فصل: (سورة المؤمنون: آية 49).

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



. [سورة المؤمنون: آية 49].

{وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)}.
{مُوسَى الْكِتابَ} أى قوم موسى التوراة {لَعَلَّهُمْ} يعملون بشرائعها ومواعظها، كما قال: {عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ} يريد آل فرعون، وكما يقولون: هاشم، وثقيف، وتميم، ويراد قومهم. ولا يجوز أن يرجع الضمير في {لَعَلَّهُمْ} إلى فرعون وملئه، لأنّ التوراة إنما أوتيها بنو إسرائيل بعد إغراق فرعون وملئه: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى}.

. [سورة المؤمنون: آية 50].

{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (50)}.
فإن قلت: لو قيل آيتين هل كان يكون له وجه؟ قلت: نعم، لأنّ مريم ولدت من غير مسيس، وعيسى روح من اللّه ألقى إليها، وقد تكلم في المهد وكان يحيى الموتى مع معجزات أخر، فكان آية من غير وجه، واللفظ محتمل للتثنية على تقدير وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ آية وَأُمَّهُ آية ثم حذفت الأولى لدلالة الثانية عليها. الربوة والرباوة في رائهما الحركات. وقرئ: {ربوة} و{رباوة}، بالضم. و{رباوة} بالكسر وهي الأرض المرتفعة. قيل: هي إيليا أرض بيت المقدس، وأنها كبد الأرض وأقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا: عن كعب. وقيل: دمشق وغوطتها.
وعن الحسن: فلسطين والرملة، وعن أبى هريرة: الزموا هذه الرملة رملة فلسطين، فإنها الربوة التي ذكرها اللّه. وقيل: مصر. والقرار: المستقرّ من أرض مستوية منبسطة. وعن قتادة:
ذات ثمار وماء. يعنى أنه لأجل الثمار: يستقرّ فيها ساكنوها. والمعين: الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض. وقد اختلف في زيادة ميمه وأصالته، فوجه من جعله مفعولا أنه مدرك بالعين لظهوره، من عانه: إذا أدركه بعينه، نحو: ركبه، إذا ضربه بركبته. ووجه من جعله فعيلا:
أنه نفاع بظهوره وجريه، من الماعون: وهو المنفعة.

. [سورة المؤمنون: آية 51].

{يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحًا إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)}.
هذا النداء والخطاب ليسا على ظاهرهما، وكيف والرسل إنما أرسلوا متفرّقين في أزمنة مختلفة. وإنما المعنى: الإعلام بأنّ كلّ رسول في زمانه نودي لذلك ووصى به، ليعتقد السامع أنّ أمرا نودي له جميع الرسل ووصوا به، حقيق أن يؤخذ به ويعمل عليه. والمراد بالطيبات: ما حل وطاب. وقيل: طيبات الرزق حلال وصاف وقوام، فالحلال: الذي لا يعصى اللّه فيه، والصافي: الذي لا ينسى اللّه فيه، والقوام: ما يمسك النفس ويحفظ العقل.
أو أريد ما يستطاب ويستلذ من المآكل والفواكه. ويشهد له مجيئه على عقب قوله: {وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ} ويجوز أن يقع هذا الإعلام عند إيواء عيسى ومريم إلى الربوة، فذكر على سبيل الحكاية، أى: آويناهما وقلنا لهما هذا، أى: أعلمناهما أنّ الرسل كلهم خوطبوا بهذا، فكلا مما رزقنا كما واعملا صالحا اقتداء بالرسل.

. [سورة المؤمنون: آية 52].

{وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)}.
قرئ: {وإن}، بالكسر على الاستئناف. و{أنّ} بمعنى ولأنّ، و{أن} مخففة من الثقيلة، و{أُمَّتُكُمْ} مرفوعة معها.

. [سورة المؤمنون: آية 53].

{فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)}.
وقرئ {زُبُرًا} جمع زبور، أى: كتبا مختلفة، يعنى: جعلوا دينهم أديانا، وزبرا قطعا: استعيرت من زبر الفضة والحديد، و{زبرا}: مخففة الباء، كرسل في رسل، أى: كلّ فرقة من فرق هؤلاء المختلفين المتقطعين دينهم، فرح بباطله، مطمئنّ النفس، معتقد أنه على الحق.

. [سورة المؤمنون: آية 54].

{فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54)}.
الغمرة. الماء الذي يغمر القامة فضربت مثلا لما هم مغمورون فيه من جهلهم وعمايتهم. أو شبهوا باللاعبين في غمرة الماء لما هم عليه من الباطل. قال:
كأنّنى ضارب في غمرة لعب

وعن على رضي الله عنه: في غمراتهم حَتَّى حِينٍ إلى أن يقتلوا أو يموتوا.

. [سورة المؤمنون: الآيات 55- 56].

{أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56)}.
سلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بذلك، ونهى عن الاستعجال بعذابهم والجزع من تأخيره. وقرئ: {يمدّهم} ويسارع، ويسرع، بالياء، والفاعل اللّه سبحانه وتعالى. ويجوز في: يسارع، ويسرع: أن يتضمن ضمير الممدّ به. ويسارع، مبنيا للمفعول. والمعنى: أنّ هذا الإمداد ليس إلا استدراجا لهم إلى المعاصي، واستجرارا إلى زيادة الإثم، وهم يحسبونه مسارعة لهم في الخيرات، وفيما لهم فيه نفع وإكرام، ومعاجلة بالثواب قبل وقته. ويجوز أن يراد في جزاء الخيرات كما يفعل بأهل الخير من المسلمين. و{بَلْ} استدراك لقوله: {أَيَحْسَبُونَ} يعنى: بل هم أشباه البهائم لا فطنة بهم ولا شعور، حتى يتأملوا ويتفكروا في ذلك: أهو استدراج، أم مسارعة في الخير؟ فإن قلت: أين الراجع من خبر أنّ إلى اسمها إذا لم يستكنّ فيه ضميره؟
قلت: هو محذوف تقديره: نسارع به، ويسارع به، ويسارع اللّه به، كقوله: {إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عزمِ الْأُمُورِ} أى إن ذلك منه، وذلك لاستطالة الكلام مع أمن الإلباس.

. [سورة المؤمنون: الآيات 57- 61].

{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61)}.
{يُؤْتُونَ ما آتَوْا} يعطون ما أعطوا، وفي قراءة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وعائشة: يأتون ما أتوا، أى يفعلون ما فعلوا. وعنها أنها قالت: قلت يا رسول اللّه، هو الذي يزنى ويسرق ويشرب الخمر وهو على ذلك يخاف اللّه؟ قال: لا يا ابنة الصدّيق، ولكن هو الذي يصلى ويصوم ويتصدّق، وهو على ذلك يخاف اللّه أن لا يقبل منه {يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ} يحتمل معنيين، أحدهما: أن يراد يرغبون في الطاعات أشد الرغبة فيبادرونها. والثاني: أنهم يتعجلون في الدنيا المنافع ووجوه الإكرام، كما قال: {فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَة}، {وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لمِنَ الصَّالِحِينَ} لأنهم إذا سورع بها لهم، فقد سارعوا في نيلها وتعجلوها، وهذا الوجه أحسن طباقا للآية المتقدمة، لأن فيه إثبات ما نفى عن الكفار للمؤمنين. وقرئ: {يسرعون في الخيرات لَها سابِقُونَ} أى فاعلون السبق لأجلها أو سابقون الناس لأجلها. أو إياها سابقون، أى: ينالونها قبل الآخرة حيث عجلت لهم في الدنيا. ويجوز أن يكون {لَها سابِقُونَ} خبرا بعد خبر. ومعنى وَهُمْ لَها كمعنى قوله:
أنت لها أحمد من بين البشر

رائقة: محالية من الحشو والتعقيد. وصوغتها- بالتشديد- للمبالغة. وأنت لها: أى أهل وكفؤ لها. وأحمد: منادى.
ومن بين البشر: متعلق بـ محذوف حال، أى: منتخبا من بينهم. ويجوز أن أحمد أفعل تفضيل، كذا قيل.
ويروى:
أنت لها منذر من بين البشر ** داهية الدهر وصماء الغير

للأعشى الحرمازي، وضمير لها مبهم يفسره قوله: {داهية الدهر} أى الشديدة المهمة من شدائده. والصماء الصلبة، والغير- كسبب- بمعنى البقية، من غبر إذا بقي، أو من الغبار، أو من الظلمة. وأصل صماء الغبر: الحية تسكن في منقع قرب مويهة فلا تقرب. ويضرب بها المثل. والمعنى: أنها تغشى فلا يهتدى إلى التخلص منها. ومنذر: منادى. وروى بدله: أحمد. وقيل: ضمير لها للنبوة.

. [سورة المؤمنون: الآيات 62- 63].

{وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63)}.
يعنى أن هذا الذي وصف به الصالحين غير خارج من حدّ الوسع والطاقة، وكذلك كل ما كلفه عباده وما عملوه من الأعمال فغير ضائع عنده، بل هو مثبت لديه في كتاب، يريد اللوح، أو صحيفة الأعمال ناطق بالحق لا يقرءون منه يوم القيامة إلا ما هو صدق وعدل، لا زيادة فيه ولا نقصان ولا يظلم منهم أحد. أو أراد: إن اللّه لا يكلف إلا الوسع، فإن لم يبلغ المكلف أن يكون على صفة هؤلاء السابقين بعد أن يستفرغ وسعه ويبذل طاقته فلا عليه، ولدينا كتاب فيه عمل السابق والمقتصد، ولا نظلم أحدا من حقه ولا نحطه دون درجته. {بل قلوب الكفرة في غفلة} غامرة لها {مِنْ هذا} أى مما عليه هؤلاء الموصوفون من المؤمنين {وَلَهُمْ أَعْمالٌ} متجاوزة متخطية لذلك، أى: لما وصف به المؤمنون {هُمْ لَها} معتادون وبها ضارون، لا يفطمون عنها حتى يأخذهم اللّه بالعذاب.

. [سورة المؤمنون: الآيات 64- 67].

{حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِرًا تَهْجُرُونَ (67)}.
وحتى هذه هي التي يبتدأ بعدها الكلام، والكلام: الجملة الشرطية، والعذاب: قتلهم يوم بدر. أو الجوع حين دعا عليهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف» فابتلاهم اللّه بالقحط حتى أكلوا الجيف والكلاب والعظام المحترقة والقدّ والأولاد. الجؤار: الصراخ باستغاثة قال:
جئّار ساعات النّيام لربّه

أى يقال لهم حينئذ {لا تَجْأَرُوا} فإن الجؤار غير نافع لكم {مِنَّا لا تُنْصَرُونَ} لا تغاثون ولا تمنعون منا أو من جهتنا، لا يلحقكم نصر ومغوثة. قالوا: الضمير في بِهِ للبيت العتيق أو للحرم، كانوا يقولون: لا يظهر علينا أحد لأنا أهل الحرم. والذي سوّغ هذا الإضمار شهرتهم بالاستكبار بالبيت، وأنه لم تكن لهم مفخرة إلا أنهم ولاته والقائمون به. ويجوز أن يرجع إلى آياتي، إلا أنه ذكر لأنها في معنى كتابي. ومعنى استكبارهم بالقرآن: تكذيبهم به استكبارا.
ضمن مستكبرين معنى مكذبين، فعدّى تعديته. أو يحدث لكم استماعه استكبارا وعتوّا، فأنتم مستكبرون بسببه. أو تتعلق الباء بسامرا، أى: تستمرون بذكر القرآن وبالطعن فيه، وكانوا يجتمعون حول البيت بالليل يسمرون، وكانت عامّة سمرهم ذكر القرآن وتسميته سحرا وشعرا وسبّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. أو يتهجرون. والسامر: نحو الحاضر في الإطلاق على الجمع. وقرئ: {سمرا} و{سمارا} و{تهجرون} و{تهجرون} من أهجر في منطقه إذا أفحش. والهجر- بالضم-: الفحش، ومن هجر الذي هو مبالغة في هجر إذا هذى. والهجر-: بالفتح الهذيان.