًا دقيقًا، قال: {أنما} هي الخيرات؛ فصار المعنى: نسارع لهم فيه، ثم أظهر فقال: {في الخيرات}، ولا حذف فيه على هذا التقدير.
ومذهب الكسائي أن {أنما} حرف واحد فلا يحتاج إلى تقدير حذف، ويجوز الوقف على قوله: {وبنين}.
ومن قال: {أنما} حرفان فلابد من ضمير يرجع من الخبر إلى اسم أن ولم يتم الوقف على {وبنين}.
وقال السِّخْتِيانيّ: لا يحسن الوقف على {وبنين}؛ لأن {يحسبون} يحتاج إلى مفعولين، فتمام المفعولين {في الخيرات}.
قال ابن الأنباري: وهذا خطأ؛ لأن أن كافية من اسم أن وخبرها ولا يجوز أن يؤتى بعد أن بمفعول ثان.
وقرأ أبو عبد الرحمن السُّلَمِيّ وعبد الرحمن بن أبي بكرة {يسارِع} بالياء، على أن يكون فاعله إمدادنا.
وهذا يجوز أن يكون على غير حذف؛ أي يسارع لهم الأمداد.
ويجوز أن يكون فيه حذف، ويكون المعنى يسارع الله لهم.
وقرئ {يُسارَعُ لهم في الخيرات} وفيه ثلاثة أوجه: أحدها على حذف به.
ويجوز أن يكون يُسارَع الأمدادَ.
ويجوز أن يكون {لهم} اسم ما لم يسم فاعله؛ ذكره النحاس.
قال المهدوِيّ: وقرأ الحرّ النحوي {نسرع لهم في الخيرات} وهو معنى قراءة الجماعة.
قال الثعلبي: والصواب قراءة العامة؛ لقوله: {نمدهم}.
{بَل لاَّ يَشْعُرُونَ} أن ذلك فتنة لهم واستدراج. اهـ.

.قال أبو حيان:

{يا أَيُّهَا الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات}.
ونداء {الرسل} وخطابهم بمعنى نداء كل واحد وخطابه في زمانه إذ لم يجتمعوا في زمان واحد فينادون ويخاطبون فيه، وإنما أتى بصورة الجمع ليعتقد السامع أن أمرًا نودي له جميع الرسل ووصوا به حقيق أن يوحد به ويعمل عليه.
وقيل: الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء بلفظ الجمع لقيامه مقام {الرسل} وقيل: ليفهم بذلك أن هذه طريقة كل رسول كما تقول تخاطب تاجرًا: يا تجار اتقوا الربا.
وقال الطبري: الخطاب لعيسى، وروي أنه كان يأكل من غزل أمه والمشهور من بقل البرية.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يقع هذا الإعلام عند إيواء عيسى ومريم إلى الربوة فذكر على سبيل الحكاية أي {آويناهما} وقلنا لهما هذا الذي أعلمناهما أن الرسل كلهم خوطبوا بهذا وكلا مما رزقناكما واعملا صالحًا اقتداء بالرسل والطيبات الحلال لذيذًا كان أو غير لذيذ.
وقيل: ما يستطاب ويستلذ من المآكل والفواكه ويشهد له {ذات قرار ومعين} وقدم الأكل من الطيبات على العمل الصالح دلالة على أنه لا يكون صالحًا إلاّ مسبوقًا بأكل الحلال.
{إني بما تعملون عليم} تحذير في الظاهر والمراد اتباعهم {وإن هذه أمتكم} الآية تقدم تفسير مثلها في أواخر الأنبياء.
وقرأ الكوفيون {وإن} بكسر الهمزة والتشديد على الاستئناف، والحرميان وأبو عمرو بالفتح والتشديد أي ولأن، وابن عامر بالفتح والتخفيف وهي المخففة من الثقيلة، ويدل على أن النداء للرسل نودي كل واحد منهم في زمانه قوله: {وإن هذه أمتكم}.
وقوله: {فتقطعوا} وجاء هنا {وأنا ربكم فاتقون} وهو أبلغ في التخويف والتحذير من قوله في الأنبياء {فاعبدون} لأن هذه جاءت عقيب إهلاك طوائف كثيرين من قوم نوح، والأمم الذين من بعدهم وفي الأنبياء وإن تقدمت أيضًا قصة نوح وما قبلها فإنه جاء بعدها ما يدل على الإحسان واللطف التام في قصة أيوب ويونس وزكريا ومريم، فناسب الأمر بالعبادة لمن هذه صفته تعالى وجاء هنا {فتقطعوا} بالفاء إيذانًا بأن التقطيع اعتقب الأمر بالتقوى، وذلك مبالغة في عدم قبولهم وفي نفارهم عن توحيد الله وعبادته.
وجاء في الأنبياء بالواو فاحتمل معنى الفاء، واحتمل تأخر تقطعهم عن الأمر بالعبادة، وفرح كل حزب بما لديه دليل على نعمته في ضلاله، وأنه هو الذي ينبغي أن يعتقد وكأنه لا ريبة عنده في أنه الحق.
ولما ذكر تعالى من ذكر من الأمم ومآل أمرهم من الإهلاك حين كذبوا الرسل كان ذلك مثالًا لقريش، فخاطب رسوله في شأنهم بقوله: {فذرهم في غمرتهم حتى حين} وهذا وعيد لهم حيث تقطعوا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقائل هو شاعر، وقائل ساحر، وقائل به جنة كما تقطع من قبلهم من الأمم كما قال: {أتواصوا به بل هم قوم طاغون} قال الكلبي {في غمرتهم} في جهالتهم.
وقال ابن بحر: في حيرتهم.
وقال ابن سلام: في غفلتهم.
وقيل: في ضلالتهم {حتى حين} حتى ينزل بهم الموت.
وقيل: حتى يأتي ما وعدوا به من العذاب.
وقيل: هو يوم بدر.
وقيل: هي منسوخة بآية السيف.
وقرأ الجمهور {في غمرتهم} وعليّ بن أبي طالب وأبو حيوة والسلمي في غمراتهم على الجمع لأن لكل واحد غمرة، وعلى قراءة الجمهور فغمرة تعم إذا أضيفت إلى عام.
وقال الزمخشري: الغمرة الماء الذي يغمر القامة فضربت مثلًا لما هم مغمورون فيه من جهلهم وعمايتهم، أو شبهوا باللاعبين في غمرة الماء لما هم عليه من الباطل، قال الشاعر:
كأني ضارب في غمرة لعب

سلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، ونهى عن الاستعجال بعذابهم والجزع من تأخره انتهى.
ثم وقفهم تعالى على خطأ رأيهم في أن نعمة الله عليهم بالمال ونحوه إنما هي لرضاه عن حالهم، وبيّن تعالى أن ذلك إنما هو إملاء واستدراج إلى المعاصي واستجرار إلى زيادة الإثم وهم يحسبونه مسارعة لهم في الخيرات ومعاجلة بالإحسان.
وقرأ ابن وثاب {إنما نمدهم} بكسر الهمزة، وقرأ ابن كثير في رواية يمدهم بالياء، وما في {أنما} إما بمعنى الذي أو مصدرية أو كافة مهيئة إن كانت بمعنى الذي فصلتها ما بعدها، وخبر إن هي الجملة من قوله: {نسارع لهم في الخيرات} والرابط لهذه الجملة ضمير محذوف لفهم المعنى تقديره: نسارع لهم به في الخيرات، وحسن حذفه استطالة الكلام مع أمن اللبس.
وتقدم نظيره في قوله: {إنما نمدهم به} وقال هشام بن معونة: الضرر الرابط هو الظاهر وهو {في الخيرات} وكان المعنى {نسارع لهم} فيه ثم أظهر فقال: {في الخيرات} فلا حذف على هذا التقدير، وهذا يتمشى على مذهب الأخفش في إجازته نحو زيد قام أبو عبد الله إذا كان أبو عبد الله كنية لزيد، فالخيرات من حيث المعنى هي الذي مدُّوا به من المال والبنين وإن كانت ما مصدرية فالمسبوك منها ومما بعدها هو مصدر اسم إن وخبر إن هو {نسارع} على تقدير مسارعة فيكون الأصل أن نسارع فحذفت أن وارتفع الفعل، والتقدير أيحسبون أن إمدادنا لهم بالمال والبنين مسارعة لهم في الخيرات.
وإن كانت ما كافة مهيئة فهو مذهب الكسائي فيها هنا فلا تحتاج إلى ضمير ولا حذف، ويجوز الوقف على {وبنين} كما تقول حسبت إنما يقوم زيد، وحسبت أنك منطلق، وجاز ذلك لأن ما بعد حسبت قد انتظم مسندًا ومسندًا إليه من حيث المعنى، وإن كان في ما يقدر مفردًا لأنه ينسبك من أن وما بعدها مصدر.
وقرأ السلمي وعبد الرحمن بن أبي بكرة يسارع بالياء وكسر الراء فإن كان فاعل {نسارع} ضمير يعود على ما بمعنى الذي، أو على المصدر المنسبك من ما نمد فنسارع خبر لأن ولا ضمير ولا حذف أي يسارع هو أي الذي يمد ويسارع، هو أي إمدادنا.
وعن ابن أبي بكرة المذكور بالياء وفتح الراء مبنيًا للمفعول، وقرأ الحر النحوي نسرع بالنون مضارع أسرع {بل لا يشعرون} إضراب عن قوله: {أيحسبون} أي بل هم أشباه البهائم لا فطنة لهم ولا شعور فيتأملوا ويتفكروا أهو استدراج أم مسارعة في الخير وفيه تهديد ووعيد. اهـ.