فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57)}.
لما فرغ من ذكر الكفرة وتوعدهم عقب ذلك بذكر المؤمنين ووعدهم وذكرهم بأبلغ صفاتهم والإشفاق أبلغ التوقع والخوف ومنهم من حمل الخشية على العذاب والمعنى والذين هم من عذاب رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ وهو قول الكلبي ومقاتل و{مّنْ خَشْيَةِ} متعلق بـ {مشفقون} قاله الحوفي وقال ابن عطية و{مِنْ} في {مّنْ خَشْيَةِ} هي لبيان جنس الإشفاق والإشفاق إنما هو من عذاب الله والآيات تعم القرآن والعبر والمصنوعات التي لله وغير ذلك مما فيه نظر وفي كل شيء له آية.
ثم ذكر نفي الإشراك وهو عبادتهم آلهتهم التي هي الأصنام إذ لكفار قريش أن تقول نحن نؤمن بآيات ربنا ونصدق بأنه المخترع الخالق وقيل ليس المراد منه الإيمان بالتوحيد ونفي الشرك لله لأن ذلك داخل في قوله: {وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ} المراد نفي الشرك للحق وهو أن يخلصوا في العبادة لا يقدم عليها إلا لوجه الله وطلب رضوانه وقرأ الجمهور {يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ} أي يعطون ما أعطوا من الزكاة والصدقات {وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أي خائفة أن لا يقبل منهم لتقصيرهم أنهم أي وجلة لأجل رجوعهم إلى الله أي خائفة لأجل ما يتوقعون من لقاء الجزاء قال ابن عباس وابن جبير هو عام في جميع أعمال البر كأنه قال والذين يفعلون من أنفسهم في طاعة الله ما بلغه جهدهم وقرأت عائشة وابن عباس وقتادة والأعمش والحسن والنخعي {يأتون ما أتوا} من الإتيان أي يفعلون ما فعلوا قالت عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يزني ويسرق ويشرب الخمر وهو على ذلك يخاف الله قال لا يا ابنة الصديق ولكنه هو الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو على ذلك يخاف الله أن لا يقبل قيل وجل العارف من طاعته أكثر من مخالفته لأن المخالفة تمحوها التوبة والطاعة تطلب التصحيح وقال الحسن المؤمن يجمع إحسانًا وشفقة والمنافق يجمع إساءة وأمنًا وقرأ الأعمش {أَنَّهُمْ} بالكسر وقال أبو عبد الله الرازي ترتيب هذه الصفات في نهاية الحسن لأن الأولى دلت على حصول الخوف الشديد الموجب للاحتراز والثانية على تحصيل الإيمان بالله والثالثة على ترك الرياء في الطاعة والرابعة على أن المستجمع لهذه الصفات الثلاثة يأتي بالطاعات مع خوف من التقصير وهو نهاية مقامات الصديقين انتهى.
{أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ} جملة في موضع خبر أن قال ابن زيد {الخَيْرَاتِ} المخافتة والإيمان والكف عن الشرك قال الزمخشري {يُسَارِعُونَ في الْخَيْراتِ} يحتمل معنيين أحدهما أن يراد يرغبون في الطاعات أشد الرغبة فيبادرونها والثاني أنهم يتعجلون في الدنيا المنافع ووجوه الإكرام كما قال: {فَاتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الاْخِرَةِ} {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا في ذُرّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} لأنهم إذا سورع بها لهم فقد سارعوا في نيلها وتعجلوها وهذا الوجه أحسن طباقًا للآية المتقدمة لأن فيه إثبات ما نفي عن الكفار للمؤمنين انتهى وقرأ الحر النحوي {يسرعون} مضارع أسرع يقال أسرعت إلى الشيء وسرعت إليه بمعنى واحد وأما المسارعة فالمسابقة أي يسارعون غيرهم قال الزجاج {يُسَارِعُونَ} أبلغ من يسرعون انتهى وجهة المبالغة أن المفاعلة تكون من اثنين فتقتضي حث النفس على السبق لأن من عارضك في شيء تشتهي أن تغلبه فيه. {وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} الظاهر أن الضمير في لَهَا عائد على {الخَيْرَاتِ} أي سابقون إليها تقول سبقت لكذا وسبقت إلى كذا ومفعول {سَابِقُونَ} محذوف أي سابقون الناس وتكون الجملة تأكيدًا للتي قبلها مفيدة تجدد الفعل بقوله: {يُسَارِعُونَ} وثبوته بقوله: {سَابِقُونَ} وقيل اللام للتعليل أي لأجلها سابقون الناس إلى رضا الله وقال الزمخشري {لَهَا سَابِقُونَ} أي فاعلون السبق لأجلها أو سابقون الناس لأجلها انتهى وهذان القولان عندي واحد قال أيضًا أو إياها سابقون أي ينالوها قبل الآخرة حيث عجلت لهم في الدنيا انتهى ولا يدل لفظ {لَهَا سَابِقُونَ} على هذا التفسير لأن سبق الشيء الشيء يدل على تقدم السابق على المسبوق فكيف يقال لهم وهم يسبقون الخيرات هذا لا يصح وقال أيضًا ويجوز أن كون {لَهَا سَابِقُونَ} خبرًا بعد خبر ومعنى وهم لها كمعنى قوله أنت لها انتهى وهذا مروي عن ابن عباس قال المعنى سبقت لهم السعادة في الأزل فهم لها ورجحه الطبري بأن اللام متمكنة في المعنى انتهى والظاهر القول الأول وباقيها متعسف وتحميل للفظ غير ظاهره وقيل الضمير في لَهَا عائد على لجنة وقيل على الأمم. اهـ.

.قال أبو السعود:

{إِنَّ الذين هُم مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ} استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ مَن له المسارعةُ في الخيرات إثرَ إقناطِ الكُفَّار عنها وإبطالِ حسبانهم الكاذبِ أي من خوفِ عذابهِ حذرون.
{والذين هُم بئايات رَبَّهِمْ} المنصوبة والمنزلةِ {يُؤْمِنُونَ} بتصديقِ مدلولِها {والذين هُم بِرَبّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ} شِرْكًا جليًّا ولا خفيًّا، ولذلك أُخِّر عن الإيمانِ بالآياتِ، والتَّعرضُ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ في المواقع الثَّلاثةِ للإشعارِ بعلِّيتها للإشفاقِ والإيمانِ وعدمِ الإشراكِ.
{والذين يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ} أي يُعطون ما أعطوه من الصَّدقاتِ. وقرئ يأتون ما أتوا أي يفعلون ما فعلُوه من الطَّاعاتِ وأيًّا ما كان فصيغةُ الماضي في الصِّلة الثَّانيةِ للدِّلالة على التَّحقُّق كما أنَّ صيغة المضارعِ في الأُولى للدِّلالة عن الاستمرار {وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} حالٌ من فاعلِ يُؤتون أو يأتون أي يُؤتون ما آتوه أو يفعلون من العباداتِ ما فعلُوه والحالُ أنَّ قلوبهم خائفةٌ أشدَّ الخوفِ {أَنَّهُمْ إلى رَبّهِمْ راجعون} أي من أنَّ رجوعهم إليهِ عز وجلَّ على أنَّ مناطَ الوَجَلِ ألاَّ يُقبلَ منهم ذلك وألاَّ يقعَ على الوجهِ اللاَّئقِ فيُؤاخذُوا به حينئذٍ لا مجرَّدُ رجوعهم إليه تعالى وقيل لأنَّ مرجعَهم إليه تعالى. والموصولاتُ الأربعةُ عبارةٌ عن طائفةٍ واحدةٍ متَّصفةٍ بما ذُكر في حيِّزِ صِلاتِها من الأوصافِ الأربعةِ لا عن طوائفَ كلُّ واحدةٍ منها متَّصفةٌ بواحدٍ من الأوصافِ المذكورةِ، كأنَّه قيلَ {إِنَّ الذين هُم مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ والذين هُم بئايات يُؤْمِنُونَ} إلخ وإنَّما كُرِّر الموصولُ إيذانًا باستقلالِ كلِّ واحدةٍ من تلكَ الصِّفاتِ بفضيلةٍ باهرةٍ على حيالِها، وتنزيلًا لاستقلالها منزلة استقلالِ الموصوفِ بها.
{أولئك} إشارةٌ إليهم باعتبارِ اتِّصافهم بها. وما فيهِ من مَعْنى البُعدِ للإشعارِ ببُعدِ رُتبتِهم في الفضلِ أي أولئكَ المنعُوتون بما فصل من النُّعوتِ الجليلةِ خاصَّةً دُونَ غيرِهم {يسارعون في الخيرات} أي في نيلِ الخيراتِ التي من جُملتها الخيراتُ العاجلةُ الموعودةُ على الأعمالِ الصَّالحةِ كما في قوله تعالى: {فاتاهم الله ثَوَابَ الدنيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة} وقوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا في ذُرّيَّتِهِ النبوة والكتاب} فقد أثبتَ لهم ما نُفيَ عن أضدادِهم خلا أنَّه غيَّر الأسلوبَ حيثُ لم يقُلْ أولئكَ نُسارع لهم في الخيراتِ بل أسندَ المسارعة إليهم إيماءً إلى كمالِ استحقاقهم لنيل الخيرات بمحاسنِ أعمالهِم. وإيثارُ كلمةِ في على كلمةِ إلى للإيذان بأنَّهم متقلِّبون في فُنون الخيراتِ لا أنَّهم خارجُون عنها متوجِّهون إليها بطريق المُسارعة كما في قوله تعالى: {وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ} الآية {وَهُمْ لَهَا سابقون} أي إيَّاها سابقون واللاَّمُ لتقويةِ العملِ كما في قوله تعالى: {هُمْ لَهَا عاملون} أي ينالونَها قبل الآخرةِ حيثُ عُجِّلتْ لهم في الدُّنيا وقيل المرادُ بالخيراتِ الطَّاعاتُ. والمعنى يرغبون في الطَّاعاتِ والعباداتِ أشدَّ الرَّغبةِ وهم لأجلها فاعلون السَّبقَ أو لأجلِها سابقون النَّاسَ والأوَّلُ هو الأولى. اهـ.

.قال الألوسي:

{إِنَّ الذين هُم مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ}.
الكلام فيه نظير ما مر في نظيره في سورة الأنبياء بيد أن في استمرار الإشفاق هنا في الدنيا والآخرة للمؤمنين ترددًا.
{وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58)} أي يصدقون، والمراد التصديق بمدلولها إذ لا مدح في التصديق بوجودها، والتعبير بالمضارع دون الاسم للإشارة إلى أنه كلما وقفوا على آية آمنوا بها وصدقوا بمدلولها.
{والذين هُم بِرَبّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ} فيخلصون العبادة له عز وجل فالمراد نفي الشرك الخفي كالرياء بالعبادة كذا قيل، وقد اختار بعض المحققين التعميم أي لا يشركون به تعالى شركًا جليًا ولا خفيًا ولعله الأولى، ولا يغني عن ذلك وصفهم بالإيمان بآيات الله تعالى.
وجوز أن يراد مما سبق وصفهم بتوحيد الربوبية ومما هنا وصفهم بتوحيد الألوهية، ولم يقتصر على الأول لأن أكثر الكفار متصفون بتوحيد الربوبية {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} [لقمان: 25] ولا يأباه التعرض لعنوان الربوبية فإنه في المواضع الثلاثة للإشعار بالعلية وذلك العنوان يصلح لأن يكون علة لتوحيد الألوهية كما لا يخفى.