فصل: تفسير الآيات (72- 74):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (72- 74):

قوله تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أبطل تعالى وجوه طعنهم في المرسل به والمرسل من جهة جهلهم مرة، ومن جهة ادعائهم البطلان أخرى، نبههم على وجه آخر هم أعرف الناس ببطلانه ليثبت المدعى من الصحة إذا انتفت وجوه المطاعن فقال منكرًا: {أم تسألهم} أي على ما جئتهم به {خرجًا} قال البغوي: أجرًا وجعلًا، وقال ابن مكتوم في الجمع بين العباب والمحكم: والخرج والخراج شيء يخرجه القوم في السنة من مالهم بقدر معلوم، والخراج غلة العبد والأمة، وقال الزجاج: الخراج: الفيء، والخرج: الضريبة والجزية، وقال الأصبهاني: سئل أبو عمرو بن العلاء فقال: الخراج ما لزمك ووجب عليك أداؤه، والخرج ما تبرعت به من غير وجوب.
ولما كان الإنكار معناه النفي، حسن موقع فاء السبب في قوله: {فخراج} أي أم تسألهم ذلك ليكون سؤالك سببًا لاتهامك وعدم سؤالك، بسبب أن خراج {ربك} الذي لم تقصد غيره قط ولم تخل عن بابه وقتًا ما {خير} من خراجهم، لأن خراجه غير مقطوع ولا ممنوع عن أحد من عباده المسيئين فكيف بالمحسنين! وكأنه سماه خراجًا إشارة إلى أنه أوجب رزق كل أحد على نفسه بوعد لا خلف فيه {وهو خير الرازقين} فإنه يعلم ما يصلح كل مرزوق وما يفسده، فيعطيه على حسب ما يعلم منه ولا يحوجه إلى سؤال.
ولما كانت عظمة الملك مقتضية لتقبل ما أتى به والتشرف به على أيّ حال كان، نبه على أنه حق يكسب قبوله الشرف لو لم يكن من عند الملك فكيف إذا كان من عنده، فكيف إذا كان ملك الملوك ومالك الملك فكيف إذا كان الآتي به خالصة العباد وأشرف الخلق، كما قام عليه الدليل بنفي هذه المطاعن كلها، فقال عاطفًا على {آتيناهم}: {وإنك} أي مع انتفاء هذه المطاعن كلها {لتدعوهم} أي بهذا الذكر مع ما قدمنا من الوجوه الداعية إلى اتباعك بانتفاء جميع المطاعن عنك وعما جئت به {إلى صراط مستقيم} لا عوج فيه ولا طعن أصلًا كما تشهد به العقول الصحيحة، فمن سلكه أوصله إلى الغرض فحاز كل شرف، والحال أنهم، ولكنه عبر بالوصف الحامل لهم على العمى فقال: {وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة} فلذلك لا يخشون القصاص فيها {على الصراط} أي الذي لا صراط غيره لأنه لا موصل إلى القصد غيره {لناكبون} أي عادلون متنحون مائلون منحرفون في سائر أحوالهم سائرون على غير منهج أصلًا، بل خبط عشواء لأنه يجوز أن يراد مطلق الصراط وأن يراد النكرة الموصوفة بالاستقامة. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

ثم بين سبحانه أنه عليه الصلاة والسلام لا يطمع فيهم حتى يكون ذلك سببًا للنفرة فقال: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبّكَ خَيْرٌ} وقرئ خراجًا، قال أبو عمرو بن العلاء الخرج ما تبرعت به والخراج ما لزمك أداؤه والوجه أن الخرج أخص من الخراج كقولك خراج القرية وخرج الكردة زيادة اللفظ لزيادة المعنى ولذلك حسنت قراءة من قرأ {خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبّكَ} يعني أم تسألهم على هدايتهم قليلًا من عطاء الخلق فالكثير من عطاء الخلق خير.
فنبه سبحانه بذلك على أن هذه التهمة بعيدة عنه، فلا يجوز أن ينفروا عن قبول قوله لأجلها.
فنبه سبحانه بهذه الآيات على أنهم غير معذورين ألبتة وأنهم محجوجون من جميع الوجوه، قال الجبائي دل قوله تعالى: {وَهُوَ خَيْرُ الرازقين} على أن أحدًا من العباد لا يقدر على مثل نعمه ورزقه ولا يساويه في الإفضال على عباده ودل أيضًا على أن العباد قد يرزق بعضهم بعضًا ولولا ذلك لما جاز أن يقول: {وَهُوَ خَيْرُ الرازقين}.
{وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73)}.
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما زيف طريقة القوم أتبعه ببيان صحة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} لأن ما دل الدليل على صحته فهو في باب الاستقامة أبلغ من الطريق المستقيم {وَإِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة عَنِ الصراط لناكبون} أي لعادلون عن هذا الطريق، لأن طريق الاستقامة واحدة وما يخالفه فكثير. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا}.
يعني أمرًا.
{فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} فيه وجهان: أحدهما: فرزق ربك في الدنيا خير منهم، قاله الكلبي.
الثاني: فأجر ربك في الآخرة خيرٌ منه، قاله الحسن.
وذكر أبو عمرو بن العلاء الفرق بين الخرج والخراج فقال: الخرج من الرقاب: والخراج من الأرض.
قوله: {عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} فيه أربعة تأويلات:
أحدها: لعادلون، قاله ابن عباس.
الثاني: لحائدون، قاله قتادة.
الثالث: لتاركون، قاله الحسن.
الرابع: لمعرضون، قاله الكلبي، ومعانيها متقاربة. اهـ.

.قال ابن عطية:

{أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72)}.
هذا تبوبيخ لهم كأنه قال: أم سألتهم مالًا فقلقوا بذلك واستثقلوا من أجله، وقرأ حمزة والكسائي {خراجًا فخراج} وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم {خرجًا فخراج} وقرأ ابن عامر {خرجًا فخرج} وهو المال الذي يجيء ويؤتى به لأوقات محدودة، قال الأصمعي: الخرج الجعل مرة واحدة والخراج ما تردد لأوقات ما، ع وهذا فرق استعمالي وإلا فهما في اللغة بمعنى، وقد قرئ خراجًا في قصة ذي القرنين وقوله: {فخراج ربك} يريد ثوابه سماه خراجًا من حيث كان معادلًا للخراج في هذا الكلام، ويحتمل أن يريد {فخراج ربك} رزق ربك ويؤيد هذا قوله: {وهو خير الرازقين}، و{الصراط} المستقم، دين الإسلام و{ناكبون} معناه عادلون ومعرضون. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا} أي أجرًا على ما جئتهم به؛ قاله الحسن وغيره.
{فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} وقرأ حمزة والكسائي والأعمش ويحيى بن وَثّاب {خراجا} بألف.
الباقون بغير ألف.
وكلهم قد قرؤوا {فخراج} بالألف إلا ابن عامر وأبا حَيْوة فإنهما قرأا بغير الألف.
والمعنى: أم تسألهم رزقًا فرزق ربك خير.
{وَهُوَ خَيْرُ الرازقين} أي ليس يقدر أحد أن يرزق مثل رزقه، ولا يُنعم مثل إنعامه.
وقيل؛ أي ما يؤتيك الله من الأجر على طاعتك له والدعاء إليه خيرٌ من عَرَض الدنيا، وقد عرضوا عليك أموالهم حتى تكون كأعْيَن رجل من قريش فلم تجبهم إلى ذلك؛ قال معناه الحسن: والخَرْج والخراج واحد، إلا أن اختلاف الكلام أحسن؛ قاله الأخفش.
وقال أبو حاتم: الخَرْج الجُعْل، والخراج العطاء.
المبرّد: الخرج المصدر، والخراج الاسم.
وقال النضر بن شميل: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الفرق بين الخرج والخراج فقال: الخراج ما لزمك، والخَرْج ما تبرّعت به.
وعنه أن الخَرْج من الرقاب، والخراج من الأرض.
ذكر الأوّل الثعلبيّ والثاني الماورديّ.
قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي إلى دين قويم.
والصراط في اللغة الطريق؛ فسُمِّيَ الدِّين طريقًا لأنه يؤدّي إلى الجنة فهو طريق إليها.
{وَإِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة} أي بالبعث.
{عَنِ الصراط لَنَاكِبُونَ} قيل: هو مثل الأوّل.
وقيل: إنهم عن طريق الجنة لناكبون حتى يصيروا إلى النار.
نَكَب عن الطريق يَنْكُب نُكوبًا إذا عدل عنه ومال إلى غيره؛ ومنه نكبت الريح إذا لم تستقم على مَجْرًى.
وشَرُّ الريح النَّكْباء. اهـ.

.قال أبو حيان:

{أم تسألهم خرجًا}.
هذا استفهام توبيخ أيضًا المعنى بل أتسألهم مالًا فغلبوا لذلك واستثقلوك من أجله، قاله ابن عطية وخطب الزمخشري بأحسن كلام فقال: {أم تسألهم} على هدايتك لهم قليلًا من عطاء الخلق والكثير من عطاء الخالق خير فقد ألزمهم الحجة في هذه الآيات، وقطع معاذيرهم وعللهم بأن الذي أرسل إليهم رجل معروف أمره وحاله مخبور سره علنه، خليق بأن يجتبى مثله للرسالة من بين ظهرانيهم، وأنه لم يعرض له حتى يدعي مثل هذه الدعوى العظيمة بباطل، ولم يجعل ذلك سلمًا إلى النيل من دنياهم واستعطاء أموالهم، ولم يدعهم إلاّ إلى دين الإسلام الذي هو الصراط المستقيم مع إبراز المكنون من أدوائهم وهو إخلالهم بالتدبر والتأمل واستهتارهم بدين الآباء الضلال من غير برهان، وتعللهم بأنه مجنون بعد ظهور الحق وثبات التصديق من الله بالمعجزات والآيات النيرة وكراهتهم للحق وإعراضهم عما فيه حظهم من الذكر انتهى.
وتقدم الكلام في قوله: {خرجًا فخراج} في قوله تعالى: {فهل نجعل لك خرجًا} في الكهف قراءة ومدلولًا.
وقرأ الحسن وعيسى خراجًا فخرج فكلمت بهذه القراءة أربع قراءات، وفي الحرفين {فخراج ربك} أي ثوابه لأنه الباقي وما يؤخذ من غيره فان.
وقال الكلبي: فعطاؤه لأنه يعطي لا لحاجة وغيره يعطي لحاجة.
وقيل: فرزقه ويؤيده {خير الرازقين} قال الجبائي: {خير الرازقين} دل على أنه لا يساويه أحد في الإفضال على عباده، ودل على أن العباد قد يرزق بعضهم بعضًا انتهى.
وهذا مدلول {خير} الذي هو أفعل التفضيل ومدلول {الرازقين} الذي هو جمع أضيف إليه أفعل التفضيل.
ولما زيف طريقة الكفار أتبع ذلك ببيان صحة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: {وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم} وهو دين الإسلام، ثم أخبر أن من أنكر المعاد ناكب عن هذا الصراط لأنه لا يسلكه إلاّ من كان راجيًا للثواب خائفًا من العقاب وهؤلاء غير مصدقين بالجزاء فهم مائلون عنه، وأبعد من زعم أن الصراط الذي هم ناكبون عنه هو طريق الجنة في الآخرة، ومن زعم أن الصراط هو في الآخرة ناكبون عنه بأخذهم يمنة ويسرة إلى النار.
قال ابن عباس: {لناكبون} لعادلون، وقال الحسن: تاركون له، وقال قتادة: حائرون، وقال الكلبي: معرضون، وهذه أقوال متقاربة المعنى. اهـ.

.قال أبو السعود:

{أَمْ تَسْئَلُهُمْ} انتقالٌ من توبيخهم بما ذُكر من قوله: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} إلى التَّوبيخِ بوجهٍ آخَر كأنَّه قيل أمْ يزعمُون أنَّك تسألهم عن أداء الرِّسالةِ {خَرْجًا} أي جُعْلًا فلأجل ذلك لا يُؤمنون بك وقوله تعالى: {فَخَرَاجُ رَبّكَ خَيْرٌ} أي رزقُه في الدُّنيا وثوابُه في الآخرةِ، تعليلٌ لنفيِ السُّؤالِ المستفادِ من الإنكارِ أي لا تسألهم ذلك فإنَّ ما رزقك اللَّهُ تعالى في الدُّنيا والعُقْبى خيرٌ لك من ذلكَ وفي التَّعرضُ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ مع الإضافةِ إلى ضميرهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من تعليلِ الحكمِ وتشريفه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ما لا يخفى. والخَرْجُ بإزاءِ الدَّخْلِ يقال لكلِّ ما تخرجه إلى غيرِك. والخَرَاجُ غالبٌ في الضَّريبةِ على الأرض وقيل الخَرْجُ ما تبرَّعت به والخراجُ ما لزمَك وقيل الخَرْجُ أخصُّ من الخَراجِ ففي النَّظمِ الكريمِ إشعارٌ بالكثرةِ واللزومِ. وقرئ خرجًا فخَرْجُ وخراجًا فخراج {وَهُوَ خَيْرُ الرزقين} تقريرٌ لخيريَّةِ خراجهِ تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} تشهدُ العقول السَّليمةُ باستقامته ليس فيهِ شائبةُ اعوجاجٍ تُوهم اتَّهامَهم لك بوجهٍ من الوجوهِ ولقد ألزمَهم اللَّهُ عز وعلا وأزاحَ عللهم في هذه الآياتِ حيث حصرَ أقسامَ ما يُؤدِّي إلى الإنكارِ والاتِّهامِ وبيَّن انتفاءَ ما عدا كراهتهم للحقِّ وقِلَّة فطنتهم.
{وإنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة} وُصفوا بذلك تشنيعًا لهم بما هُم عليهِ من الانهماكِ في الدُّنيا وزعمهم أنْ لا حياة إلاَّ الحياةُ الدُّنيا وإشعارًا بعلَّةِ الحُكمِ فإنَّ الإيمانَ بالآخرةِ وخوفَ ما فيها من الدَّواهي من أقوى الدَّواعي إلى طلبِ الحقِّ وسلوكِ سبيلهِ. {عَنِ الصراط} أي عن جنسِ الصِّراطِ {لناكبون} لعادلون فضلًا عن الصِّراطِ المستقيمِ الذي تدعُوهم إليه. والأوَّلُ أدلُّ على كمال ضلالهم وغايةِ غوايتهم لما أنَّه ينبىءُ عن كون ما ذهبُوا إليه ممَّا لا يُطلق عليه اسمُ الصِّراطِ ولو كان مُعوجًّا. اهـ.