فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{والذين يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ} أي يعطون ما أعطوا من الصدقات {وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} خائفة من أن لا يقبل منهم وأن لا يقع على الوجه اللائق فيؤاخذوا به.
وقرأت عائشة، وابن عباس، وقتادة، والأعمش، والحسن والنخعي {يَأْتُونَ مَا ءاتَواْ} من الإتيان لا الإيتاء فيهما، وأخرج ابن مردويه، وسعيد بن منصور عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قرأ كذلك وأطلق عليها المفسرون قراءة رسول الله عليه الصلاة والسلام يعنون أن المحدثين نقلوها عنه صلى الله عليه وسلم ولم يروها القراء من طرقهم.
والمعنى عليها يفعلون من العبادات ما فعلوه وقلوبهم وجلة، وروي نحو هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد أخرج أحمد، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم وصححه، وابن المنذر، وابن جرير، وجماعة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قلت يا رسول الله قول الله {والذين يَأْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أهو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو مع ذلك يخاف الله تعالى؟ قال: «لا ولكنه الرجل يصوم ويتصدق ويصلي وهو مع ذلك يخاف الله تعالى أن لا يتقبل منه». وجملة {قُلُوبِهِمْ وَجِلَةٌ} في القراءتين في موضع الحال من ضمير الجمع في الصلة الأولى، والتعبير بالمضارع فيها للدلالة على الاستمرار وفي الثانية للدلالة على التحقق، وقوله تعالى: {أَنَّهُمْ إلى رَبّهِمْ راجعون} بتقدير اللام التعليلية وهي متعلقة بوجلة أي خائفة من عدم القبول وعدم الوقوع على الوجه اللائق لأنهم راجعون إليه تعالى ومبعوثون يوم القيامة وحينئذٍ تنكشف الحقائق ويحتاج العبد إلى عمل مقبول لائق {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 8].
وجوز أن يكون بتقدير من الابتدائية التي يتعدى بها الوجل أي وجلة من أن رجوعهم إليه عز وجل على أن مناط الوجل أن لا يقبل ذلك منهم وأن لا يقع على الوجه اللائق فيؤاخذوا به حينئذٍ لا مجرد رجوعهم إليه عز وجل، وقد يؤيد الوجه الأول بقراءة الأعمش {أَنَّهُمْ} بكسر الهمزة، ولعل التعبير بالجملة الإسمية المخبر فيها بالوصف دون الفعل المضارع للمبالغة في تحقق الرجوع حتى كأنه من الأمور الثابتة المستمرة كذا قيل.
وجوز على بعد أن يكون المراد من الرجوع المذكور الرجوع إليه عز وجل بالعبودية، فوجه التعبير بالجملة الاسمية عليه أظهر من أن يخفى، ووجه تعليل الخوف من عدم القبول وعدم وقوع فعلهم كائنًا ما كان على الوجه اللائق بأنهم راجعون إليه تعالى بالعبودية عدم وجوب قبول عملهم عليه تعالى حينئذٍ لأنه سبحانه مالك وللمالك أن يفعل بملكه ما يشاء وظهور نقصهم كيف كانوا عن كماله جل جلاله والناقص مظنة أن لا يأتي بما يليق بالكامل لا سيما إذا كان ذلك الكامل هو الله عز وجل الذي لا يتناهى كماله ولا أراك ترى في هذا الوجه كلفًا سوى كلف البعد فتأمل، ثم إن الموصولات الأربع على ما قاله شيخ الإسلام وغيره عبارة عن طائفة واحدة متصفة بما ذكر في حيز صلاتها من الأوصاف الأربعة لا عن طوائف كل واحدة منها متصفة بواحد من الأوصاف المذكورة كأنه قيل: إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون وبآيات ربهم يؤمنون الخ، وإنما كرر الموصول إيذانًا باستقلال كل واحدة من تلك الصفات بفضيلة باهرة على حيالها وتنزيلًا لاستقلالها منزلة استقلال الموصوف بها، وهذا جار على كلتا القراءتين في قوله تعالى: {والذين يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ} وللعلامة الطيبي في هذا المقام كلام لا أظنك تستطيبه كيف وفيه القول بأن الذين هم بربهم لا يشركون والذين يأتون ما أتوا وقلوبهم وجلة هم العاصون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهو في غاية البعد.
وقد ذكر الإمام أن الصفة الرابعة نهاية مقامات الصديقين.
{أولئك} إشارة إلى من ذكر باعتبار اتصافهم بتلك الصفات، وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد رتبتهم في الفضل وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: {يسارعون في الخيرات} والجملة من المبتدأ وخبره خبر إن، والكلام استئناف مسوق لبيان من له المسارعة في الخيرات إثر إقناط الكفار عنها وإبطال حسبانهم الكاذب أي أولئك المنعوتون بما فصل من النعوت الجليلة خاصة دون أولئك الكفرة يسارعون في نيل الخيرات التي من جملتها الخيرات العاجلة الموعودة على الأعمال الصالحة كما في قوله تعالى: {فاتاهم الله ثَوَابَ الدنيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة} [آل عمران: 148] وقوله سبحانه: {وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا في ذُرّيَّتِهِ النبوة والكتاب} [العنكبوت: 27] فقد أثبت لهم ما نفي عن أضدادهم خلا أنه غير الأسلوب حيث لم يقل أولئك يسارع لهم في الخيرات بل أسند المسارعة إليهم إيماءً إلى استحقاقهم لنيل الخيرات بمحاسن أعمالهم، وإيثار كلمة في على كلمة إلى للإيذان بأنهم متقلبون في فنون الخيرات لا أنهم خارجون عنها متوجهون إليها بطريق المسارعة كما في قوله تعالى: {وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ} [آل عمران: 133] الآية {وَهُمْ لَهَا} أي للخيرات التي من جملتها ما سمعت، والجار والمجرور متعلق بـ قوله تعالى: {سابقون} وهو إما منزل منزلة اللازم أي فاعلون السبق أو مفعوله محذوف أي سابقون الناس أو الكفار، وهو يتعدى باللام وبإلى فيقال: سبقت إلى كذا ولكذا، والمراد بسبقهم إلى الخيرات ظفرهم بها ونيلهم إياها.
وجعل أبو حيان هذه الجملة تأكيدًا للجملة الأولى، وقيل سابقون متعد للضمير بنفسه واللام مزيدة، وحسن زيادتها كون العامل فرعيًا وتقدم المعمول المضمر أي وهم سابقون إياها، والمراد بسبقهم إياها لازم معناه أيضًا وهو النيل أي وهم ينالونها قبل الآخرة حيث عجلت لهم في الدنيا فلا يد ما قيل: إن سبق الشيء الشيء يدل على تقدم السابق على المسبوق فكيف يقال: هم يسبقون الخيرات والاحتياج إلى إرادة اللازم على هذا الوجه أشد منه على الوجه السابق ولهذا مع التزام الزيادة فيه قيل إنه وجه متكلف.
وجوز أن يكون المراد بالخيرات الطاعات وضمير {لَهَا} لها أيضًا واللام للتعليل وهو متعلق بـ ما بعده، والمعنى يرغبون في الطاعات والعبادات أشد الرغبة وهم لأجلها فاعلون السبق أو لأجلها سابقون الناس إلى الثوب أو إلى الجنة، وجوز على تقدير أن يراد بالخيرات الطاعات أن يكون {لَهَا} خبر المبتدأ و{سابقون} خبرًا بعد خبر، ومعنى {هُمْ لَهَا} أنهم معدون لفعل مثلها من الأمور العظيمة، وهذا كقولك: لمن يطلب منه حاجة لا ترجى من غيره: أنت لها وهو من بليغ كلامهم، وعلى ذلك قوله:
مشكلات أعضلت ودهت ** يا رسول الله أنت لها

ورجح هذا الوجه الطبري بأن اللام متمكنة في هذا المعنى.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما هو ظاهر في جعل {لَهَا} خبرًا وإن لم يكن ظاهرًا في جعل الضمير للخيرات بمعنى الطاعات، ففي البحر نقلًا عنه أن المعنى سبقت لهم السعادة في الأزل فهم لها، وأنت تعلم أن أكثر هذه الأوجه خلاف الظاهر وأن التفسير الأول للخيرات أحسن طباقًا للآية المتقدمة.
ومن الناس من زعم أن ضمير {لَهَا} للجنة.
ومنهم من زعم أنه للأمم وهو كما ترى.
وقرأ الحر النحوي {يسارعون} مضارع أسرع يقال: أسرعت إلى الشيء وسرعت إليه بمعنى واحد و{يسارعون} كما قال الزجاج أبلغ من يسرعون، ووجه بأن المفاعلة تكون من اثنين فتقتضي حث النفس على السبق لأن من عارضك في شيء تشتهي أن تغلبه فيه. اهـ.

.قال القاسمي:

{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ}.
أي: من خوف عذابه حذرون: {وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} أي: شركًا جليًّا، ولا خفيًّا: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا} أي: يعطون ما أعطوه من الصدقات: {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أي: خائفة: {أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} أي: من رجوعهم إليه تعالى، فتخشى أن تحاسب على ما قصرت من الحقوق، أو غفلت عنه من الآداب: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} أي: في نيل الخيرات التي من جملتها الخيرات العاجلة الموعودة على الأعمال الصالحة. كما في قوله تعالى: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ} [آل عِمْرَان: 148]، وقوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [العنكبوت: 27]، فقد أثبت لهم ما نفى عن اضدادهم، خلا أنه غيّر الأسلوب، حيث لم يقل: {أَولَئِكَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ} بل أسند المسارعة إليهم، إيماء إلى كمال استحقاقهم لنيل الخيرات بمحاسن أعمالهم. وإيثار كلمة في على كلمة إلى للإيذان بأنهم متقلبون في فنون الخيرات. لا أنهم خارجون عنها، متوجهون إليها، بطريق المسارعة كما في قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} [آل عِمْرَان: 133] أفاده أبو السعود.
{وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} أي: إياها سابقون. أي: ينالونها قبل الآخرة، حيث عجلت لهم في الدنيا، فتكون اللام لتقوية العمل. كما في قوله تعالى: {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [63]، وقيل: المراد: {بالْخَيْرَاتِ} الطاعات. والمعنى: يرغبون في الطاعات والعبادات أشد الرغبة. وهم لأجلها فاعلون السبق، أو لأجلها سابقون الناس، والله أعلم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57)}.
هذا الكلام مقابل ما تضمنته الغمرة من قوله: {فذرهم في غمرتهم} [المؤمنون: 54] من الإعراض عن عبادة الله وعن التصديق بآياته، ومن إشراكهم آلهة مع الله، ومن شحهم عن الضعفاء وإنفاق مالهم في اللذات، ومن تكذيبهم بالبعث.
كل ذلك مما شملته الغمرة فجيء في مقابلها بذكر أحوال المؤمنين ثناء عليهم، ألا ترى إلى قوله بعد هذا {بل قلوبهم في غمرة من هذا} [المؤمنون: 63].
فكانت هذه الجملة كالتفصيل لإجمال الغمرة مع إفادة المقابلة بأحوال المؤمنين.
واختير أن يكون التفصيل بذكر المقابل لحسن تلك الصفات وقبح أضدادها تنزيها للذكر عن تعداد رذائلهم، فحصل بهذا إيجاز بديع، وطباق من ألطف البديع، وصون للفصاحة من كراهة الوصف الشنيع.
وافتتاح الجملة بـ {إن} للاهتمام بالخبر، والإتيان بالموصولات للإيماء إلى وجه بناء الخبر وهو أنهم يسارعون في الخيرات ويسابقون إليها وتكرير أسماء الموصولات للاهتمام بكل صلة من صلاتها فلا تذكر تبعًا بالعطف.
والمقصود الفريق الذين اتصفوا بصلة من هذه الصلات.
و من في قوله: {من خشية ربهم} للتعليل.
والإشفاق: توقع المكروه وتقدم عند قوله تعالى: {وهم من خشيته مشفقون} في سورة الأنبياء (28).
وقد حذف المتوقع منه لظهور أنه هو الذي كان الإشفاق بسبب خشيته، أي يتوقعون غضبه وعقابه.
والمراد بالآيات الدلائل التي تضمنها القرآن ومنها إعجاز القرآن.
والمعنى: أنهم لخشية ربهم يخافون عقابه، فحذف متعلق {مشفقون} لدلالة السياق عليه.
وتقديم المجرورات الثلاثة على عواملها للرعاية على الفواصل مع الاهتمام بمضمونها.
ومعنى: {يؤتون ما آتوا} يُعطون الأموال صدقات وصلات ونفقات في سبيل الله.
قال تعالى: {وآتى المال على حبه ذوي القربى} [البقرة: 177] الآية وقال: {وويل للمشركين الذين لا يُؤتُون الزكاة} [فصلت: 6، 7].
واستعمال الإيتاء في إعطاء المال شائع في القرآن متعين أنه المراد هنا.
وإنما عُبر بـ {ما آتوا} دون الصدقات أو الأموال ليعم كل أصناف العطاء المطلوب شرعًا وليعم القليل والكثير، فلعل بعض المؤمنين ليس له من المال ما تجب فيه الزكاة وهو يعطي مما يكسب.
وجملة {وقلوبهم وجلة} في موضع الحال وحق الحال إذا جاءت بعد جمل متعاطفة أن تعود إلى جميع الجمل التي قبلها، أي يفعلون ما ذكر من الأعمال الصالحة بقلوبهم وجوارحهم وهم مضمرون وجَلًا وخوفًا من ربهم أن يرجعوا إليه فلا يجدونه راضيًا عنهم، أو لا يجدون ما يجده غيرهم ممن يفوتهم في الصالحات، فهم لذلك يسارعون في الخيرات ويكثرون منها ما استطاعوا وكذلك كان شأن المسلمين الأولين.
وفي الحديث: «أن أهل الصّفة قالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم. قال: أو ليس قد جعل الله لكم ما تصّدّقون به، إن لكم بكل تسبيحة صدقة وكل تحميدة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة».
وقال أبو مسعود الأنصاري: لما أمرنا بالصدقة كما نحامل فيصيب أحدنا المد فيتصدق به.
ومما يشير إلى معنى هذه الآية قوله تعالى: {ويطعمون الطعام على حبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورًا إنا نخاف من ربنا يومًا عبوسًا قمطريرًا} [الإنسان: 8 10] الآيات.
وخبر {إن} جملة {أولئك يسارعون في الخيرات}.
وافتتح باسم الإشارة لزيادة تمييزهم للسامعين لأن مثلهم أحرياء بأن يعرفوا.
وتقدم الكلام على معنى {يسارعون في الخيرات} آنفًا.
ومعنى {وهم لها سابقون} أنهم يتنافسون في الإكثار من أعمال الخير، فالسبق تمثيل للتنافس والتفاوت في الإكثار من الخيرات بحال السابق إلى الغاية، أو المعنى وهم محرزون لما حرصوا عليهم، فالسبق مجاز لإحراز المطلوب لأن الإحراز من لوازم السبق.
وعلى التقديرين فاللام بمعنى إلى.
وقد قيل إن فعل السبق يتعدى باللام كما يتعدى بـ إلى.
وتقديم المجرور للاهتمام ولرعاية الفاصلة. اهـ.