فصل: قال البيضاوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال البيضاوي:

{هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ}.
بعد التصديق أو الصحة. {لِمَا تُوعَدُونَ} أو بعدما توعدون، واللام للبيان كما في {هَيْتَ لَكَ} كأنهم لما صوتوا بكلمة الاستبعاد قيل: فما له هذا الاستبعاد؟ قالوا {لِمَا تُوعَدُونَ}. وقيل {هَيْهَاتَ} بمعنى البعد، وهو مبتدأ خبره {لِمَا تُوعَدُونَ}، وقرئ بالفتح منونًا للتنكير، وبالضم منونًا على أنه جمع هيهة وغير منون تشبيهًا بقبل وبالكسر على الوجهين، وبالسكون على لفظ الوقف وبإبدال التاء هاء.
{إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا} أصله إن الحياة {إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا} فأقيم الضمير مقام الأولى لدلالة الثانية عليها حذرًا عن التكرير وإشعارًا بأن تعينها مغن عن التصريح بها كقوله:
هِيَ النَّفْسُ مَا حَمَّلْتهَا تَتَحَمَّلُ

ومعناه لا حياة إلا هذه الحياة لأن {إِن} نافية دخلت على {هِيَ} التي في معنى الحياة الدالة على الجنس فكانت مثل لا التي تنفي ما بعدها نفي الجنس. {نَمُوتُ وَنَحْيَا} يموت بعضنا ويولد بعض. {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} بعد الموت.
{إِنْ هُوَ} ما هو. {إِلاَّ رَجُلٌ افترى على الله كَذِبًا} فيما يدعيه من إرساله له وفيما يعدنا من البعث. {وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} بمصدقين.
{قَالَ رَبِّ انصرني} عليهم وانتقم لي منهم. {بِمَا كَذَّبُونِ} بسبب تكذيبهم إياي.
{قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ} عن زمان قليل و ما صلة لتوكيد معنى القلة، أو نكرة موصوفة. {لَّيُصْبِحُنَّ نادمين} على التكذيب إذا عاينوا العذاب.
{فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة} جبريل صاح عليهم صيحة هائلة تصدعت منها قلوبهم فماتوا، واستدل به على أن القوم قوم صالح. {بالحق} بالوجه الثابت الذي لا دافع له، أو بالعدل من الله كقولك فلان يقضي بالحق. أو بالوعد الصدق. {فجعلناهم غُثَاءً} شبههم في دمارهم بغثاء السيل وهو حميله كقول العرب: سال به الوادي، لمن هلك. {فَبُعْدًا لّلْقَوْمِ الظالمين} يحتمل الإِخبار والدعاء، وبعدًا مصدر بعد إذا هلك، وهو من المصادر التي تنصب بأفعال لا يستعمل إظهارها، واللام لبيان من دعي عليه بالبعد، ووضع الظاهر موضع ضميرهم للتعليل.
{ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُونًا ءَاخَرِينَ} هي قوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم.
{مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا} الوقت الذي حد لهلاكها و{مِنْ} مزيدة للاستغراق. {وَمَا يَسْتَئْخِرُونَ} الأجل.
{ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا} متواترين واحدًا بعد واحد من الوتر وهو الفرد، والياء بدل من الواو كتولج وتيقور والألف للتأنيث لأن الرسل جماعة، وقرأ أبو عمرو وابن كثير بالتنوين على أنه مصدر بمعنى المواترة وقع حالًا، وأماله حمزة وابن عامر والكسائي. {كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ} إضافة الرسول مع الإِرسال إلى المرسل ومع المجيء إلى المرسل إليهم لأن الإِرسال الذي هو مبدأ الأمر منه والمجيء الذي هو منتهاه إليهم. {فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا} في الإِهلاك. {وجعلناهم أَحَادِيثَ} لم نبق منهم إلا حكايات يسمر بها، وهو اسم جمع للحديث أو جمع أحدوثة وهي ما يتحدث به تلهيًا. {فَبُعْدًا لّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ}.
{ثُمَّ أَرْسَلْنَا موسى وَأَخَاهُ هارون بآياتنا} بالآيات التسع. {وسلطان مُّبِينٍ} وحجة واضحة ملزمة للخصم، ويجوز أن يراد به العصا وأفرادها لأنها أول المعجزات وأمها، تعلقت بها معجزات شتى: كانقلابها حية وتلقفها ما أفكته السحرة، وانفلاق البحر وانفجار العيون من الحجر بضربهما بها، وحراستها ومصيرها شمعة وشجرة خضراء مثمرة ورشاء ودلوًا، وأن يراد به المعجزات وبالآيات الحجج وأن يراد بهما المعجزات فإنها آيات للنبوة وحجة بينة على ما يدعيه النبي صلى الله عليه وسلم.
{إلى فِرْعَوْنَ وَمَلاَءِيْهِ فاستكبروا} على الإِيمان والمتابعة. {وَكَانُواْ قَوْمًا عالين} متكبرين.
{فَقَالُواْ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} ثنى البشر لأنه يطلق للواحد كقوله: {بَشَرًا سَوِيًّا} كما يطلق للجمع كقوله: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَدًا} ولم يثن المثل لأنه في حكم المصدر، وهذه القصص كما نرى تشهد بأن قصارى شبه المنكرين للنبوة قياس حال الأنبياء على أحوالهم لما بينهم من المماثلة في الحقيقة وفساده يظهر للمستبصر بأدنى تأمل، فإن النفوس البشرية وإن تشاركت في أصل القوى والإِدراك لكنها متباينة الأقدام فيهما، وكما ترى في جانب النقصان أغبياء لا يعود عليهم الفكر برادة، يمكن أن يكون في طرف الزيادة أغنياء عن التفكر والتعلم في أكثر الأشياء وأغلب الأحوال، فيدركون ما لا يدرك غيرهم ويعلمون ما لا ينتهي إليه علمهم، وإليه أشار بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يوحى إِلَىَّ أَنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ} {وَقَوْمُهُمَا} يعني بني إسرائيل. {لَنَا عابدون} خادمون منقادون كالعباد.
{فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ المهلكين} بالغرق في بحر قلزم.
{وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا موسى الكتاب} التوراة. {لَعَلَّهُمْ} لعل بني إسرائيل، ولا يجوز عود الضمير إلى {فِرْعَوْنُ} وقومه لأن التوراة نزلت بعد إغراقهم. {يَهْتَدُونَ} إلى المعارف والأحكام.
{وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءَايَةً} بولادتها إياه من غير مسيس فالآية أمر واحد مضاف إليهما، أو {جَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ} آية بأن تكلم في المهد وظهرت منه معجزات أخر {وَأُمَّهُ} آية بأن ولدت من غير مسيس فحذفت الأولى لدلالة الثانية عليها. {وءاويناهمآ إِلَى رَبْوَةٍ} أرض بيت المقدس فإنها مرتفعة أو دمشق أو رملة فلسطين أو مصر فإن قراها على الربى، وقرأ ابن عامر وعاصم بفتح الراء وقرئ {رُبَاوةَ} بالضم والكسر. {ذَاتِ قَرَارٍ} مستقر من الأرض منبسطة. وقيل ذات ثمار وزروع فإن ساكنيها يستقرون فيها لأجلها. {وَمَعِينٍ} وماء معين ظاهر جار فعيل من معن الماء إذا جرى وأصله الابعاد في الشيء، أو من الماعون وهو المنفعة لأنه نفاع، أو مفعول من عانه إذا أدركه بعينه لأنه لظهوره مدرك بالعيون وصف ماءها بذلك لأنه الجامع لأسباب التنزه وطيب المكان.
{يأَيُّهَا الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات} نداء وخطاب لجميع الأنبياء لا على أنهم خوطبوا بذلك دفعة لأنهم أرسلوا في أزمنة مختلفة بل على معنى أن كلًا منهم خوطب به في زمانه، فيدخل تحته عيسى دخولًا أوليًا ويكون ابتداء كلام تنبيهًا على أن تهيئة أسباب التنعم لم تكن له خاصة، وأن إباحة الطيبات للأنبياء شرع قديم واحتجاجًا على الرهبانية في رفض الطيبات، أو حكاية لما ذكر لعيسى وأمه عند إيوائهما إلى الربوة ليقتديا بالرسل في تناول ما رزقا.
وقيل النداء له ولفظ الجمع للتعظيم والطيبات ما يستلذ به من المباحات. وقيل الحلال الصافي القوام فالحلال ما لا يعصى الله فيه والصافي ما لا ينسى الله فيه والقوام ما يمسك النفس ويحفظ العقل. {واعملوا صالحا} فإنه المقصود منكم والنافع عند ربكم. {إِنّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} فأجازيكم عليه.
{وَإِنَّ هذه} أي ولأن {هذه} والمعلل به {فاتقون}، أو واعلموا أن هذه، وقيل إنه معطوف على {مَا تَعْمَلُونَ} وقرأ ابن عامر بالتخفيف والكوفيون بالكسر على الاستئناف. {أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} ملتكم ملة واحدة أي متحدة في الاعتقاد وأصول الشرائع، أو جماعتكم جماعة واحدة متفقة على الإِيمان والتوحيد في العبادة ونصب {أُمَّةً} على الحال. {وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاتقون} في شق العصا ومخالفة الكلمة.
{فَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} فتقطعوا أمر دينهم جعلوه أديانًا مختلفة، أو فتفرقوا وتحزبوا وأمرهم منصوب بنزع الخافض أو التمييز، والضمير لما دل عليه الأمة من أربابها أولها. {زُبُرًا} قطعًا جمع زبور الذي بمعنى الفرقة ويؤيده القراءة بفتح الباء فإنه جمع زبرة وهو حال من أمرهم أو من الواو، أو مفعول ثان ل {فَتَقَطَّعُواْ} فإنه متضمن معنى جعل. وقيل كتبًا من زبرت الكتاب فيكون مفعولًا ثانيًا، أو حالًا من أمرهم على تقدير مثل كتب، وقرئ بتخفيف الباء كرسل في {رُسُلُ}. {كُلُّ حِزْبٍ} من المتحزبين. {بِمَا لَدَيْهِمْ} من الدين. {فَرِحُونَ} معجبون معتقدون أنهم على الحق.
{فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ} في جهالتهم شبهها بالماء الذي يغمر القامة لأنهم مغمورون فيها أو لاعبون بها، وقرئ في {غمراتهم}. {حتى حِينٍ} إلى أن يقتلوا أو يموتوا.
{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ} أن ما نعطيهم ونجعله لهم مددًا، {مِن مَّالٍ وَبَنِينَ} بيان لما وليس خبرًا له، فإنه غير معاتب عليه وإنما المعاتب عليه اعتقادهم أن ذلك خير لهم خبره.
{نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات} والراجع محذوف والمعنى: أيحسبون أن الذي نمدهم به نسارع به لهم فيما فيه خيرهم وإكرامهم {بَل لاَّ يَشْعُرُونَ} بل هم كالبهائم لا فطنة لهم ولا شعور ليتأملوا فيه فيعلموا أن ذلك الإِمداد استدراجٍ لا مسارعة في الخير، وقرئ {يمدهم} على الغيبة وكذلك {يسارع} و{يسرع} ويحتمل أن يكون فيهما ضمير الممد به و{يسارع} مبنيًا للمفعول.
{إِنَّ الذين هُم مّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ} من خوف عذابه. {مُشْفِقُونَ} حذرون.
{والذين هُم بئايات رَبَّهِمْ} المنصوبة والمنزلة. {يُؤْمِنُونَ} بتصديق مدلولها.
{والذين هُم بِرَبّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ} شركًا جليًا ولا خفيًا.
{والذين يُؤْتُونَ مَا ءَاتَواْ} يعطون ما أعطوه من الصدقات، وقرئ {يأتون ما أتوا} أي يفعلون ما فعلوا من الطاعات. {وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} خائفة أن لا يقبل منهم وأن لا يقع على الوجه اللائق فيؤاخذ به. {أَنَّهُمْ إلى رَبّهِمْ راجعون} لأن مرجعهم إليه، أو من أن مرجعهم إليه وهو يعلم ما يخفي عليهم.
{أولئك يسارعون فِي الخيرات} يرغبون في الطاعات أشد الرغبة فيبادرونها، أو يسارعون في نيل الخيرات الدنيوية الموعودة على صالح الأعمال بالمبادرة إليها كقوله تعالى: {فآتاهم الله ثَوَابَ الدنيا} فيكون إثباتًا لهم ما نفي عن أضدادهم. {وَهُمْ لَهَا سابقون} لأجلها فاعلون السبق أو سابقون الناس إلى الطاعة أو الثواب أو الجنة، أو سابقونها أي ينالونها قبل الآخرة حيث عجلت لهم في الدنيا كقوله تعالى: {هُمْ لَهَا عاملون}.
{وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} قدر طاقتها يريد به التحريض على ما وصف به الصالحين وتسهيله على النفوس. {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ} يريد به اللوح أو صحيفة الأعمال. {يَنطِقُ بالحق} بالصدق لا يوجد فيه ما يخالف الواقع. {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} بزيادة عقاب أو نقصان ثواب.
{بَلْ قُلُوبُهُمْ} قلوب الكفرة. {فِي غَمْرَةٍ} في غفلة غامرة لها. {مّنْ هذا} من الذي وصف به هؤلاء أو من كتاب الحفظة. {وَلَهُمْ أعمال مّن دُونِ ذلك} متجاوزة لما وصفوا به أو متخطية عما هم عليه من الشرك. {هُمْ لَهَا عاملون} معتادون فعلها.
{حتى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ} متنعميهم. {بالعذاب} يعني القتل يوم بدر أو الجوع حين دعا عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: «اللهم أشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف» فقحطوا حتى أكلوا الجيف والكلاب والعظام المحرقة. {إِذَا هُمْ يَجْئَرُونَ} فالجآر الصراخ بالاستغاثة، وهو جواب الشرط والجملة مبتدأ بعد حتى ويجوز أن يكون الجواب: {لاَ تَجْئَرُواْ اليوم} فإنه مقدر بالقول أي قيل لهم لا {لاَ تَجْئَرُواْ}. {إِنَّكُمْ مّنَّا لاَ تُنصَرُونَ} تعليل للنهي أي لا تجأروا فإنه لا ينفعكم إذ لا تمنعون منا، أو لا يلحقكم نصر ومعونة من جهتنا.
{قَدْ كَانَتْ ءَايَتِي تتلى عَلَيْكُمْ} يعني القرآن. {فَكُنتُمْ على أعقابكم تَنكِصُونَ} تعرضون مدبرين عن سماعها وتصديقها والعمل بها، والنكوص الرجوع قهقرى.
{مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} الضمير للبيت وشهوة استكبارهم وافتخارهم بأنه قوامه أغنت عن سبق ذكره، أو لآياتي فإنها بمعنى كتابي والباء متعلقة ب {مُسْتَكْبِرِينَ} لأنه بمعنى مكذبين، أو لأن استكبارهم على المسلمين حدث بسبب استماعه أو بقوله: {سامرا} أي تسمرون بذكر القرآن والطعن فيه، وهو في الأصل مصدر جاء على لفظ الفاعل كالعاقبة، وقرئ {سمرًا} جمع سامر {تَهْجُرُونَ} من الهجر بالفتح إما بمعنى القطيعة أو الهذيان، أي تعرضون عن القرآن أو تهذون في شأنه أو الهجر بالضم أي الفحش، ويؤيد الثاني قراءة نافع {تَهْجُرُونَ} من أهجر وقرئ {تَهْجُرُونَ} على المبالغة.
{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القول} أي القرآن ليعلموا أنه الحق من ربهم بإعجاز لفظه ووضوح مدلوله. {أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ ءَابَاءَهُمُ الأولين} من الرسول والكتاب، أو من الأمن من عذاب الله تعالى فلم يخافوا كما خاف آباؤهم الأقدمون كإسماعيل وأعقابه فآمنوا به وبكتابه ورسله وأطاعوه.
{أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ} بالأمانة والصدق وحسن الخلق وكمال العلم مع عدم التعلم إلى غير ذلك مما هو صفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. {فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} دعواه لأحد هذه الوجوه إذ لا وجه له غيرها، فإن إنكار الشيء قطعًا أو ظنًا إنما يتجه إذا ظهر امتناعه بحسب النوع أو الشخص أو بحث عما يدل عليه أقصى ما يمكن فلم يوجد.
{أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} فلا يبالون بقوله وكانوا يعلمون أنه صلى الله عليه وسلم أرجحهم عقلًا وأدقهم نظرًا. {بَلْ جَاءهُمْ بالحق وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارهون} لأنه يخالف شهواتهم وأهواءهم فلذلك أنكروه، وإنما قيد الحكم بالأكثر لأنه كان منهم من ترك الإِيمان استنكافًا من توبيخ قومه أو لقلة فطنته وعدم فكرته لا كراهة للحق.
{وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَاءَهُمْ} بأن كان في الواقع آلهة شتى. {لَفَسَدَتِ السموات والأرض وَمَن فِيهِنَّ} كما سبق تقريره في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} وقيل لو اتبع الحق أهواءهم وانقلب باطلًا لذهب ما قام به العالم فلم يبق، أو لو اتبع الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أهواءهم وانقلب شركًا لجاء الله بالقيامة وأهلك العالم من فرط غضبه، أو لو اتبع الله أهواءهم بأن أنزل ما يشتهونه من الشرك والمعاصي لخرج عن الألوهية ولم يقدر أن يمسك السموات والأرض وهو على أصل المعتزلة. {بَلْ أتيناهم بِذِكْرِهِمْ} بالكتاب الذي هو ذكرهم أي وعظهم أو صيتهم، أو الذكر الذي تمنوه بقولهم {لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْرًا مّنَ الأولين} وقرئ {بذكراهم}. {فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ} لا يلتفتون إليه.
{أَمْ تَسْئَلُهُمْ} قيل إنه قسيم قوله: {أَم بِهِ جِنَّةٌ}. {خَرْجًا} أجرًا على أداء الرسالة. {فَخَرَاجُ رَبّكَ} رزقه في الدنيا أو ثوابه في العقبى. {خَيْرٌ} لسعته ودوامه ففيه مندوحة لك عن عطائهم والخرج بإزاء الدخل يقال لكل ما تخرجه إلى غيرك، والخراج غالب في الضريبة على الأرض ففيه إشعار بالكثرة واللزوم فيكون أبلغ ولذلك عبر به عن عطاء الله إياه، وقرأ ابن عامر {خرجا فخرج} وحمزة والكسائي {خراجًا فخراج} للمزاوجة. {وَهُوَ خَيْرُ الرزقين} تقرير لخيرية خراجه تعالى.
{وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} تشهد العقول السليمة على استقامته لا عوج فيه يوجب اتهامهم له، واعلم أنه سبحانه ألزمهم الحجة وأزاح العلة في هذه الآيات بأن حصر أقسام ما يؤدي إلى الإِنكار والاتهام وبين انتفاءها ما عدا كراهة الحق وقلة الفطنة.
{وَإِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة عَنِ الصراط} عن الصراط السوي. {لناكبون} لعادلون عنه فإن خوف الآخرة أقوى البواعث على طلب الحق وسلوك طريقه. اهـ.