فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القول}.
يتضمن حضهم، على تدبر هذا القول الذي هو القرآن العظيم، لأنهم إن تدبروه تدبرًا صادقًا، علموا أنه حق، وأن اتباعه واجب وتصديق من جاء به لازم. وقد أشار لهذا المعنى في غير هذا الموضع كقوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيرًا} [النساء: 82] وقوله: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} [محمد: 24] وقوله في هذه الآية الكريمة {أَمْ جَاءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأولين} [المؤمنون: 68] قال القرطبي: فأنكروه، وأعرضوا عنه، وقيل: أم بمعنى: بل جاءهم ما لا عهد لآبائهم به، فلذلك أنكروه، وتركوا التدبر له.
وقال ابن عباس: وقيل المعنى: أم جاءهم أمان من العذاب، وهو شيء لم يأت آباءهم الأولين، قال أبو حيان في تفسير هذه الآية: قرعهم أولًا بترك الانتفاع بالقرآن، ثم ثانيًا بأن ما جاءهم جاء آباءهم الأولين: أي إرسال الرسل ليس بدعا، ولا مستغربًا، بل أرسلت الرسل للأمم قبلهم، وعرفوا ذلك بالتواتر ونجاة من آمن، واستئصال من كذب وآباؤهم إسماعيل وأعقابه إلى آخر كلامه. وهذا الوجه من التفسير له وجه من النظر وعليه فالآية كقوله: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرسل} [الأحقاف: 9] الآية ونحوها من الآيات.
{أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69)}.
قد قدمنا الآيات الموضحة لهذه الآية في سورة يونس، في الكلام على قوله تعالى: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ} [يونس: 16] الآية فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
{أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70)}.
أم المذكورة في هذه الآية هي المعروفة عند النحويين بأم المنقطعة. وضابطها ألا تتقدم عليها همزة تسوية نحو {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} [البقرة: 6] الآية أو همزة مغنية، عن لفظة: أي كقولك أزيد عندك أم عمرو؟ أي أيهما عندك فالمسبوقة بإحدى الهمزتين المذكورتين، هي المعروفة عندهم بأم المتصلة، والتي لم تسبق بواحدة منهما هي المعروفة بالمنقطعة كما هنا. وأم المنقطعة تأتي لثلاثة معان.
الأول: أن تكون بمعنى: بل الإضرابية.
الثاني: أن تكون بمعنى همزة استفهام الإنكار.
الثالث: أن تكون بمعناهما معًا فتكون جامعة بين الإضراب والإنكار، وهذا الأخير هو الأكثر في معناها، خلافًا لابن مالك في الخلاصة في اقتصاره على أنها بمعنى: بل في قوله:
وبانقطاع وبمعنى بل وفت ** إن تك مما قيدت به خلت

ومراده بخلودها مما قيدت به: ألا تسبقها إحدى الهمزتين المذكورتين، فإن سبقتها إحداهما، فهي المتصلة كما تقدم قريبًا، وعلى ما ذكرنا فيكون المعنى متضمنًا للاضراب عما قبله إضرابًا انتقاليًا، مع معنى استفهام الإنكار، فتضمن الآية الإنكار على الكفار في دعواهم: أن نبينا صلى الله عليه وسلم به جنة: أي جنون يعنون: أن هذا الحق الذي جاءهم به هذيان مجنون، قبحهم الله ما أجحدهم للحق، وما أكفرهم ودعواهم عليه هذه أنه مجنون كذبها الله هنا بقوله: {بَلْ جَاءَهُمْ بالحق} فالإضراب بيل إبطالي.
والمعنى: ليس بمجنون بل هو رسول كريم جاءكم بالحق الواضح، المؤيد بالمعجزات الذي يعرف كل عاقل، أنه حق، ولكن عاندتم وكفرتم ل شدة كراهيتكم للحق، وما نفته هذه الآية الكريمة من دعواهم عليه الجنون صرح الله بنفيه في مواضع أخر كقوله تعالى: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير: 22] وقوله تعالى: {فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ} [الطور: 29] وهذا الجنون الذي افترى على آخر الأنبياء، افترى أيضًا على أولهم، كما قال تعالى في هذه السورة الكريمة عن قوم نوح أنهم قالوا فيه {إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حتى حِينٍ} [المؤمنون: 25] وقد بين في موضع آخر أن الله لم يرسل رسولًا إلا قال قومه: إنه ساحر، أو مجنون، كأنهم اجتمعوا فتواصوا على ذلك لتواطئ أقوالهم لرسلهم عليه، وذلك في قوله تعالى: {كَذَلِكَ مَآ أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات: 52- 53] فبين أن سبب تواطئهم على ذلك ليس التواصي به، لاختلاف أزمنتهم، وأمكنتهم. ولكن الذي جمعهم على ذلك هو مشابهة بعضهم لبعض في الطغيان، وقد أوضح هذا المعنى في سورة البقرة في قوله: {كَذَلِكَ قَالَ الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة: 118] فهذه الآيات تدل على أن سبب تشابه مقالاتهم لرسلهم، هو تشابه قلوبهم في الكفر والطغيان، وكراهية الحق وقوله: {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} ذكر نحو معناه في قوله تعالى: {لَقَدْ جِئْنَاكُم بالحق ولكن أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف: 78] وقوله تعالى: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر} [الحج: 72] الآية، وذلك المنكر الذي تعرفه في وجوههم، إنما هو لشدة كراهيتهم للحق، ومن الآيات الموضحة لكراهيتهم للحق. أنهم يمتنعون من سماعه، ويستعملون الوسائل التي تمنعهم من أن يسمعوه، كما قال تعالى في قصة أول الرسل الذين أرسلهم بتوحيده والنهي عن الإشراك به، وهو نوح: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جعلوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ واستغشوا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ واستكبروا استكبارا} [نوح: 7] وإنما جعلوا أصابعهم في آذانهم، واستغشوا ثيابهم خوف أن يسمعوا ما يقوله لهم نبيهم نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، من الحق، والدعوة إليه. وقال تعالى في أمة آخر الأنبياء صلى الله عليه وسلم {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ} [فصلت: 26] الآية. فترى بعضهم ينهى بعضًا عن سماعه، ويأمرهم باللغو فيه، كالصياح والتصفيق المانع من السماع لكراهتهم للحق، ومحاولتهم أن يغلبوا الحق بالباطل.
وفي الآية الكريمة سؤال معروف وهو أن يقال: قوله: {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} يفهم من مفهوم مخالفته، أن قليلًا من الكفار، ليسوا كارهين للحق. وهذا السؤال وارد أيضًا على آية الزخرف التي ذكرنا آنفًا، وهو قوله تعالى: {ولكن أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف: 78].
والجواب عن هذا السؤال: هو ما أجاب به بعض أهل العلم بأن قليلًا من الكفار. كانوا لا يكرهون الحق، وسبب امتناعهم عن الإيمان بالله ورسوله ليس هو كراهيتهم للحق، ولكن سببه الأنفة والاستنكاف من توبيخ قومهم، وأن يقولوا صبأوا وفارقوا دين آبائهم، ومن أمثلة من وقع له هذا أبو طالب فإنه لا يكره الحق، الذي جاء به النَّبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان يشد عضده في تبليغه رسالته كما قدمنا في شعره في قوله:
اصدع بأمرك ما عليك غضاضة

الأبيات وقال فيها:
ولقد علمت بأن دين محمد ** من خير أديان البرية دينا

وقال فيه صلى الله عليه وسلم أيضًا:
لقد علموا أن ابننا لا مكذب ** لدينا ولا يعني بقول الأباطل

وقد بين أبو طالب في شعره: أن السبب المانع له من اعتناق الإسلام ليس كراهية الحق، ولكنه الأنفة والخوف من ملامة قومه أو سبهم له كما في قوله:
لولا الملامة أو حذار مسبة ** لوجدتني سمحًا بذاك يقينا

قوله تعالى: {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ}.
اختلف العلماء في المراد بالحق في هذه الآية، فقال بعضهم: الحق: هو الله تعالى، ومعلوم أن الحق من أسمائه الحسنى، كما في قوله تعالى: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين} [النور: 25] وقوله: {ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق} [الحج: 62] وكون المراد بالحق في الآية: هو الله عزاه القرطبي للأكثرين، ومن قال به: مجاهد وابن جريج، وأبو صالح، والسدي. وروي عن قتادة، وغيرهم.
وعلى هذا القول فالمعنى لو أجابهم الله إلى تشريع ما أحبوا تشريعه وإرسال من اقترحوا إرساله، بأن جعل أمر التشريع وإرسال الرسل ونحو ذلك تابعًا لأهوائهم الفاسدة، لفسدت السموات والأرض، ومن فيهن، لأن أهواءهم الفاسدة وشهواتهم الباطلة، لا يمكن أن تقوم عليها السماء والأرض وذلك لفساد أهوائهم، واختلافها. فالأهواء الفاسدة المختلفة لا يمكن أن يقوم عليها نظام اسماء والأرض ومن فيهن، بل لو كانت هي المتبعة لفسد الجميع.
ومن الآيات الدالة على أن أهواءهم لا تصلح، أن تكون متبعة قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] لأن القرآن لو أنزل على أحد الرجلين المذكورين، وهو كافر يعبد الأوثان فلا فساد أعظم من ذلك. وقد رد الله عليهم بقوله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف: 32] الآية وقال تعالى: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جعلوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ واستغشوا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ واستكبروا استكبارا} [الإسراء: 100] {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الملك فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ الناس نَقِيرًا} [النساء: 53] قال ابن كثير رحمه الله: ففي هذا كله تبيين عجز العباد، واختلاف أرائهم وأهوائهم، وأنه تعالى هو الكامل في جميع صفاته وأقواله وأفعاله وشرعه وقدره وتدبيره لخلقه سبحانه وتعالى علوًا كبيرًا.
ومما يوضح أن الحق لو اتبع الأهواء الفاسدة المختلفة لفسدة السموات والأرض ومن فيهن قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] فسبحان الله رب العرش عما يصفون.
القول الثاني: أن المراد بالحق في الآية: الحق الذي هو ضد الباطل المذكور في قوله قبله: {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [المؤمنون: 70] وهذا القول الأخير اختاره ابن عطية، وأنكر الأول.
وعلى هذا القول فالمعنى: أنه لو فرض كون الحق متبعًا لأهوائهم، التي هي الشرك بالله، وادعاء الأولاد، والأنداد له ونحو ذلك: لفسد كل شيء لأن هذا الغرض وهو يصير به الحق، هو أبطل الباطل، ولا يمكن أن يقوم نظام السماء والأرض على شيءن هو أبطل الباطل، لأن استقامة نظام هذا العالم لا تمكن إلا بقدرة وإرادة إله هو الحق منفرد بالتشريع، والأمر والنهي كما لا يخفى على عاقل والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ}.
اختلف العلماء في الذكر في الآية فمنهم من قال: ذكرهم: فَخْرُهُمْ، وشَرَفُهُمْ، لأن نزول هذا الكتاب على رجل منهم فيه لهم أكبر الفخر والشرف، وعلى هذا، فالآية كقوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] على تفسير الذكر بالفخر والشرف، وقال بعضهم: الذكر في الآية: الوعظ والتوصية، وعليه فالآية كقوله: {ذلك نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ والذكر الحكيم} [آل عمران: 58] وقال بعضهم: الذكر هو ما كانوا يتمنونه في قولهم: {لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْرًا مِّنَ الأولين لَكُنَّا عِبَادَ الله المخلصين} [الصافات: 168- 169] وعليه، فالآية كقوله تعالى: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أهدى مِنْ إِحْدَى الأمم} [فاطر: 42] وعلى هذا القول فقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُورًا} [فاطر: 42] الآية كقوله هنا، فهم عن ذكرهم معرضون. وكقوله: {أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الكتاب لَكُنَّآ أهدى مِنْهُمْ} [الأنعام: 157] والآيات بمثل هذا على القول الأخير كثيرة والعلم عند الله تعالى. اهـ.