فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أولى هنالك لأن المقصود من ذلك الأمر أن يبلغ إلى أقوامهم، فكان ذكر الأمر بالعبادة أولى بالمقام في تلك السورة لأنه الذي حظُّ الأمم منه أكثر.
إذ الأنبياء والرسل لم يكونوا بخلاف ذلك قط فلا يقصد أمر الأنبياء بذلك إذ يصير من تحصيل الحاصل إلا إذا أريد به الأمر بالدوام.
وأما آية هذه السورة فقد جاءت بعد ذكر ما أرسل به الرسل إلى أقوامهم من التوحيد وإبطال الشرك فكان حظ الرسل من ذلك أكثر كما يقتضيه افتتاح الخطاب بـ {يا أيها الرسل} [المؤمنون: 51] فكان ذكر الأمر بالتقوى هنا أنسب بالمقام لأن التقوى لا حد لها، فالرسل مأمورون بها وبالازدياد منها كما قال تعالى في حق نبيّه {يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلًا نصفه أو انقص منه قليلًا أو زد عليه} [المزمل: 1 4] ثم قال في حق الأمة {فاقرأوا ما تيسر من القرآن} [المزمل: 20] الآية.
وقد مضى في تفسير سورة الأنبياء شيء من الإشارة إلى هذا ولكن ما ذكرناه هنا أبسط فضُمَّه إليه وعوّل عليه.
وقد فات في سورة الأنبياء (92) أن نبين عربية قوله تعالى: {إن هذه أمتكم أمة واحدة} فوجب أن نشبع القول فيه هنا.
فالإشارة بقوله: {هذه} إلى أمر مستحضر في الذهن بيّنه الخبر والحال ولذلك أنث اسم الإشارة، أي هذه الشريعة التي أوحينا إليك هي شريعتك.
ومعنى هذا الإخبار أنك تلتزمها ولا تنقص منها ولا تغير منها شيئًا.
ولأجل هذا المراد جعل الخبر ما حقه أن يكون بيانًا لاسم الإشارة لأنه لم يقصد به بيان اسم الإشارة بل قصد به الإخبار عن اسم الإشارة لإفادة الاتحاد بين مدلولي اسم الإشارة وخبره فيفيد أنه هو هو لا يغير عن حاله.
قال الزجاج: ومثل هذه الحال من لطيف النحو وغامضه إذ لا تجوز إلا حيث يعرف الخبر.
ففي قولك: هذا زيد قائمًا، لا يقال إلا لمن يعرفه فيفيده قيامَه.
ولو لم يكن كذلك لزم أن لا يكون زيدًا عند عدم القيام وليس بصحيح.
وبهذا يعلم أن ليس المقصود من الإخبار عن اسم الإشارة حقيقته بل الخبر مستعمل مجازًا في معنى التحريض والملازمة، وهو يشبه لازم الفائدة وإن لم يقع في أمثلتهم.
ومنه قوله تعالى: {وهذا بعلي شيخا} [هود: 72] فإن سارّة قد علمت أن الملائكة عرفوا أن إبراهيم بعلها إذ قد بشروها بإسحاق.
وإنما المعنى: وهذا الذي ترونه هو بعلي الذي يُترقب منه النسل المبشرَّ به، أي حاله ينافي البشارة، ولذلك يتبع مثل هذا التركيب بحال تبين المقصود من الإخبار كما في هذه الآية.
وقد تقدم ذكر لطيفة في تلك الآية.
{فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)}.
جيء بفاء التعقيب لإفادة أن الأمم لم يتريثوا عقب تبليغ الرسل إياهم {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون} [المؤمنون: 52] أن تقطعوا أمرهم بينهم فاتخذوا آلهة كثيرة فصار دينهم متقطعًا قطعًا لكل فريق صنم وعبادة خاصة به.
فضمير {تقطّعوا} عائد إلى الأمم المفهوم من السياق الذين هم المقصود من قوله: {وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون} [المؤمنون: 52].
وضمير الجمع عائد إلى أمم الرسل يدل عليه السياق. فالكلام مسوق مساق الذم.
ولذلك قد تفيد الفاء مع التعقيب معنى التفريع، أي فتفرع على ما أمرناهم به من التوحيد أنهم أتوا بعكس المطلوب منهم فيفيد الكلام زيادة على الذم تعجيبًا من حالهم.
ومما يزيد معنى الذم تذييله بقوله: {كل حزب بما لديهم فرحون} أي وهم ليسوا بحال من يفرح.
والتقطع أصله مطاوع قطع. واستعمل فعلًا متعديًا بمعنى قطع بقصد إفادة الشدة في حصول الفعل، ونظيره تخوفه السير، أي تنقصه، وتجهمه الليل وتعرفه الزمن.
فالمعنى: قطعوا أمرهم بينهم قطعًا كثيرة، أي تفرقوا على نحل كثيرة فجعل كل فريق منهم لنفسه دينًا.
ويجوز أن يجعل {تقطَّعوا} قاصرًا أسند التقطع إليهم على سبيل الإبهام ثم ميز بقوله: {أمرهم} كأنه قيل: تقطعوا أمرًا، فإن كثيرًا من نحاة الكوفة يجوزون كون التمييز معرفة.
وقد بسطنا القول في معنى {تقطعوا أمرهم بينهم} في سورة الأنبياء (93).
والأمر هنا بمعنى الشأن والحال وما صدقه أمور دينهم.
والزبُر بضم الزاي وضم الموحدة كما قرأ به الجمهور جمع زبور وهو الكتاب.
استعير اسم الكتاب للدين لأن شأن الدين أن يكون لأهله كتاب، فيظهر أنها استعارة تهكمية إذ لم يكن لكل فريق كتاب ولكنهم اتخذوا لأنفسهم أديانًا وعقائد لو سجلت لكانت زُبُرًا.
وقرأه أبو عمرو بخلاف عنه {زُبَرا} بضم الزاء وفتح الموحدة وهو جمع زُبرة بمعنى قطعة.
وجملة {كل حزب بما لديهم فرحون} تذييل لما قبله لأن التقطع يقتضي التحزب فذيل بأن كل فريق منهم فرح بدينه، ففي الكلام صفة محذوفة ل {حزب}، أي كل حزب منهم، بدلالة المقام.
والفرح: شدة المسرة، أي راضون جذلون بأنهم اتخذوا طريقتهم في الدين.
والمعنى: أنهم فرحون بدينهم عن غير دليل ولا تبصر بل لمجرد العكوف على المعتاد.
وذلك يومىء إليه {لديهم} المقتضي أنه متقرر بينهم من قبل، أي بالدين الذي هو لديهم فهم لا يرضون على من خالفهم ويعادونه، وذلك يفضي إلى التفريق والتخاذل بين الأمة الواحدة وهو خلاف مراد الله ولذلك ذيل به قوله: {وإن هذه أمتكم أمة واحدة} [المؤمنون: 52].
وقديمًا كان التحزب مسببًا لسقوط الأديان والأمم وهو من دعوة الشيطان التي يلبس فيها الباطل في صورة الحق.
والحزب: الجماعة المجتمعون على أمر من اعتقاد أو عمل، أو المتفقون عليه.
{فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54)}.
انتقال بالكلام إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم وضمير الجمع عائد إلى معروف من السياق وهم مشركو قريش فإنهم من جملة الأحزاب الذين تقطعوا أمرهم بينهم زبرًا، أو هم عينهم: فمنهم من اتخذ إلهه العزى.
ومنهم من اتخذ مناة، ومنهم من اتخذ ذا الخلصة إلى غير ذلك.
والكلام ظاهره المتاركة، والمقصود منه الإملاء لهم وإنذارهم بما يستقبلهم من سوء العاقبة في وقت ما.
ولذلك نكر لفظ {حين} المجعول غاية لاستدراجهم، أي زمن مبهم، كقوله: {لا تأتيكم إلا بغتة} [الأعراف: 187].
والغمرة حقيقتها: الماء الذي يغمر قامة الإنسان بحيث يغرقه.
وتقدم في قوله تعالى: {ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت} في سورة الأنعام (93).
وإضافتها إلى ضميرهم باعتبار ملازمتها إياهم حتى قد عرفت بهم، وذلك تمثيل لحال اشتغالهم بما هم فيه من الازدهار وترف العيش عن التدبر فيما يدعوهم إليه الرسول لينجيهم من العقاب بحال قوم غمرهم الماء فأوشكوا على الغرق وهم يحسبون أنهم يَسْبحون.
{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)}.
الأشبه أن تكون هذه الجملة بدل اشتمال من جملة {فَذرهم في غمرتهم حتى حين} [المؤمنون: 54] باعتبار أن جملة {فذرهم} تشتمل على معنى عدم الاكتراث بما هم فيه من الأحوال التي ألْهَتهم عن النظر في دعوة الإسلام وغرتهم بأنهم بمحل الكرامة على الله بما خولهم من العزة والترف، وما تشتمل عليه من التوعد بأن ذلك له نهاية ينتهون إليها وأن الله أعطاهم ما هم فيه زمن النعمة استدراجًا لهم.
وهذا كقوله تعالى: {وذَرْني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلًا} [المزمل: 11] وقوله: {لا يَغُرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل} [آل عمران: 196، 197].
والاستفهام في {أيحسبون} إنكاري وتوبيخ على هذا الحسبان سواء كان هذا الحسبان حاصلًا لجميع المشركين أم غير حاصل لبعض، لأن حالهم حال من هو مظنة هذا الحسبان فينكر عليه هذا الحسبان لإزالته من نفسه أو لدفع حصوله فيها.
و{أنما} هنا كلمتان أن المؤكدة وما الموصولة وكتبتا في المصحف متصلتين كما تكتب إنما المكسورة التي هي أداة حصر لأن الرسم القديم لم يكن منضبطًا كل الضبط وحقها أن تكتب مفصولة.
والإمداد: إعطاء المدد وهو العطاء.
و{من مال وبنين} بيان ل ما الموصولة.
والمسارعة: التعجيل، وهي هنا مستعارة لتوخي المرغوب والحرص على تحصيله.
وفي حديث عائشة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: «ما أرى ربك إلا يسارع في هواك» أي يعطيك ما تحبه لأن الراغب في إرضاء شخص يكون متسارعًا في إعطائه مرغوبه، ويقال: فلان يجري في حظوظك.
ومتعلق {نسارع} محذوف تقديره: نسارع لهم به، أي بما نمدهم به من مال وبنين.
وحذف لدلالة {نمدهم به} عليه.
وظرفية في مجازية.
جعلت {الخيرات} بمنزلة الطريق يقع فيه المسارعة بالمشي فتكون في قرينة مكنية.
وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {يا أيها الرسول لا يُحزنك الذين يسارعون في الكفر} [المائدة: 41] وقوله: {فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم} [المائدة: 52] كلاهما في سورة العقود، وقوله: {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات} في سورة الأنبياء (90).
والخيرات: جمع خير بالألف والتاء، وهو من الجموع النادرة مثل سرادقات.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {وأولئك لهم الخيرات} في سورة براءة (88)، وتقدم في سورة الأنبياء 73- 90.
و بل إضراب عن المظنون لا على الظن كما هو ظاهر بالقرينة، أي لسنا نسارع لهم بالخيرات كما ظنوا بل لا يشعرون بحكمة ذلك الإمداد وأنها لاستدراجهم وفضحهم بإقامة الحجة عليهم. اهـ.

.قال الشعراوي:

{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا}.
لكن، كيف يخاطب الحق- تبارك وتعالى- الرسل جميعًا في وقت واحد؟ نقول: لأن القرآن الكريم هو كلام الله القديم، لم يأْتِ خاصًا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأنْ نزل عليه فهو إذن خطاب لكل رسول جاء.
وبعد أن أمرهم الحق سبحانه بالأكل من الطيب أمرهم بالعمل الصالح: {واعملوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51] ثم يقول سبحانه: {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] كأن الحق سبحانه يقول: اسمعوا كلامي فيما آمركم به، فأنا عليم وخبير بكل ما يُصلحكم؛ لأنني الخالق الذي أعلم كيف تستقيم بنيتكم للحركة الصالحة للخير، ولا تستقيم بنيتكم للحركة الصالحة للخير إلا إذا أخذتم المطعم من الحلال الطيب.
وكما قلنا: إن صانع الآلة يضع لها الوقود المناسب لتشغيلها، وإلاّ تعطلتْ عن أداء مهمتها.
فلكي تؤدي الصالح في حركة حياتك عليك أنْ تبدأ بالمطْعَم الطيب الذي يبني ذراتك من الحلال، فيحدث انسجامًا بين هذه الذرات، وتعمل معًا متعاونة غير متعاندة، وإن انسجمتْ ذراتُك وتوافقتْ أعانتك على الصالح.