فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وليتهم يسمرون عند البيت بالخير إنما بهُجر، والهُجْر هو فُحْش الكلام في محمد صلى الله عليه وسلم وفي القرآن.
فأمر هؤلاء عجيب: كيف يفعلون هذا وهم في رحاب بيت الله الذي جعل لهم السيادة والمنزلة؟ كيف يخوضون في رسول الله الذي جاء ليطهر هذا البيت من الأصنام ورجسها؟ إنه سوء أدب مع الله، ومع رسوله، ومع القرآن، يصدق فيه قول الشاعر:
أُعلِّمهُ الرمايةَ كُلَّ يوْمٍ ** فَلَمّا اشْتَدَّ سَاعِدُه رَمَانِي

وكَمْ علِّمتُه نَظْمَ القَوافِي ** فَلَمَّا قَالَ قَافِية هَجَانِي

لقد استكبر هؤلاء على الأمة كلها بالبيت، ومع ذلك ما حفظوا حُرْمته، وجعلوه مكانًا للسَّمَر وللهُجْر وللسَّفَه وللطيْش، ولكل مَا لا يليق به، فالقرآن عندهم أساطير الأولين، ومحمد عندهم ساحر وكاهن وَشاعر ومجنون.. وهكذا.
والحق- سبحانه وتعالى- يُنبِّهكم إلى أن ضروريات حياتكم هِبةٌ منه سبحانه وتفضُّل، فحينما جاءكم أبرهة ليهدم هذا البيت العتيق، وينقل هذه العظمة وهذه القداسة إلى الحبشة، ولم يكن لكم طاقة لردِّه ولا قدرةَ على حماية البيت، فلو هدمه لضاعتْ هيبتكم وسيادتكم بين القبائل، ولتجرأوا عليكم كما تجرأوا على غيركم، لكن حمى الله بيته، ودافع عن حرماته، حتى إن الفيل نفسه وعى هذا الدرس، ووقف مكانه لا يتحرك نحو البيت خاصة، ويوجهونه في أي ناحية أخرى فيسير.
ويُرْوَى أن أحدهم قال للفيل يخاطبه: ابْرك محمود وارجع راشدًا- يعني: انفد بجلدك؛ لأنك في بلد الله الحرام، وكما قال الشاعر:
حُبِسَ الفِيلُ بالمغَمَّس حَتَّى ** صَارَ يحبُو كَأنَّهُ مَعْقُورُ

وهكذا ردّهم الله مقهورين مدحورين، وحفظ لكم البيت، وأبقى لكم السيادة.
لذلك لاحظ الانتقال من سورة الفيل إلى سورة قريش، يقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} [الفيل: 1- 5] يعني: مثل التبن والفُتَات الذي تذروه الرياح.
ثم يقول في أول قريش: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1] يعني ما حَلَّ بأصحاب الفيل، فاللام في لإِيلاَف لام التعليل، يعني: حَلَّ ما حَلَّ بأصحاب الفيل لتألف قريش ما اعتادته من رحلة الشتاء والصيف {إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتاء والصيف} [قريش: 2] وما دام أن الله تعالى قد حماكم وحمى لكم البيت، وحفظ لكم السيادة كان ينبغي عليكم أنْ تعبدوه وحده لا شريك له {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 3- 4]. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57)}.
لما نفي سبحانه الخيرات الحقيقية عن الكفرة المتنعمين أتبع ذلك بذكر من هو أهل للخيرات عاجلًا وآجلًا فوصفهم بصفات أربع: الأولى: قوله: {إِنَّ الذين هُم مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ} الإشفاق: الخوف، تقول: أنا مشفق من هذا الأمر، أي خائف.
قيل: الإشفاق هو الخشية، فظاهر ما في الآية التكرار.
وأجيب بحمل الخشية على العذاب، أي من عذاب ربهم خائفون، وبه قال الكلبي ومقاتل.
وأجيب أيضًا بحمل الإشفاق على ما هو أثر له: وهو الدوام على الطاعة، أي الذين هم من خشية ربهم دائمون على طاعته.
وأجيب أيضًا بأن الإشفاق كمال الخوف فلا تكرار.وقيل: هو تكرار للتأكيد.
والصفة الثانية: قوله: {والذين هُم بئايات رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ} قيل: المراد بالآيات: هي التنزيلية.
وقيل: هي التكوينية. وقيل: مجموعهما. قيل: وليس المراد بالإيمان بها: هو التصديق بوجودها فقط. فإن ذلك معلوم بالضرورة ولا يوجب المدح، بل المراد: التصديق بكونها دلائل وأن مدلولها حق.
والصفة الثالثة: قوله: {والذين هُم بِرَبّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ} أي يتركون الشرك تركًا كليًا ظاهرًا وباطنًا.
والصفة الرابعة: قوله: {والذين يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلى رَبّهِمْ راجعون} أي يعطون ما أعطوا وقلوبهم خائفة من أجل ذلك الإعطاء يظنون أن ذلك لا ينجيهم من عذاب الله، وجملة: {وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} في محل نصب على الحال، أي والحال أن قلوبهم خائفة أشدّ الخوف.
قال الزجاج: قلوبهم خائفة لأنهم إلى ربهم راجعون، وسبب الوجل هو أن يخافوا أن لا يقبل منهم ذلك على الوجه المطلوب، لا مجرّد رجوعهم إليه سبحانه.
وقيل: المعنى: أن من اعتقد الرجوع إلى الجزاء والحساب وعلم أن المجازي والمحاسب هو الربّ الذي لا تخفى عليه خافية لم يخل من وجل.
وقرأت عائشة وابن عباس والنخعي {يَأْتُونَ مَا أَتَواْ} مقصورًا من الإتيان.
قال الفراء: ولو صحت هذه القراءة لم تخالف قراءة الجماعة؛ لأن من العرب من يلزم في الهمز الألف في كل الحالات.
قال النحاس: ومعنى هذه القراءة: يعملون ما عملوا.
والإشارة بقوله: {أولئك} إلى المتصفين بهذه الصفات، ومعنى {يسارعون فِي الخيرات}: يبادرون بها.
قال الفرّاء والزجاج: ينافسون فيها، وقيل: يسابقون، وقرئ: {يسرعون}.
{وَهُمْ لَهَا سابقون} اللام للتقوية، والمعنى: هم سابقون إياها.
وقيل: اللام بمعنى إلى، كما في قوله: {بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} [الزلزلة: 5].
أي أوحى إليها، وأنشد سيبويه قول الشاعر:
تجانف عن أهل اليمامة ناقتي ** وما قصدت من أهلها لسوائكا

أي إلى سوائكا.
وقيل: المفعول محذوف، والتقدير: وهم سابقون الناس لأجلها.
ثم لما انجر الكلام إلى ذكر أعمال المكلفين ذكر لهما حكمين: الأوّل: قوله: {وَلاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} الوسع هو: الطاقة، وقد تقدّم بيان هذا في آخر سورة البقرة.
وفي تفسير الوسع قولان: الأوّل: أنه الطاقة، كما فسره بذلك أهل اللغة.
الثاني: أنه دون الطاقة، وبه قال مقاتل والضحاك والكلبي.
والمعتزلة قالوا: لأن الوسع إنما سمي وسعًا؛ لأنه يتسع على فاعله فعله ولا يضيق عليه، فمن لم يستطع الجلوس فليوم إيماء، ومن لم يستطع الصوم فليفطر.
وهذه الجملة مستأنفة للتحريض على ما وصف به السابقون من فعل الطاعات المؤدّي إلى نيل الكرامات ببيان سهولته وكونه غير خارج عن حدّ الوسع والطاقة، وأن ذلك عادة الله سبحانه في تكليف عباده، وجملة: {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بالحق} من تمام ما قبلها من نفي التكليف بما فوق الوسع والمراد بالكتاب: صحائف الأعمال، أي عندنا كتاب قد أثبت فيه أعمال كل واحد من المكلفين على ما هي عليه، ومعنى {يَنطِقُ بالحق}: يظهر به الحق المطابق للواقع من دون زيادة ولا نقص، ومثله قوله سبحانه: {هذا كتابنا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29] وفي هذا تهديد للعصاة وتأنيس للمطيعين من الحيف والظلم.
وقيل: المراد بالكتاب: اللوح المحفوظ، فإنه قد كتب فيه كل شيء.
وقيل: المراد بالكتاب: القرآن، والأوّل أولى.
وفي هذه الآية تشبيه للكتاب بمن يصدر عنه البيان بالنطق بلسانه، فإن الكتاب يعرب عما فيه كما يعرب الناطق المحق، وقوله: {بالحق}، يتعلق ب {ينطق} أو بمحذوف هو حال من فاعله، أي ينطق ملتبسًا بالحق، وجملة: {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} مبينة لما قبلها من تفضله وعدله في جزاء عباده، أي لا يظلمون بنقص ثواب أو بزيادة عقاب، ومثله قوله سبحانه: {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]، ثم أضرب سبحانه عن هذا فقال: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مّنْ هذا} والضمير للكفار، أي بل قلوب الكفار في غمرة غامرة لها عن هذا الكتاب الذي ينطق بالحق، أو عن الأمر الذي عليه المؤمنون، يقال غمره الماء: إذا غطاه، ونهر غمر: يغطي من دخله، والمراد بها هنا: الغطاء والعمه أو الحيرة والعمى، وقد تقدّم الكلام على الغمرة قريبًا {وَلَهُمْ أعمال مّن دُونِ ذلك} قال قتادة ومجاهد: أي لهم خطايا لابد أن يعملوها من دون الحق.
وقال الحسن وابن زيد: المعنى: ولهم أعمال رديئة لم يعملوها من دون ما هم عليه لابد أن يعملوها فيدخلون بها النار، فالإشارة بقوله: {ذلك} إما إلى أعمال المؤمنين، أو إلى أعمال الكفار، أي لهم أعمال من دون أعمال المؤمنين التي ذكرها الله، أو من دون أعمال الكفار التي تقدّم ذكرها من كون قلوبهم في غفلة عظيمة مما ذكر، وهي فنون كفرهم ومعاصيهم التي من جملتها ما سيأتي من طعنهم في القرآن.
قال الواحدي: إجماع المفسرين وأصحاب المعاني على أن هذا إخبار عما سيعملونها من أعمالهم الخبيثة التي كتبت عليهم لابد لهم أن يعملوها، وجملة: {هُمْ لَهَا عاملون} مقرّرة لما قبلها، أي واجب عليهم أن يعملوها فيدخلوا بها النار لما سبق لهم من الشقاوة لا محيص لهم عن ذلك.
ثم رجع سبحانه إلى وصف الكفار فقال: {حتى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بالعذاب} حتى هذه هي التي يبتدأ بعدها الكلام، والكلام هو الجملة الشرطية المذكورة، وهذه الجملة مبينة لما قبلها، والضمير في: {مترفيهم} راجع إلى من تقدّم ذكره من الكفار.
والمراد بالمترفين: المتنعمين منهم، وهم الذين أمدهم الله بما تقدم ذكره من المال والبنين، أو المراد بهم الرؤساء منهم.
والمراد بالعذاب هو: عذابهم بالسيف يوم بدر، أو بالجوع بدعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم عليهم حيث قال: «اللّهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف» وقيل: المراد بالعذاب: عذاب الآخرة؛ ورجح هذا بأن ما يقع منهم من الجؤار إنما يكون عند عذاب الآخرة، لأنه الاستغاثة بالله ولم يقع منهم ذلك يوم بدر ولا في سني الجوع، ويجاب عنه بأن الجؤار في اللغة: الصراخ والصياح.
قال الجوهري: الجؤار مثل الخوار. يقال: جأر، الثور يجأر أي صاح.
وقد وقع منهم ومن أهلهم وأولادهم عندما أن عذبوا بالسيف يوم بدر، وبالجوع في سني الجوع، وليس الجؤار ها هنا مقيد بالجؤار الذي هو التضرّع بالدعاء حتى يتم ما ذكره ذلك القائل، وجملة: {إذا هم يجأرون} جواب الشرط، وإذا هي الفجائية، والمعنى: حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب فاجئوا بالصراخ.
ثم أخبر سبحانه أنه يقال لهم حينئذٍ على جهة التبكيت: {لاَ تَجْئَرُواْ اليوم} فالقول مضمر، والجملة مسوقة لتبكيتهم وإقناطهم وقطع أطماعهم، وخصص سبحانه المترفين مع أن العذاب لاحق بهم جميعًا واقع على مترفيهم وغير مترفيهم؛ لبيان أنهم بعد النعمة التي كانوا فيها صاروا على حالة تخالفها وتباينها، فانتقلوا من النعيم التامّ إلى الشقاء الخالص، وخصّ اليوم بالذكر للتهويل، وجملة: {إِنَّكُمْ مّنَّا لاَ تُنصَرُونَ} تعليل للنهي عن الجؤار، والمعنى: إنكم من عذابنا لا تمنعون ولا ينفعكم جزعكم.
وقيل المعنى: إنكم لا يلحقكم من جهتنا نصرة تمنعكم مما دهمكم من العذاب.
ثم عدّد سبحانه عليهم قبائحهم توبيخًا لهم فقال: {قَدْ كَانَتْ ءَايَتِي تتلى عَلَيْكُمْ} أي في الدنيا؛ وهي آيات القرآن {فَكُنتُمْ على أعقابكم تَنكِصُونَ} أي ترجعون وراءكم، وأصل النكوص: أن يرجع القهقرى، ومنه قول الشاعر:
زعموا أنهم على سبل الحق ** وأنا نكص على الأعقاب

وهو هنا استعارة للإعراض عن الحق، وقرأ على بن أبي طالب: {على أدباركم} بدل: {على أعقابكم تَنكِصُونَ} بضم الكاف، وعلى أعقابكم متعلق {بتنكصون} أو متعلق بـ محذوف وقع حالًا من فاعل تنكصون {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} الضمير في: {به} راجع إلى البيت العتيق، وقيل: للحرم، والذي سوّغ الإضمار قبل الذكر اشتهارهم بالاستكبار به وافتخارهم بولايته والقيام به، وكانوا يقولون: لا يظهر علينا أحد لأنا أهل الحرم وخدّامه.
وإلى هذا ذهب جمهور المفسرين.
وقيل: الضمير عائد إلى القرآن، والمعنى: أن سماعه يحدث لهم كبرًا وطغيانًا فلا يؤمنون به.