فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا}.
أمر جل وعلا في هذه الآية الكريمة رسله عليهم الصلاة والسلام مع أن الموجود منهم، وقت نزولها واحد، وهو نبينا صلى الله عليه وسلم، بالأكل من الطيبات: وهي الحلال الذي لا شبهة فيه على التحقيق، وأن يعملوا العمل الصالح، وذلك يدل على أن الأكل من الحلال له أثر في العمل الصالح، وهو كذلك، وهذا الذي أمر به الرسل في هذه الآية الكريمة، أمر به المؤمنين من هذه الأمة التي هي خير الأمم، وذلك في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ واشكروا للَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172] والآية تدل على أن كل رسول أمر في زمنه بالأكل من الحلال، والعمل الصالح، وتأثير الأكل من الحلال في الأعمال معروف. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وأن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يا أيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] وقال: {يا أيها الذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر. ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام، وغذي بالحرام يمد يديه إلى السماء، يا رب يا رب فأنى يستجاب له» وهو يدل دلالة واضحة أن دعاءه الذي من أعظم القرب لم ينفعه، لأنه لم يأكل من الحلال ولم يشرب منه، ولم يركب منه.
{وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)}.
قد أوضحنا معنى هاتين الآيتين، وفسرنا ما يحتاج منهما إلى تفسير وبينا الآيات الموضحة لمعناهما في سورة الأنبياء في الكلام على قوله: {إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاعبدون وتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} [الأنبياء: 92- 93] وبينا المراد بالأمة مع بعض الشواهد العربية، وبينا جميع معاني الأمة في القرآن في أول سورة هود في الكلام على قوله: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} [هود: 8] الآية فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
{فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54)}.
أمر جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم أن يذر الكفار أي يتركهم في غمرتهم إلى حين، أي وقت معين عند الله، والظاهر أنه وقت انقضاء آجالهم بقتل أو موت، وصيرورتهم إلى ما هم صائرون إليه بعد الموت من العذاب البرزخي، والأخروي، وكون المراد بالحين المذكور: وقت قتلهم، أو موتهم ذكره الزمخشري عن على رضي الله عنه، بغير سند.
وأقوال أهل العلم في معنى غمرتهم راجعة إلى شيء واحد كقول الكلبي في غمرتهم: أي جهالتهم: وقول ابن بحر: في حيرتهم، وقول ابن سلام: في غفلتهم، وقول بعضهم: في ضلالتهم فمعنى كل هذه الأقوال واحد، وهو أنه، أمره أن يتركهم فيما هم فيه من الكفر والضلال، والغي والمعاصي قال الزمخشري: الغمرة: الماء الذي يغمر القامة فضربت مثلًا لما هم مغمورون فيه من جهلهم، وعمايتهم أو شبهوا باللاعبين في غمرة الماء لما هم عليه من الباطل، قال ذو الرمة:
ليالي اللهو يطببيني فأتبعه ** كأنني ضارب في غمرة لعب

وصيغة الأمر في قوله: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ} للتهديد، وقد تقرر في فن الأصول في مبحث الأمر وفي فن المعاني في مبحث الإنشاء، أن من المعاني التي تأتي لها صيغة أفعل التهديد وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة، من تهديد الكفار الذين كذبوا نبينا صلى الله عليه وسلم، جاء موضحًا في مواضع أخر. كقوله: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأمل فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 3] وقوله تعالى: {فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق: 17] وقوله: {قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار} [إبراهيم: 30] وقوله: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النار} [الزمر: 8].
وقد أوضحنا الآيات الدالة على هذا المعنى في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأمل} [الحجر: 3] الآية، وتكلمنا هناك على لفظ ذرهم.
{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)}.
قد أوضحنا الكلام على الآيات الموضحة لهاتين الآيتين في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى: {وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنْقَلَبًا} [الكهف: 36] فأغنى ذلك عن إعادته هنا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا}.
يتعيَّن تقدير قول محذوف اكتفاء بالمقول، وهو استئناف ابتدائي، أي قلنا: يا أيها الرسل كلوا.
والمحكي هنا حكي بالمعنى لأن الخطاب المذكور هنا لم يكن موجهًا للرسل في وقت واحد بضرورة اختلاف عصورهم.
فالتقدير: قلنا لكل رسول مِمَّنْ مضَى ذكرُهم كُلْ من الطيبات واعمل صالحًا إني بما تعمل عليم.
وذلك على طريقة التوزيع لمدلول الكلام وهي شائعة في خطاب الجماعات.
ومنه: ركب القوم دوابَّهم.
والغرض من هذا بيان كرامة الرسل عند الله ونزاهتهم في أمورهم الجسمانيَّة والروحانيَّة، فالأكل من الطيبات نزاهة جسميَّة والعمل الصالح نزاهة نفسانيَّة.
والمناسبة لهذا الاستئناف هي قوله: {وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين} [المؤمنون: 50] وليحصل من ذلك الرد على اعتقاد الأقوام المعلّلين تكذيبهم رسلهم بعلة أنهم يأكلون الطعام كما قال تعالى في الآية السابقة {ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون} [المؤمنون: 33]، وقال: {وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق} [الفرقان: 7]، وليبطل بذلك ما ابتدعه النصارى من الرهبانيَّة.
وهذه فوائد من الاستدلال والتعليم كان لها في هذا المكان الوقع العظيم.
والأمر في قوله: {كلوا} للإباحة، وإن كان الأكل أمرًا جبلِّيًا للبشر إلا أن المراد به هنا لازمه وهو إعلام المكذبين بأن الأكل لا ينافي الرسالة وأن الذي أرسل الرسل أباح لهم الأكل.
وتعليق {من الطيبات} بكسب الإباحة المستفادة من الأمر شرط أن يكون المباح من الطيبات، أي أن يكون المأكول طيّبًا.
ويزيد في الرد على المكذبين بأن الرسل إنما يجتنبون الخبائث ولا يجتنبون ما أحل الله لهم من الطيبات.
والطيبات: ما ليس بحرام ولا مكروه.
وعطف العمل الصالح على الأمر بأكل الطيبات إيماء إلى أن همة الرسل إنما تنصرف إلى الأعمال الصالحة، وهذا كقوله تعالى: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناحٌ فيما طَعمُوا إذا ما اتَّقَوْا وآمنوا وعملوا الصّالحات} [المائدة: 93] المراد به ما تناولوه من الخمر قبل تحريمها.
وقوله: {إني بما تعملون عليم} تحريض على الاستزادة من الأعمال الصالحة لأن ذلك يتضمن الوعد بالجزاء عنها وأنه لا يضيع منه شيء، فالخبر مستعمل في التحريض.
{وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)}.
يجوز أن تكون الواو عاطفة على جملة {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات} [المؤمنون: 51] الخ، فيكون هذا مما قيل للرسل.
والتقدير: وقلنا لهم {إن هذه أمتكم أمة واحدة} الآية.
ويجوز أن تكون عطفًا على قصص الإرسال المبدوءة من قوله: {ولقد أرسلنا نوحًا إلى قومه} [المؤمنون: 23] لأن تلك القصص إنما قصت عليهم ليهتدوا بها إلى أن شأن الرسل منذ ابتداء الرسالة هو الدعوة إلى توحيد الله بالإلهيَّة.
وعلى هذا الوجه يكون سياقها كسياق آية سورة الأنبياء (92) {إن هذه أمتكم أمة واحدة} الآية.
وفي هذه الآية ثلاث قراءات بخلاف آية سورة الأنبياء.
فتلك اتفق القراء على قراءتها بكسر همزة إن.
فأما هذه الآية فقرأ الجمهور {وأنّ} بفتح الهمزة وتشديد النون، فيجوز أن تكون خطابًا للرسل وأن تكون خطابًا للمقصودين بالنذارة على الوجهين وفتح الهمزة بتقدير لام كي متعلقة بقوله: {فاتقون} عند من لا يرى وجود الفاء فيه مانعًا من تقديم معموله، أو متعلقة بمحذوف دل عليه {فاتقون} عند من يمنع تقديم المعمول على العامل المقترن بالفاء، كما تقدم في قوله تعالى: {فإياي فارهبون} في سورة النحل (51).
والمعنى عليه: ولكون دينكم دينًا واحدًا لا يتعدد فيه المعبود.
وكوني ربكم فاتَّقون ولا تشركوا بي غيري، خطابًا للرسل والمراد أممهم.
أو خطابًا لمن خاطبهم القرآن.
وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف بكسر همزة إنّ وتشديد النون، فكسر همزة إن إما لأنها واقعة في حكاية القول على الوجه الأول، وإمَّا لأنها مستأنفة على الوجه الثاني.
والمعنى كما تقدم في معنى قراءة الجمهور.
وقرأ ابن عامر بفتح الهمزة وتخفيف النون على أنها مخففة من أنّ المفتوحة واسمها ضمير شأن محذوف وخبرها الجملة التي بعدها.
ومعناه كمعنى قراءة الجمهور سواء.
واسم الإشارة مراد به شريعة كل من الأنبياء أو شريعة الإسلام على الوجهين في المخاطب بهذه الآية.
وتأكيد الكلام بحرف إن على القراءات كلها للرد على المشركين من أمم الرسل أو المشركين المخاطبين بالقرآن.
وتقدم تفسير نظيرها في سورة الأنبياء، إلا أن الواقع هنا {فاتقون} وهناك {فاعبدون} [الأنبياء: 92] فيجوز أن الله أمرهم بالعبادة وبالتقوى ولكن حكى في كل سورة أمرًا من الأمرين، ويجوز أن يكون الأمران وقعا في خطاب واحد، فاقتصر على بعضه في سورة الأنبياء وذكر معظمه في سورة المؤمنون بحسب ما اقتضاه مقام الحكاية في كلتا السورتين.
ويحتمل أن يكون كل أمر من الأمرين: الأمر بالعبادة والأمر بالتقوى.
قد وقع في خطاب مستقل تماثَل بعضُه وزاد الآخر عليه بحسب ما اقتضاه مقام الخطاب من قصد إبلاغه للأمم كما في سورة الأنبياء، أو من قصد اختصاص الرسل كما في سورة المؤمنون.
ويرجح هذا أنه قد ذكر في سورة المؤمنون خطاب الرسل بالصراحة.
وأيًّا مَّا كان من الاحتمالين فوجه ذلك أن آية سورة الأنبياء لم تذكر فيها رسالات الرسل إلى أقوامهم بالتوحيد عدا رسالة إبراهيم في قوله: {ولقد آتينا إبراهيم رشده} [الأنبياء: 51] ثم جاء ذكر غيره من الرسل والأنبياء مع الثناء عليهم وطال البعد بين ذلك وبين قصة إبراهيم فكان الأمر بعبادة الله تعالى، أي إفراده بالعبادة الذي هو المعنى الذي اتحدت فيه الأديان.