فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

قوله تعالى: {ولا نكلف نفسًا إلا وسعها}.
نسخ لجميع ما ورد في الشرع من تكليف ما لا يطاق على الحقيقة، وتكليف ما لا يطاق أربعة أقسام، ثلاثة حقيقة ورابع مجازي وهو الذي لا يطاق للاشتغال بغيره مثل الإيمان للكافر والطاعة للعاصي وهذا تكليف باق وهو تكليف أكثر الشريعة، وأما الثلاثة فورد الإثنان منها وفيها وقع النسخ المحال عقلًا في نازلة أبي لهب والمحال عادة في قوله تعالى: {إن تبدوا ما في أنفسكم} [البقرة: 284]، والثالث لم يرد فيه شيء وهو النوع المهلك لأن الله تعالى لم يكلفه عباده، فأما قتل القاتل ورجم الزاني فعقوبته بما فعل وقد مضى القول مستوعبًا موجزًا في مسألة تكليف ما لا يطاق في سورة البقرة وفي قولنا ناسخ نظر من جهة التواريخ، وما نزل بالمدينة وما نزل بمكة والله المعين، وقوله تعالى: {ولدينا كتاب} أظهر ما قيل فيه أنه أراد كتاب إحصاء الأعمال الذي ترفعه الملائكة، وفي الآية على هذا التأويل تهديد وتأنيس من الحيف والظلم، وقالت فرقة الإشارة بقوله: {ولدينا كتاب} إلى القرآن.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا يحتمل والأول أظهر، وقوله: {في غمرة} يريد في ضلال قد غمرها كما يفعل الماء الغمر بما حصل فيه، وقوله: {من هذا}، يحتمل أن يشير إلى القرآن، ويحتمل أن يشير إلى كتاب الإحصاء، ويحتمل أن يشير إلى الأَعمال الصالحة المذكورة قبل، أي هم في غمرة من اطراحها وتركها ويحتمل أن يشير إلى الدين بجملته أو إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وكل تأويل من هذه قالته فرقة، وقوله تعالى: {ولهم أعمال من دون ذلك} الإشارة بذلك إلى الغمرة والضلال المحيط فمعنى الآية بل هم ضالون معرضون عن الحق ولهم مع ذلك سعايات فساد فوسمهم تعالى بحالتي شر، قال هذا المعنى قتادة وأبو العالية، وعلى هذا التأويل فالإخبار عما سلف من أعمالهم وعماهم فيه، وقالت فرقة الإشارة بذلك إلى قوله: {من هذا} فكأنه قال: لهم أعمال من دون الحق، وقال الحسن بن أبي الحسن ومجاهد: إنما أخبر بقوله: {ولهم أعمال} عما يستأنف من أعمالهم أي أنهم لهم أعمال من الفساد يستعملونها، و{حتى} حرف ابتداء لا غير، و{إذا} والثانية التي هي جواب تمنعان من أن تكون {حتى} غاية ل {عاملون}، و المترف هو المنعم في الدنيا الذي هو منها في سرف وهذه حال شائعة في رؤساء الكفرة من كل أمة و{يجأرون} معناه يستغيثون بصياح كصياح البقر وكثر استعمال الجؤار في البشر ومنه قول الأعشى: المتقارب:
يراوح من صلوات المليك ** فطورًا سجودًا وطورًا جؤارا

وذهب مجاهد وغيره إلى أن هذا العذاب المذكور وهو الوعيد بيوم بدر وفيه نفذ على {مترفيهم} والضمير في قوله: {إذا هم} يحتمل أن يعود على المترفين فقط لأنهم صاحوا حين نزل بهم الهزم والقتل يوم بدر، ويحتمل أن يعود على الباقين بعد المعذبين وقد حكى ذلك الطبري عن ابن جريح قال: المعذبون قتلى بدر والذين {يجأرون} قتلى مكة لأنهم ناحوا واستغاثوا.
{لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65)}.
المعنى يقال لهم يوم العذاب وعند حلوله {لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون} وهذا القول يجوز أن يكون حقيقة، أي تقول ذلك لهم الملائكة ويحتمل أن يكون مجازًا أي لسان الحال يقول ذلك، وهذا على أن الذين يجأرون هم المعذبون، وأما على قول ابن جريح فلا يحتمل أن تقول ذلك الملائكة، وقوله: {قد كانت آياتي تتلى عليكم} يريد بها القرآن، و{تنكصون} معناه ترجعون وراءكم وهذه استعارة للإعراض والإدبار على الحق، وقرأ على بن أبي طالب على أدباركم تنكُصون بضم الكاف وبذكر الإدبار بدل أعقاب، و{مستكبرين} حال، والضمير في {به} قال الجمهور: هو عائد على الحرم والمسجد وإن لم يتقدم له ذكر لشهرته في الأمر، والمعنى أنكم تعتقدون في نفوسكم أن لكم بالمسجد والحرم أعظم الحقوق على الناس والمنازل عند الله فأنتم تستكبرون لذلك وليس الاستكبار من الحق، وقالت فرقة: الضمير عائد على القرآن من حيث ذكر الآيات والمعنى يحدث لكم سماع آياتي كبرًا وطغيانًا.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا قول جيد وذكر منذر بن سعيد أن الضمير لمحمد صلى الله عليه وسلم، وهو متعلق بـ ما بعده كأن الكلام ثم في قوله: {مستكبرين} ثم قال لمحمد صلى الله عليه وسلم، {سامرًا تهجرون}، وقوله: {سامرًا} حال وهو مفرد بمعنى الجمع يقال قوم سمر وسمر وسامر ومعناه سهر الليل مأخوذ من السمر وهو ما يقع على الأشخاص من ضوء القمر فكانت العرب تجلس للسمر تتحدث وهذا أوجب معرفتها بالنجوم لأنها تجلس في الصحراء فترى الطوالع من الغوارب، وقرأ الجمهور: {سامرًا} وقرأ أبو رجاء {سمارًا}، وقرأ ابن عباس وعكرمة وابن محيصن {سمرًا} ومن هذه اللفظة قول الشاعر: الكامل:
من دونهم إن جئتهم سمرًا ** عزف القيان ومجلس غمر

فكانت قريش سمر حول الكعبة مجالس في أباطيلها وكفرها، وقرأ الجمهور: {تَهجُرون} بفتح التاء وضم الجيم واختلف المتأولون في معناها فقال ابن عباس: معناها تهجرون الحق وذكر الله وتقطعونه من الهجر المعروف، وقال ابن زيد: من هجر المريض إذا هذى أي تقولون اللغو من القول وقاله أبو حاتم، وقرأ نافع وحده من السبعة {تهجِرون} بضم التاء وكسر الجيم وهي قراءة أهل المدينة وابن محيصن وابن عباس أيضًا ومعناه يقولون الفحش والهجر والعضاية من القول وهذه إشارة إلى سبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قاله ابن عباس أيضًا وغيره، وفي الحديث: «كنت نهيتكم عن زيادة القبور فزوروها ولا تقولوا هجرًا»، وقرأ ابن محيصن وابن أبي نهيك {تُهَجِّرون} بضم التاء وفتح الهاء وشد الجيم مكسورة وهو تضعيف هجر وتكثير الهجر والهجر على المعنيين المتقدمين، وقال ابن جني: لو قيل إن المعنى أنكم تبالغون في المهاجرة حتى أنكم وإن كنتم سمرًا بالليل فكأنكم تهجرون في الهاجرة على غاية الافتضاح لكان وجهًا.
قال القاضي أبو محمد: ولا تكون هذه القراءة تكثير {تُهجِّرون} بضم التاء، وكسر الجيم لأن أفعل لا يتعدى ولا يكثر بتضعيف إذ التضعيف والهمزة متعاقبان ثم وبخهم على إعراضهم بعد تدبر القول لأنهم بعد التدبر والنظر الفاسد، قال بعضهم شعر وبعضهم سحر وسائر ذلك. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {ولدينا كتاب}.
يعني: اللوح المحفوظ {يَنْطِقُ بالحقِّ} قد أُثبت فيه أعمال الخلق، فهو ينطق بما يعملون {وهم لا يُظْلَمون} أي: لا يُنْقَصون من ثواب أعمالهم.
ثم عاد إِلى الكفار، فقال: {بل قلوبهم في غمرة من هذا} قال مقاتل: في غفلة عن الإِيمان بالقرآن.
وقال ابن جرير: في عمىً عن هذا القرآن.
قال الزجاج: يجوز أن يكون إِشارة إِلى ما وصف من أعمال البِرِّ في قوله: {أولئك يسارعون في الخيرات}، فيكون المعنى: بل قلوب هؤلاء في عماية من هذا؛ ويجوز أن يكون إِشارة إِلى الكتاب، فيكون المعنى: بل قلوبهم في غمرة من الكتاب الذي ينطق بالحقّ وأعماُلهم مُحْصَاةٌ فيه.
فخرج في المشار إِليه ب {هذا} ثلاثة أقوال.
أحدها: القرآن.
والثاني: أعمال البِرِّ.
والثالث: اللوح المحفوظ.
قوله تعالى: {ولهم أعمالٌ مِنْ دون ذلك} فيه أربعة أقوال.
أحدها: أعمال سيِّئة دون الشِّرك، رواه عكرمة عن ابن عباس.
والثاني: خطايا من دون ذلك الحق، قاله مجاهد.
وقال ابن جرير: من دون أعمال المؤمنين وأهل التقوى والخشية.
والثالث: أعمالٌ غير الأعمال التي ذُكِروا بها سيعملونها، قاله الزجاج.
والرابع: أعمال- من قبل الحين الذي قدَّر الله تعالى أنه يعذِّبهم عند مجيئه- من المعاصي، قاله أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: {هم لها عاملون} إِخبار بما سيعملونه من أعمالهم الخبيثة التي كُتبت عليهم لابد لهم من عملها.
قوله تعالى: {حتى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفيهم} أي: أغنياءهم ورؤساءهم، والإِشارة إِلى قريش.
وفي المراد بالعذاب قولان:
أحدهما: ضرب السيوف يوم بدر، قاله ابن عباس، ومجاهد، والضحاك.
والثاني: الجوع الذي عُذِّبوا به سبع سنين، قاله ابن السائب.
و{يَجأرون} بمعنى: يصيحون.
{لا تَجأروا اليوم} أي: لا تستغيثوا من العذاب {إِنَّكم مِنَّا لا تُنْصَرون} أي: لا تُمْنَعون من عذابنا.
{قد كانت آياتي تُتْلَى عليكم} يعني: القرآن {فكنتم على أعقابكم تَنْكِصُونَ} أي: ترجعون وتتأخَّرون عن الإِيمان بها.
{مستكبِرين} منصوب على الحال.
وقوله: {به} الكناية عن البيت الحرام، وهي كناية عن غير مذكور؛ والمعنى: إِنكم تستكبرون وتفتخرون بالبيت والحرم، لأمنكم فيه مع خوف سائر الناس في مواطنهم.
تقولون: نحن أهل الحرم فلا نخاف أحدًا.
ونحن أهل بيت الله وَوُلاتُه، هذا مذهب ابن عباس وغيره.
قال الزجاج: ويجوز أن تكون الهاء في به للكتاب، فيكون المعنى: تُحدث لكم تلاوتُه عليكم استكبارًا.
قوله تعالى: {سامرًا} قال أبو عبيدة: معناه: تَهْجُرون سُمَّارًا، والسامر بمعنى السُّمَّار، بمنزلة طفل في موضع أطفال، وهو من سَمَر الليل.
وقال ابن قتيبة: سامرًا أي: متحدِّثين ليلًا، والسَّمَر: حديث الليل.
وقرأ أُبيّ بن كعب، وأبو العالية، وابن محيصن: سُمَّرًا بضم السين وتشديد الميم وفتحها، جمع سامر.
وقرأ ابن مسعود، وأبو رجاء، وعاصم الجحدري: سُمَّارًا برفع السين تشديد الميم وألف بعدها.
قوله تعالى: {تهجرون} قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: {تَهجُرون} بفتح التاء وضم الجيم.
وفي معناها أربعة أقوال:
أحدها: تهجرون ذِكْرَ الله والحقَّ، رواه العوفي عن ابن عباس.
والثاني: تهجرون كتاب الله تعالى ونبيَّه صلى الله عليه وسلم، قاله الحسن.
والثالث: تهجرون البيت، قاله أبو صالح.
وقال سعيد بن جبير: كانت قريش تَسْمُر حول البيت، وتفتخر به ولا تطوف به.
والرابع: تقولون هُجْرًا من القول، وهو اللغو والهَذَيان، قاله ابن قتيبة.
قال الفراء: يقال: قد هَجَر الرجل في منامه: إِذا هذى، والمعنى: إِنكم تقولون في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس فيه ومالا يَضُرُّه.
وقرأ ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة، وابن محيصن، ونافع: {تُهْجِرُون} بضم التاء وكسر الجيم.
قال ابن قتيبة: وهذا من الهُجْر، وهو السَّبُّ والإِفحاش من المنطق، يريد سبَّهم للنبي صلى الله عليه وسلم ومن اتَّبعه، وقرأ أبو العالية، وعكرمة، وعاصم الجحدري، وأبو نهيك: {تُهَجِّرُون} بتشديد الجيم ورفع التاء؛ قال ابن الأنباري: ومعناها معنى قراءة ابن عباس. اهـ.