فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}.
تذييل لما تقدم من أحوال الذين من خشية ربهم مشفقون.
لأنه لما ذكر ما اقتضى مخالفة المشركين لما أمروا به من توحيد الدين، وذكر بعده ما دل على تقوى المؤمنين بالخشية وصحة الإيمان والبذل ومسارعتهم في الخيرات، ذيل ذلك بأن الله ما طلب من الذين تقطعوا أمرهم إلا تكليفًا لا يشق عليهم، وبأن الله عذر من المؤمنين من لم يبلغوا مبلغ من يفوتهم في الأعمال عذرًا يقتضي اعتبار أجرهم على ما فاتهم إذا بذلوا غاية وسعهم.
قال تعالى: {ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله} [التوبة: 91].
فقوله: {ولا نكلف نفسًا إلا وسعها} خبر مراد منه لازمه وهو تسجيل التقصير على الذين تقطعوا أمرهم بينهم.
وقطع معذرتهم، وتيسير الاعتذار على الذين هم من خشية ربهم مشفقون كقوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر} [البقرة: 185] مع ما في ذلك من جبر الخواطر المنكسرة من أهل الإيمان الذين لم يلحقوا غيرهم لعجز أو خصاصة.
ولمراعاة هذا المعنى عطف قوله: {ولدينا كتاب ينطق بالحق} وهو معنى إحاطة العلم بأحوالهم ونواياهم.
فالكتاب هنا هو الأمر الذي فيه تسجيل الأعمال من حسنات وسيئات وإطلاق الكتاب عليه لإحاطته.
وفي قوله: {لدينا} دلالة على أن ذلك محفوظ لا يستطيع أحد تغييره بزيادة ولا نقصان.
والنطق مستعار للدلالة، ويجوز أن يكون نطق الكتاب حقيقة بأن تكون الحروف المكتوبة فيه ذات أصوات وقدرة الله لا تُحد.
وأما قوله: {وهم لا يظلمون} فالمناسب أن يكون مسوقًا لمؤاخذة المفرّطين والمعرضين فيكون الضمير عائدًا إلى ما عاد إليه ضمير {فتقطعوا أمرهم} [المؤمنون: 53] وأشباهه من الضمائر والاعتماد على قرينة السياق، وقوله: {بل قلوبهم في غمرة من هذا} [المؤمنون: 63] وما بعده من الضمائر. والظلم على هذا الوجه محمول على ظاهره وهو حرمان الحق والاعتداء.
ويجوز أن يكون الضمير عائدًا إلى عموم الأنفس في قوله: {ولا نكلف نفسًا إلا وسعها} فيكون قوله: {وهم لا يظلمون} من بقية التذييل، والظلم على هذا الوجه مستعمل في النقص من الحق كقوله تعالى: {كلتا الجنتين آتتْ أكلها ولم تظلم منه شيئًا} [الكهف: 33] فيكون وعيدًا لفريق ووعدًا لفريق.وهذا أليق الوجهين بالإعجاز.
{بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63)}.
إضراب انتقال إلى ما هو أغرب مما سبق وهو وصف غمرة أخرى انغمس فيها المشركون فهم في غمرة غمرت قلوبهم وأبعدتها عن أن تتخلق بخلق الذين هم من خشية ربهم مشفقون كيف وأعمالهم على الضد من أعمال المؤمنين تناسب كفرهم، فكل يعمل على شاكلته.
فحرف من في قوله: {من هذا} يوهم البدلية، أي في غمرة تباعدهم عن هذا.
والإشارة بـ {هذا} إلى ما ذكر آنفًا من صفات المؤمنين في قوله: {إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون} إلى قوله: {وهم لها سابقون} [المؤمنون: 57 61].
و{دون} تدل على المخالفة لأحوال المؤمنين، أي ليسوا أهلًا للتحلي بمثل تلك المكارم.
وقوله: {ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون} يبين هذا، أي وأعمالهم التي يعملونها غير ذلك.
ويذكرني هذا قول محمد بن بشير الخارجي في مدح عروة بن زيد الخيل:
يا أيها المتمني أن يكون فتى ** مثل ابن زيد لقد أخلى لك السبلا

أعدِدْ فضائل أخلاق عُدِدْنَ له ** هل سَبّ من أحد أو سُب أو بخلا

إن تنفق المال أو تكلَف مَسَاعيَه ** يشفقْ عليك وتفعل دون ما فعلا

ولام {لهم أعمال} للاختصاص.
وتقديم المجرور بها على المبدأ لقصر المسند إليه على المسند، أي لهم أعمال لا يعملون غيرها من أعمال الإيمان والخيرات.
ووُصف {أعمال} بجملة {هم لها عاملون} للدلالة على أنهم مستمرون عليها لا يقلعون عنها لأنهم ضروا بها لكثرة انغماسهم فيها.
وجيء بالجملة الاسمية لإفادة الدوام على تلك الأعمال وثباتهم عليها.
ويجوز أن يكون تقديم {لها} على {عاملون} لإفادة الاختصاص لقصر القلب، أي لا يعملون غيرها من الأعمال الصالحة التي دعوا إليها.
ويجوز أن يكون للرعاية على الفاصلة لأن القصر قد أفيد بتقديم المسند إليه.
{حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64)}.
{حتى} ابتدائية.
وقد تقدم ذكرها في سورة الأنبياء عند قوله تعالى: {حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج} [الأنبياء: 96].
و حتى الابتدائية. يكون ما بعدها ابتداء كلام، فليس الدال على الغاية لفظًا مفردًا كما هو الشأن مع حتى الجارة و حتى العاطفة، بل هي غاية يدل عليها المقام والأكثر أن تكون في معنى التفريع. وبهذه الغاية صار الكلام تهديدًا لهم بعذاب سيحل بهم يجأرون منه ولا ملجأ لهم منه.
والظاهر أنه عذاب في الدنيا بقرينة قوله: {ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجّوا في طغيانهم يعمهون} [المؤمنون: 75].
و{إذا} الأولى ظرفية فيها معنى الشرط فلذلك كان الأصل والغالب فيها أن تدل على ظرف مستقبل.
و{إذا} الثانية فجائية داخلة على جواب شرط إذا.
والمترَفون: المُعْطَون تَرَفًا وهو الرفاهية، أي المنعَّمون كقوله تعالى: {وذرني والمكذبين أولي النعمة} [المزمل: 11] فالمترفون منهم هم سادتهم وأكابرهم والضمير المضاف إليه عائد إلى جميع المشركين أصحاب الغمرة.
وإنما جعل الأخذ واقعًا على المترفين منهم لأنهم الذين أضلوا عامة قومهم ولولا نفوذ كلمتهم على قومهم لاتبعت الدهماء الحق لأن العامة أقرب إلى الإنصاف إذا فهموا الحق بسبب سلامتهم من جل دواعي المكابرة من توقع تقلص سؤدد وزوال نعيم.
وكذلك حقّ على قادة الأمم أن يؤاخذوا بالتبعات اللاحقة للعامة من جراء أخطائهم ومغامرتهم عن تضليل أو سوء تدبر، وأن يُسألوا عن الخيبة أن ألقوا بالذين اتبعوهم في مهواة الخطر كما قال تعالى: {وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنًا كبيرًا} [الأحزاب: 67، 68]، وقال: {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يُضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون} [النحل: 25].
وتخصيص المترَفين بالتعذيب مع أن شأن العذاب الإلهي إن كان دنيويًا أن يعم الناس كلهم إيماء إلى أن المترفين هم سبب نزول العذاب بالعامة، ولأن المترفين هم أشد إحساسًا بالعذاب لأنهم لم يعتادوا مس الضراء والآلام.
وقد علم مع ذلك أن العذاب يعم جميعهم من قوله: {إذا هم يجئرون} فإن الضميرين في {إذا هم} و{يجأرون} عائدان إلى ما عاد إليه ضمير {مترفيهم} بقرينة قوله: {قد كانت آياتي تتلى عليكم} إلى قوله: {سامرًا تهجرون} فإن ذلك كان من عمل جميعهم.
ويجوز أن يكون المراد بالمترفين جميع المشركين فتكون الإضافة بيانية ويكون ذكر المترفين تهويلًا في التهديد تذكيرًا لهم بأن العذاب يزيل عنهم ترفهم؛ فقد كان أهل مكة في ترف ودعة إذ كانوا سالمين من غارات الأقوام لأنهم أهل الحرم الآمن وكانوا تُجْبَى إليهم ثمرات كل شيء وكانوا مكرَّمين لدى جميع القبائل، قال الأخطل:
فأما الناس ما حاشا قريشًا ** فإنا نحن أفضلهم فعالا

وكانت أرزاقهم تأتيهم من كل مكان قال تعالى: {الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف} [قريش: 4]، فيكون المعنى: حتى إذا أخذناهم وهم في ترفهم، كقوله: {وذرني والمكَذِّبين أولي النعمة ومَهِّلْهم قليلًا} [المزمل: 11].
ويجوز أن يكون المراد حلول العذاب بالمترفين خاصة، أي بسادتهم وصناديدهم وهو عذاب السيف يوم بدر فإنه قتل يومئذ كبراء قريش وهم أصحاب القليب.
قال شداد ابن الأسود:
وماذا بالقليب قليب بدر ** من الشيزى تزيَّن بالسنام

وماذا بالقليب قليب بدر ** من القينات والشَّرب الكرام

يعني ما ضمنه القليب من رجال كانت سجاياهم الإطعام والطرب واللذات.
وضمير {إذا هم يجأرون} على هذا الوجه عائد إلى غير المترفين لأن المترفين قد هلكوا فالبقية يجأرون من التلهف على ما أصاب قومهم والإشفاق أن يستمر القتل في سائرهم فهم يجأرون كلما صرع واحد من سادتهم ولأن أهل مكة عجبوا من تلك المصيبة ورَثَوا أمواتهم بالمراثي والنياحات.
ثم الظاهر أن المراد من هذا العذاب عذاب يحل بهم في المستقبل بعد نزول هذه الآية التي هي مكية فيتعين أن هذا عذاب مسبوق بعذاب حل بهم قبله كما يقتضيه قوله تعالى بعد {ولقد أخذناهم بالعذاب} [المؤمنون: 76] الآية.
ولذا فالعذاب المذكور هنا عذاب هُددوا به، وهو إما عذاب الجوع الثاني الذي أصاب أهل مكة بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته.
ذلك أنه لما أسلم ثمامة بن أُثال الحنفي عقب سرية خالد بن الوليد إلى بني كلب التي أخذ فيها ثمامة أسيرًا وأسلم فمنع صدور الميرة من أرض قومه باليمامة إلى أهل مكة وكانت اليمامة مصدر أقواتهم حتى سميت ريف أهل مكة فأصابهم جوع حتى أكلوا العِلهِز والجيف سبع سنين، وإما عذاب السيف الذي حل بهم يوم بدر.
وقيل إن هذا العذاب عذاب وقع قبل نزول الآية وتعين أنه عذاب الجوع الذي أصابهم أيام مقام النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ثم كشفه الله عنهم ببركة نبيه وسلامة للمؤمنين، وذلك المذكور في سورة الدخان (12) {ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون}. وقيل العذاب عذاب الآخرة. ويبعد هذا القول أنه سيذكر عذاب الآخرة في قوله تعالى: {حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون} الآيات إلى قوله: {إن لبثتم إلا قليلًا لو أنكم كنتم تعلمون} [المؤمنون: 99 114] كما ستعلمه. وتجيء منه وجوه من الوجوه المتقدمة لا يخفى تقريرها.
ومعنى {يجأرون} يصرخون ومصدره الجأر. والاسم الجُؤَار بضم الجيم وهو كناية عن شدة ألم العذاب بحيث لا يستطيعون صبرًا عليه فيصدر منهم صراخ التأوه والويل والثبور.
وجملة {لا تَجْأَرُوا اليوم} معترضة بين ما قبلها وما تفرع عليه من قوله: {أفلم يدبروا القول} [المؤمنون: 68] وهي مقول قول محذوف، أي تقول لهم: لا تجأروا اليوم.
وهذا القول كلام نفسي أعلمهم الله به لتخويفهم من عذاب لا يغني عنهم حين حلوله جؤار إذ لا مجيب لجؤارهم ولا مغيث لهم منه إذ هو عذاب خارج عن مقدور الناس لا يطمع أحد في تولي كشفه. وهذا تأييس لهم من النجاة من العذاب الذي هُددوا به.
وإذا كان المراد بالعذاب عذاب الآخرة فالقول لفظي والمقصود منه قطع طماعيتهم في النجاة.
والنهي عن الجؤار مستعمل في معنى التسوية. وورود النهي في معنى التسوية مقيس على ورود الأمر في التسوية.
وعثرت على اجتماعهما في قوله تعالى: {اصبروا أو لا تصبروا سواءٌ عليكم} [الطور: 16].
وجملة {إنكم منا لا تنصرون} تعليل للنهي المستعمل في التسوية، أي لا تجأروا إذ لا جدوى لِجُؤَاركم إذ لا يقدر مجير أن يجيركم من عذابنا، فموقع إن إفادة التعليل لأنها تغني غناء فاء التفريع.