فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ}.
قد ذكرنا الآيات التي فيها إيضاح لمعنى هذه الآية في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] وبينا هناك وجه أفراد السمع مع الجمع للأبصار والأفئدة، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
{وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأرض وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79)}.
ذرأكم معناه: خلقكم، ومنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الجن والإنس} [الأعراف 179] الآية وقوله في الأرض: أي خلقكم كم وبثكم في الأرض، عن طريق التناسل، كما قال تعالى: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1] الآية وقال: {ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} [الروم: 20] وقوله: {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي إليه وحده، تجمعون يوم القيامة أحياء بعد البعث للجزاء والحساب.
وما تضمنته هذه الآية، من أنه خلقهم، وبثهم في الأرض. وأنه سيحشرهم إليه يوم القيامة. جاء معناه في آيات كثيرة كقوله في أول هذه السورة {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ} [المؤمنون: 12] إلى قوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 16] وذكر جل وعلا أيضًا هاتين الآيتين في سورة الملك في قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الذي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ قُلْ هُوَ الذي ذَرَأَكُمْ فِي الأرض وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الملك: 23- 25] والآيات في هذا المعنى كثيرة.
قوله تعالى: {وَهُوَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ}.
قد قدمنا الآيات الدالة على الإماتتين والإحياءتين، وأن ذلك من أكبر الدواعي للإيمان به جل وعلا في سورة الحج في الكلام على قوله: {وَهُوَ الذي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [الحج: 66] وفي سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة: 28] الآية. فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
قوله تعالى: {وَلَهُ اختلاف الليل والنهار أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}.
بين جل وعلا في هذه الية الكريمة: أن له اختلاف الليل والنهار، يعني: أن ذلك هو الفاعل له وهو الذي يذهب بالليل، ويأتي بالنهار، ثم يذهب بالنهار ويأتي بالليل، واختلاف الليل والنهار، من أعظم آياته الدالة على كمال قدرته، ومن أعظم مننه على خلقه كما بين الأمرين في سورة القصص في قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَدًا إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النهار سَرْمَدًا إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} [القصص: 71- 73] الآية. أي لتسكنوا في الليل وتطلبوا معايشكم بالنهار. والآيات الدالة على اختلاف الليل والنهار، من أعظم الآيات الدالة على عظمة الله، واستحقاقه للعبادة وحده كثيرة جدًا كقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الليل والنهار} [فصلت: 37] الآية وقوله: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ} [يس: 37] وقوله: {يُغْشِي الليل النهار} [الأعراف: 54] وقوله: {وَلاَ الليل سَابِقُ النهار} [يس: 40] وقوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار} [إبراهيم: 33] الآية. وقوله تعالى: {إِنَّ فِي اختلاف الليل والنهار وَمَا خَلَقَ الله فِي السماوات والأرض لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ} [يونس: 6] والآيات بمثل هذا كثيرة جدًا، وقوله تعالى: {أفلا تعقلون} أي تدركون بعقولكم أن الذي ينشئ السمع والأبصار والأفئدة، ويذرؤكم في الأرض وإليه تحشرون، وهو الذي يحيي ويميت ويخالف بين الليل والنهار أنه الإله الحق المعبود وحده جل وعلا، الذي لا يصح أن يسوى به غيره سبحانه وتعالى علوًا كبيرًا.
{بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82)}.
لفظة بل هنا للإضراب الانتقالي. والمعنى: أن الكفار الذين كذبوا نبينا صلى الله عليه وسلم، قالوا مثل ما قالت الأمم قبلهم، من إنكار البعث، لأن الاستفهام في قوله: {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [المؤمنون: 82] إنكار منهم للبعث.
والآيات الدالة على إنكارهم للبعث كثيرة كقوله تعالى عنهم: {مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] وكقوله عنهم: {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الأنعام: 29] {وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} [الدخان: 35] وقوله عنهم: {أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً قَالُواْ تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} [النازعات: 11- 12]. والآيات بمثل هذا في إنكارهم البعث كثيرة: وقد بينا في سورة البقرة، في الكلام على قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ} [البقرة: 21] الآية. وفي أول سورة النحل، وغيرهما الآيات الدالة على البعث بعد الموت، وأوردنا منها كثيرًا كقوله: {قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] الآية. وقوله: {وَهُوَ الذي يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] وقوله تعالى: {يا أيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البعث فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ} [الحج: 5] الآيات. وأوضحنا أربعة براهين قرآنية دالة على البعث بعد الموت، وأكثرنا من ذكر الآيات الدالة على ذلك. فأغنى ذلك عن التطويل هنا. وقوله تعالى في هذه الآية {أَإِذَا مِتْنَا} قرأ نافع والكسائي، بالاستفهام في: {أئذا متنا}، وحذف همزة الاستفهام في {أئنا لمبعوثون}، بل قرأ {إنا لمبعوثون} بصيغة الخبر لدلالة الاستفهام الأول، على الاستفهام الثاني المحذوف وقرأه ابن عامر بالعكس، فحذف همزة الاستفهام، من أئذا، وقرأ {إذا} بدون استفهام، وأثبت همزة الاستفهام في قوله: {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} وقد دل الاستفهام الثاني المثبت في قراءة ابن عامر، على الاستفهام الأول المحذوف فيها، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة بالاستفهام فيهما معًا: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} وهم على أصولهم في الهمزتين، فنافع وابن كثير وأبو عمرو يسهلون الثانية، والباقون يحققونها، وأدخل قالون، وأبو عمرو وهشام عن ابن عامر ألفًا بين الهمزتين. وقرأ الباقون بالقصر دون الألف، وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص، عن عاصم: {متنا} بكسر الميم، والباقون: بضم الميم. وقد قدمنا في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى: {قَالَتْ ياليتني مِتُّ قَبْلَ هذا} [مريم: 23] الآية وجه كسر الميم في إسناد الفعل الذي هو مات إلى تاء الفاعل، وبينا أنه يخفى على كثير من طلبة العلم. وأوضحنا وجهة غاية مع بعض الشواهد العربية، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
{لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أن الكفار المنكرين للبعث قالوا: إنهم وعدوا بالبعث، ووعد به آباؤهم من قبلهم. والظاهر أنهم يعنون أجدادهم، الذين جاءتهم الرسل، وأخبرتهم بأنهم يبعثون بعد الموت للحساب والجزاء، وقالوا: إن البعث الذي وعدوا به هم وآباؤهم كذب لا حقيقة له، وأنه ما هو إلا أساطير الأولين: أي ما سطروه وكتبوه من الأباطيل والترهات، والأساطير: جمع أسطورة، وقيل: جمع أسطارة. وهذا الذي ذكره عنهم من إنكارهم البعث ذكر مثله في سورة النمل في قوله: {وَقَالَ الذين كفروا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَآؤُنَآ أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا هذا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين} [النمل: 67- 68] ثم إنه تعالى أقام البرهان على البعث، الذي أنكروه في هذه الآية بقوله: {قُل لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون: 84] إلى قوله: {فأنى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 89] لأن من له الأرضن ومن فيها، ومن هو رب السموات السبع، ورب العرش العظيم، ومن بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه، لا شك أنه قادر على بعث الناس بعد الموت، كما أوضحنا فيما مر البراهين القرآنية القطعية، الدالة على ذلك. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ}.
هذا رجوع إلى غرض الاستدلال على انفراد الله تعالى بصفات الإلهية والامتنان بما منح الناس من نعمة لعلهم يشكرون بتخصيصه بالعبادة، وذلك قد انتقل عنه من قوله: {وعليها وعلى الفلك تحملون} [المؤمنون: 22] فانتقل إلى الاعتبار بآية فُلك نوح عليه السلام فأتبع بالاعتبار بقصص أقوام الرسل عقب قوله تعالى: {وعليها وعلى الفلك تحملون} [المؤمنون: 22] فالجملة إما معطوفة على جملة {وإن لكم في الأنعام لعبرة} [المؤمنون: 21] والغرض واحد وما بينهما انتقالات.
وإما مستأنفة رجوعًا إلى غرض الاستدلال والامتنان وقد تقدمت الإشارة إلى هذا عند قوله تعالى: {ولقد أرسلنا نوحًا إلى قومه} [المؤمنون: 23].
وفي هذا الانتقال من أسلوب إلى أسلوب ثم الرجوع إلى الغرض تجديد لنشاط الذهن وتحريك للإصغاء إلى الكلام وهو من أساليب كلام العرب في خطبهم وطوالهم.
وسماه السكاكي: قرى الأرواح.
وجعله من آثار كرم العرب.
وقوله: {وهو الذي أنشأ لكم السمع} تذكير بوحدانية الله تعالى.
والأظهر أن يكون ضمير الجلالة مسندًا واسم الموصول مسندًا إليه لأنهم علموا أن منشئًا أنشأ لهم السمع والأبصار، فصاحب الصلة هو الأولى بأن يعتبر مسندًا إليه وهم لما عبدوا غيره نزلوا منزلة من جهل أنه الذي أنشأ لهم السمع فأتى لهم بكلام مفيد لقصر القلب أو الإفراد، أي الله الذي أنشأ ذلك دون أصنامكم.
والخطاب للمشركين على طريقة الالتفات، أو لجميع الناس، أو للمسلمين، والمقصود منه التعريض بالمشركين. والإنشاء: الإحداث، أي الإيجاد. وجمع الأبصار والأفئدة باعتبار تعدد أصحابها. وأما إفراد السمع فجرى على الأصل في إفراد المصدر لأن أصل السمع أنه مصدر.
وقيل: الجمع باعتبار المتعلقات فلما كان البصر يتعلق بأنواع كثيرة من الموجودات وكانت العقول تدرك أجناسًا وأنواعًا جُمِعا بهذا الاعتبار. وأفرد السمع لأنه لا يتعلق إلا بنوع واحد وهو الأصوات. وانتصب {قليلًا} على الحال من ضمير {لكم}.
و{ما} مصدرية. والتقدير: في حال كونكم قليلًا شكركم.
فإن كان الخطاب للمشركين فالشكر مراد به التوحيد، أي فالشكر الصادر منكم قليل بالنسبة إلى تشريككم غيره معه في العبادة.
وإن كان الخطاب لجميع الناس فالشكر عام في كل شكر نعمة وهو قليل بالنسبة لقلة عدد الشاكرين، لأن أكثر الناس مشركون كما قال تعالى: {ولا تجد أكثرهم شاكرين} [الأعراف: 17].
وإن كان الخطاب للمسلمين والمقصود التعريض بالمشركين فالشكر عام وتقليله تحريض على الاستزادة منه ونبذ الشرك.
{وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأرض وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79)}.
هو على شاكلة قوله: {وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار} [المؤمنون: 78].
والذرء: البث. وتقدم في سورة الأنعام (136).
وهذا امتنان بنعمة الإيجاد والحياة وتيسير التمكن من الأرض وإكثار النوع لأن الذرء يستلزم ذلك كله.
وهذا استدلال آخر على انفراد الله تعالى بالإلهية إذ قد علموا أنه لا شريك له في الخلق فكيف يشركون معه في الإلهية أصنافًا هم يعلمون أنها لا تخلق شيئًا.