فصل: قال سيد قطب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال الزجاج: المعنى: نسارع لهم به في الخيرات، فحذفت به، و ما في: {إنما} موصولة، والرابط هو هذا المحذوف.
وقال الكسائي: إن أنما هنا حرف واحد فلا يحتاج إلى تقدير رابط.
قيل: يجوز الوقف على بنين.
وقيل: لا يحسن، لأن يحسبون يحتاج إلى مفعولين، فتمام المفعولين في الخيرات.
قال ابن الأنباري: وهذا خطأ؛ لأن ما كافة.
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وعبد الرحمن ابن أبي بكرة: {يسارع} بالياء التحتية على أن فاعله ما يدلّ عليه أمددنا، وهو الإمداد، ويجوز أن يكون المعنى: يسارع الله لهم، وقرأ الباقون: {نسارع} بالنون.
قال الثعلبي: وهذه القراءة هي الصواب لقوله: نمدّهم.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا} قال: يتبع بعضهم بعضًا. وفي لفظ قال: بعضهم على إثر بعض. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة {يَهْتَدُونَ وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءايَةً} قال: ولدته من غير أب.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن {أنس} آية قال: عبرة.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس: {وآويناهما إلى ربوة} قال: الربوة المستوية، والمعين: الماء الجاري، وهو النهر الذي قال الله: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} [مريم: 24].
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه: {وآويناهما إلى ربوة} قال: هي المكان المرتفع من الأرض، وهو أحسن ما يكون فيه النبات {ذَاتِ قَرَارٍ}: ذات خصب.
والمعين: الماء الظاهر.
وأخرج وكيع والفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وتمام الرازي وابن عساكر.
قال السيوطي: بسند صحيح عن ابن عباس في قوله: {إلى رَبْوَةٍ} قال: أنبئنا أنها دمشق.
وأخرج ابن عساكر عن عبد الله بن سلام مثله، وكذا أخرجه ابن أبي حاتم عنه، وأخرج ابن عساكر عن أبي أمامة مرفوعًا نحوه، وإسناده ضعيف.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، والطبراني في الأوسط، وابن مردويه وابن عساكر عن مرة البهزي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الربوة الرملة» وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم، والحاكم في الكنى، وابن عساكر عن أبي هريرة قال: «هي الرملة من فلسطين».
وأخرجه ابن مردويه من حديثه مرفوعًا.
وأخرج الطبراني وابن السكن وابن منده وأبو نعيم وابن عساكر عن الأقرع بن شفي العكي مرفوعًا نحوه.
وأخرج أحمد ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يا أيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صالحا إِنّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}. وقال: {يا أيها الذين ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رزقناكم} [البقرة: 172] ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، يمدّ يديه إلى السماء: يا ربّ يا ربّ، فأنى يستجاب لذلك».
وأخرج سعيد بن منصور عن حفص الفزاري في قوله: {يا أيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات} قال: ذلك عيسى بن مريم يأكل من غزل أمه.
وأخرجه عبدان في الصحابة عن حفص مرفوعًا، وهو مرسل؛ لأن حفصًا تابعي. اهـ.

.قال سيد قطب في الآيات السابقة:

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23)}.
ينتقل في هذا الدرس من دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق، إلى حقيقة الإيمان التي جاء بها الرسل جميعًا؛ ويبين كيف كان استقبال الناس لهذه الحقيقة الواحدة التي لا تتبدل على مدار الزمان، وتعدد الرسالات، وتتابع الرسل، من لدن نوح عليه السلام فإذا نحن نشهد موكب الرسل، أو امة الرسل، وهم يلقون إلى البشرية بالكلمة الواحدة، ذات المدلول الواحد، والاتجاه الواحد، حتى ليوحد ترجمتها في العربية وقد قيلت بشتى اللغات التي أرسل بها الرسل إلى أقوامهم فإذا الكلمة التي قالها نوح عليه السلام هي ذاتها بنصها يقولها كل من جاء بعده من المرسلين، فتجيب البشرية جوابًا واحدًا، تكاد الفاظه تتحد على مر القرون!
{ولقد أرسلنا نوحًا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين}..
{يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}.. كلمة الحق التي لا تتبدل، يقوم عليها الوجود، ويشهد بها كل ما في الوجود {أفلا تتقون} وتخافون عاقبة الإنكار للحقيقة الأولى التي تقوم عليها الحقائق جميعًا؟ وتستشعرون ما في إنكارها من تجن على الحق الباهر، وما يعقب التجني من استحقاق للعذاب الأليم؟
ولكن كبراء قومه من الكفار لا يناقشون هذه الكلمة؛ ولا يتدبرون شواهدها، ولا يستطيعون التخلص من النظرة الضيقة المتعلقة بأشخاصهم وبشخص الرجل الذي يدعوهم، ولا يرتفعون إلى الأفق الطليق الذي ينظرون منه إلى تلك الحقيقة الضخمة مجردة عن الأشخاص والذوات.. فإذا هم يتركون الحقيقة الكبرى التي يقوم عليها الوجود، ويشهد به كل ما في الوجود، ليتحدثوا عن شخص نوح: {فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم}!
من هذه الزاوية الضيقة الصغيرة نظر القوم إلى تلك الدعوة الكبيرة، فما كانوا إذن ليدركوا طبيعتها ولا ليروا حقيقتها؛ وذواتهم الصغيرة الضئيلة تحجب عنهم جوهرها، وتعمي عليهم عنصرها، وتقف حائلًا بين قلوبهم وبينها؛ فإذا القضية كلها في نظرهم قضية رجل منهم لا يفترق في شيء عنهم، يريد أن يتفضل عليهم، وأن يجعل لنفسه منزلة فوق منزلتهم!
وهم في اندفاعهم الصغير لرد نوح عن المنزلة التي يتوهمون انه يعمل لها، ويتوسل إليها بدعوى الرسالة.. في اندفاعهم هذا الصغير لا يردون فضل نوح وحده، بل يردون فضل الإنسانية التي هم منها؛ ويرفضون تكريم الله لهذا الجنس؛ ويستكثرون أن يرسل الله رسولًا من البشر، إن يكن لابد مرسلًا: {ولو شاء الله لأنزل ملائكة}.
ذلك أنهم لا يجدون في أرواحهم تلك النفحة العلوية التي تصل البشر بالملأ الأعلى؛ وتجعل المختارين من البشرية يتلقون ذلك الفيض العلوي ويطيقونه، ويحملونه إلى إخوانهم من البشر، فيهدونهم إلى مصدره الوضيء.
وهم يحيلون الأمر إلى السوابق المألوفة لا إلى العقل المتدبر: {ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين}..
ومثل هذا يقع دائمًا عندما يطمس التقليد على حركة الفكر وحرية القلب. فلا يتدبر الناس ما هو بين أيديهم من القضايا، ليهتدوا على ضوء الواقع إلى حكم مباشر عليها. إنما هم يبحثون في ركام الماضي عن سابقة يستندون إليها؛ فإن لم يجدوا هذه السابقة رفضوا القضية وطرحوها!
وعند هذه الجماعات الجاحدة الخامدة أن ما كان مرة يمكن ان يكون ثانية. فأما الذي لم يكن فإنه لا يمكن أن يكون! وهكذا تجمد الحياة، وتقف حركتها، وتتسمر خطاها، عند جيل معين من {آبائنا الأولين}!
ويا ليتهم يدركون أنهم جامدون متحجرون، إنما هم يتهمون دعاة التحرر والانطلاق بالجنون. وهم يدعونهم إلى التدبر والتفكر، والتخلية بين قلوبهم ودلائل الإيمان الناطقة في الوجود. فإذا هم يتلقون هذه الدعوة بالتبجح والاتهام: {إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين}..
أي إلى أن يأخذه الموت، ويريحكم منه، ومن دعوته، ومن إلحاحه عليكم بالقول الجديد!
عندئذ لم يجد نوح عليه السلام منفذًا إلى تلك القلوب الجامدة المتحجرة؛ ولم يجد له موئلًا من السخرية والأذى، إلا أن يتوجه إلى ربه وحده، يشكو إليه ما لقيه من تكذيب ويطلب منه النصر بسبب هذا التكذيب: {قال رب انصرني بما كذبون}..
وعندما يتجمد الأحياء على هذا النحو، وتهم الحياة بالحركة إلى الأمام، في طريق الكمال المرسوم، فتجدهم عقبة في الطريق.. عندئذ إما إن تتحطم هذه المتحجرات؛ وإما أن تدعها الحياة في مكانها وتمضي.. والأمر الأول هو الذي حدث لقوم نوح. ذلك أنهم كانوا في فجر البشرية وفي أول الطريق؛ فشاءت إرادة الله أن تطيح بهم من الطريق: {فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون}..
وهكذا مضت سنة الله في تطهير الطريق من العقبات المتحجرة لتمضي الحياة في طريقها المرسوم. ولما كانت البشرية قد أسنت على عهد نوح، وجمدت كالشجرة الناشئة تعوقها الآفة عن النمو فتيبس وتعجز وهي رقيقة العود.. كان العلاج هو الطوفان، الذي يجتبُّ كل شيء، ويجرف كل شيء.
ويغسل التربة، لتعاد بذرة الحياة السليمة من جديد، فتنشأ على نظافة، فتمتد وتكبر حتى حين: {فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا}.. والفلك وسيلة للنجاة من الطوفان، ولحفظ بذور الحياة السليمة كما يعاد بذرها من جديد. وقد شاء الله أن يصنع نوح الفلك بيده، لأنه لابد للإنسان من الأخذ بالأسباب والوسائل، وبذل آخر ما في طوقه، ليستحق المدد من ربه. فالمدد لا يأتي للقاعدين المستريحين المسترخين، الذين ينتظرون ولا يزيدون شيئًا على الانتظار! ونوح قدر الله له أن يكون أبا البشر الثاني؛ فدفع به إلى الأخذ بالأسباب؛ مع رعاية الله له، وتعليمه صناعه الفلك، ليتم أمر الله، وتتحقق مشيئته عن هذا الطريق.
وجعل الله له علامة للبدء بعملية التطهير الشاملة لوجه الأرض المؤوف: {فإذا جاء أمرنا وفار التنور} وانبجس منه الماء، فتلك هي العلامة ليسارع نوح، فيحمل في السفينة بذور الحياة: {فاسلك فيها من كل زوجين اثنين}.. من أنواع الحيوان والطيور والنبات المعروفة لنوح في ذلك الزمان، الميسرة كذلك لبني الإنسان {وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم} وهم الذين كفروا وكذبوا، فاستحقوا كلمة الله السابقة، وسنته النافذة، وهي الهلاك للمكذبين بآيات الله.
وصدر الأمر الأخير لنوح ألا يجادل في أمر أحد، ولا يحاول إنقاذ أحد ولو كان أقرب الأقربين إليه ممن سبق عليهم القول.
{ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون}.
فسنة الله لا تحابي، ولا تنحرف عن طريقها الواحد المستقيم، من أجل خاطر ولي ولا قريب!
ولا يفصل هنا ما حدث للقوم بعد هذا الأمر. فقد قضي الأمر، وتقرر: {إنهم مغرقون} ولكنه يمضي في تعليم نوح عليه السلام كيف يشكر نعمة ربه، وكيف يحمد فضله، وكيف يستهديه طريقه: {فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين وقل رب أنزلني منزلًا مباركًا وأنت خير المنزلين}..