فصل: قال الخطيب الشربيني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخطيب الشربيني:

ثم استأنفوا التصريح بما دل عليه الكلام من استبعاد ذلك فقالوا: {هيهات هيهات} اسم فعل ماض بمعنى مصدر أي: بعد بعد جدًا، وقال ابن عباس: هي كلمة بعد أي: بعيد، ثم كأنه قيل: لأي شيء هذا الاستبعاد؟ فقيل: {لما توعدون} من الإخراج من القبور فإن قيل: ما توعدون هو المستبعد ومن حقه أنّ يرفع بهيهات كما ارتفع به في قوله:
فهيهات هيهات العقيق وأهله

فما هذه اللام؟
أجيب: بأنّ الزجاج قال في تفسيره: البعد لما توعدون فنزل منزلة المصدر، ويصح أنّ تكون اللام لبيان المستبعد ما هو بعد التصويت بكلمة الاستبعاد كما جاءت اللام في هيت لك لبيان المهيت به أو أنّ اللام زائدة للبيان.
فائدة: وقف البزي والكسائي على هيهات الأولى والثانية بالهاء، والباقون بالتاء على المرسوم.
وقولهم: {إن هي} ضمير لا يعلم ما يعنى به إلا بما يتلوه من بيانه، وأصله إن الحياة {إلا حياتنا الدنيا} ثم وضع هي موضع الحياة؛ لأنّ الخبر يدل عليها ويبينها، ومنه هي النفس تتحمل ما حملت، والمعنى: لا حياة إلا هذه الحياة؛ لأنّ إن النافية دخلت على هي التي بمعنى الحياة الدالة على الجنس فنفتها، فوازنت لا التي نفت ما بعدها نفي الجنس {نموت ونحيى} أي: يموت منا من هو موجود وينشأ آخرون بعدهم، وقيل: يموت قوم ويحيا قوم، وقيل: تموت الآباء وتحيا الأبناء، وقيل: في الآية تقديم وتأخير أي: نحيا ونموت لأنهم كانوا ينكرون البعث بعد الموت كما قالوا: {وما نحن بمبعوثين} بعد الموت فكأنه قيل: فما هذا الكلام الذي يقوله؟ فقيل: كذب ثم حصروا أمره في الكذب فقالوا: {إن} أي: ما {هو إلا رجل افترى} أي: تعمد {على الله} أي: الملك الأعلى {كذبًا} فلا يلتفت إليه {وما نحن له بمؤمنين} أي: بمصدقين فيما يخبرنا به من البعث والرسالة، فكأنه قيل: فما قال؟ فقيل: {قال رب} أيها المحسن إلى بالرسالة وبإرسالي إليهم وبغيره من أنواع النعم {انصرني} أي: أوقع لي النصر {بما كذبون} فأجابه ربه بأن: {قال عما قليل} من الزمان وما زائدة وأكدت القلة بزيادتها {ليصبحن} أي: ليصيرنّ {نادمين} أي: على كفرهم وتكذيبهم إذا عاينوا العذاب.
{فأخذتهم الصيحة} أي: صيحة العذاب والهلاك كائنة {بالحق} أي: الأمر الثابت من العذاب الذي لا يمكن مدافعته لهم ولا لغيرهم غير الله تعالى فماتوا، وقيل: صيحة جبريل عليه السلام، ويكون القوم ثمود على الخلاف السابق {فجعلناهم} بسبب الصيحة {غثاء} أي: مطروحين ميتين كما يطرح الغثاء شبهوا في دمارهم بالغثاء وهو حميل السيل مما بلي واسودّ من الورق والعيدان ومنه قوله: {فجعله غثاء أحوى} [الأعلى].
أي: أسود يابسًا، ولما كان هلاكهم على هذا الوجه سببًا لهوانهم عبر عنه بقوله تعالى: {فبعدًا} أي: هلاكًا وطردًا عن الرحمة {للقوم الظالمين} الذين وضعوا قوّتهم التي كان يجب عليهم بذلها في نصر الرسل في خذلانهم.
تنبيه:
يحتمل هذا الدعاء عليهم والإخبار عنهم، ووضع الظاهر موضع ضميرهم للتعليل وبعدًا وسحقًا ونفرًا وتخويفًا ونحوها مصادر موضوعة مواضع أفعالها وهي من جملة المصادر التي قال سيبويه: نصبت بأفعال لا يستعمل إظهارها.
القصة الثالثة:
المذكورة في قوله تعالى: {ثم أنشأنا} أي: بعظمتنا التي يضرها تقديم ولا تأخير {من بعدهم} أي: من بعد من قدّمنا ذكره من نوح والقرن الذي بعده {قرونا} أي: أقوامًا {آخرين} فهو سبحانه وتعالى تارة يقص علينا في القرآن مفصلا كما تقدم، وتارة يقص مجملًا كما هنا، وقيل: المراد قصة لوط وشعيب وأيوب ويوسف عليهم السلام، وعن ابن عباس: بني إسرائيل، ثم إنه تعالى أخبر بأنه لم يعجل على أحد منهم قبل الأجل الذي أجل لهم بقوله تعالى: {ما تسبق من أمة أجلها} أي: الذي قدر لها بأنّ تموت قبله {وما يستأخرون} عنه.
تنبيه:
ذكر الضمير بعد تأنيثه رعاية للمعنى ومن زائدة.
{ثم أرسلنا رسلنا تترًا} أي: متتابعين بين كل اثنين زمان طويل، وقرأ أبو عمرو: رسلنا بسكون السين، والباقون برفعها، وقرأ تترا، ابن كثير وأبو عمرو في الوصل بتنوين الراء على أنه مصدر بمعنى التواتر وقع حالًا، والباقون بغير تنوين، ولما كان كأنه قيل: فكان ماذا؟ قيل: {كلما جاء أمّة رسولها} أي: بما أمرناه من التوحيد {كذبوه} أي: كما فعل هؤلاء بك لما أمرتهم بذلك.
تنبيه:
أضاف الرسول مع الإرسال إلى الرسل ومع المجيء إلى المرسل إليهم؛ لأنّ الإرسال الذي هو مبدأ الأمر منه والمجيء الذي هو منتهاه إليهم، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية بين الهمزة والواو، والباقون بتحقيقهما، وهم على مراتبهم في المدّ {فأتبعنا} القرون بسبب تكذيبهم {بعضهم بعضًا} في الإهلاك، فلم يبق عند الناس منهم إلا أخبارهم كما قال تعالى: {وجعلناهم أحاديث} أي: أخبار يسمعونها ويتعجب منها ليكونوا عظة للمستبصرين فيعلموا أنه لا يفلح الكافرون ولا يخيب المؤمنون، وما أحسن قول القائل:
ولا شيء يدوم فكن حديثًا ** جميل الذكر فالدنيا حديث

والأحاديث تكون جمعًا للحديث، ومنه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكون جمعًا للأحدوثة التي هي مثل الأعجوبة والألعوبة وهي ما يتحدث به الناس تلهيًا وتعجبًا وهو المراد هنا، ولما تسبب عن تكذيبهم هلاكهم المقتضي لبعدهم قال تعالى: {فبعدًا لقوم} أي: أقوياء على ما يطلب منهم {لا يؤمنون} أي: لا يوجد منهم إيمان وإن جرت عليهم الفصول الأربعة لأنه لا مزاج لهم معتدل.

.القصة الرابعة: قصة موسى وهارون عليهما السلام

المذكورة في قوله تعالى: {ثم أرسلنا} أي: بما لنا من العظمة {موسى وأخاه هارون بآياتنا} قال ابن عباس: الآيات التسع وهي العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم والبحر والسنين ونقص الثمرات {وسلطان مبين} أي: حجة بيّنة وهي العصا وأفردها بالذكر؛ لأنها قد تعلق بها معجزات شتى من انقلابها حية وتلقفها ما أفكته السحرة وانفلاق البحر وانفجار العيون من الحجر بضربها، وكونها حارسًا وشمعة وشجرة خضراء مثمرة ودلوًا ورشاء، فجعلت كأنها ليست بعصا لما استبدت به من الفضائل فلذلك عطفت عليها كقوله تعالى: {من كان عدوًّا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال}، ويجوز أنّ يراد بالآيات نفس تلك المعجزات وبالسلطان المبين كيفية دلالتها على الصدق وذلك لأنها وإن شاركت آيات سائر الأنبياء في كونها آيات، فقد فارقتها في قوّة دلالتها على قول موسى عله السلام، وإنّ يراد بالسلطان المبين المعجزات وبالآيات الحجج، وإنّ يراد بها المعجزات فإنها آيات النبوّة وحجة بينة على ما يدعيه النبي، قال الرازي: واعلم أنّ الآية تدل على أنّ معجزات موسى كانت معجزات هارون أيضًا وأنّ النبوّة كما كانت مشتركة بينهما، فكذلك المعجزات.
{إلى فرعون وملئه} أي: وقومه ولكن لما كان الأطراف لا يخافون الأشراف عدهم عدمًا، ومن الواضح أنّ التقدير أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، وأشار بقوله تعالى: {فاستكبروا} إلى أنهم أوجدوا الكبر عن الاتباع فيما دعوهم إليه عقب الإبلاغ من غير تأمل ولا تثبت، وطلبوا أنّ لا يكونوا تحت أمر من دعاهم، وأشار بالكون إلى فساد جبلتهم بقوله تعالى: {وكانوا قومًا} أي: أقوياء {عالين} أي: متكبرين قاهرين غيرهم بالظلم، ولما تسبب عن استكبارهم وعلوهم إنكارهم للاتباع قال تعالى: {فقالوا أنؤمن} أي: بالله تعالى مصدقين {لبشرين مثلنا} أي: في البشرية والمأكل والمشرب وغيرهما مما يعتري البشر كما قال من تقدمهم: {وقومهما} أي: والحال أنّ قومهما أي: بني إسرائيل {لنا عابدون} خضوعًا وتذللًا أي: في غاية الذل والانقياد كالعبيد، فنحن أعلى منهما بهذا، أو لأنه كان يدعي الإلهية، فادعى للناس العبادة وأنّ طاعتهم له عبادة على الحقيقة.
{فكذبوهما} أي: فرعون وملؤه موسى وهارون، {فكانوا} أي: فرعون وملؤه بسبب تكذيبهم {من المهلكين} أي: بالغرق ببحر القلزم ولم تغنِ عنهم قوّتهم في أنفسهم، ولا قوتهم على خصوص بني إسرائيل واستعبادهم ولا ضر بني إسرائيل ضعفهم عن دفاعهم ولا ذلهم لهم وصغارهم في أيديهم، ولما كان ضلال بني إسرائيل بعد إنقاذهم من عبودية فرعون وقومه أعجب قال تعالى تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم.
{ولقد آتينا} أي: بعظمتنا {موسى الكتاب} أي: التوراة {لعلهم} أي: قوم موسى وهارون عليهما السلام {يهتدون} من الضلالة إلى المعارف والأحكام، ولا يصح عود الضمير إلى فرعون وملئه؛ لأنّ التوراة إنما أوتيها بنو إسرائيل بعد إغراق فرعون وملئه بدليل قوله تعالى: {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى} [القصص].