فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهو أيضًا استدلال على البعث لأن الذي أحيا الناس عن عدم قادر على إعادة إحيائهم بعد تقطع أوصالهم.
وقوبل الذرء بضده وهو الحشر والجمع، فإن الحشر يجمع كل من كان على الأرض من البشر.
وفيه محسن الطباق.
والمقصود من هذه المقابلة الرد على منكري البعث، فتقديم المجرور في {إليه تحشرون} تعريض بالتهديد بأنهم محشورون إلى الله فهو يجازيهم.
{وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80)}.
هو من أسلوب {وهو الذي أنشأ لكم السمع} [المؤمنون: 78] وأعقب ذكر الحشر بذكر الإحياء لأن البعث إحياء إدماجًا للاستدلال على إمكان البعث في الاستدلال على عموم التصرف في العالم.
وأما ذكر الإماتة فلمناسبة التضاد، ولأن فيها دلالة على عظيم القدرة والقهر.
ولما كان من الإحياء خلْق الإيقاظ ومن الإماتة خلق النوم كما قال تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها} [الزمر: 42] الآية عطف على ذلك أن بقدرته اختلاف الليل والنهار لتلك المناسبة، ولأن في تصريف الليل والنهار دلالة على عظيم القدرة، والعلم دلالة على الانفراد بصفات الإلهية وعلى وقوع البعث كما قال تعالى: {كما بدأكم تعودون} [الأعراف: 29].
واللام في {له اختلاف الليل والنهار} للملك، أي بقدرته تصريف الليل والنهار، فالنهار يناسب الحياة ولذلك يسمى الهبوب في النهار بعثًا، والليلُ يناسب الموت ولذلك سمى الله النوم وفاةً في قوله: {وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه} [الأنعام: 60].
وتقديم المجرور للقصر، أي له اختلاف الليل والنهار لا لغيره، أي فغيره لا تحق له الإلهية.
ولما كانت هذه الأدلة تفيد من نظر فيها علمًا بأن الإله واحد وأن البعث واقع وكان المقصودون بالخطاب قد أشركوا به ولم يهتدوا بهذه الأدلة جُعلوا بمنزلة غير العقلاء فأنكر عليهم عدم العقل بالاستفهام الإنكاري المفرع على الأدلة الأربعة بالفاء في قوله: {أفلا تعقلون}.
وهذا تذييل راجع إلى قوله: {وإليه تحشرون} [المؤمنون: 79] وما بعده.
{بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81)}.
هذا إدماج لذكر أصل آخر من أصول الشرك وهو إحالة البعث بعد الموت.
و بل للإضراب الإبطالي إبطالًا لكونهم يعقلون.
وإثباتٌ لإنكارهم البعث مع بيان ما بعثهم على إنكاره وهو تقليد الآباء.
والمعنى: أنهم لا يعقلون الأدلة لكنهم يتبعون أقوال آبائهم.
والكلام جرى على طريقة الالتفات من الخطاب إلى الغيبة لأن الكلام انتقل من التقريع والتهديد إلى حكاية ضلالهم فناسب هذا الانتقال مقام الغيبة لما في الغيبة من الإبعاد فالضمير عائد إلى المخاطبين.
والقول هنا مراد به ما طابق الاعتقاد لأن الأصل في الكلام مطابقة اعتقاد قائله، فالمعنى: بل ظنوا مثل ما ظن الأولون.
والأولون: أسلافهم في النسب أو أسلافهم في الدين من الأمم المشركين.
وجملة {قالوا أإذا متنا} إلخ بدل مطابق من جملة {قالوا مثل ما قال الأولون} تفصيل لإجمال المماثلة، فالضمير الذي مع {قالوا} الثاني عائد إلى ما عاد إليه ضمير {قالوا} الأول وليس عائدًا على {الأولون}.
ويجوز جعل {قالوا} الثاني استئنافًا بيانيًا لبيان {ما قال الأولون} ويكون الضمير عائدًا إلى {الأولون} والمعنى واحد على التقديرين.
وعلى كلا الوجهين فإعادة فعل قالوا من قبيل إعادة الذي عمل في المبدل منه.
ونكتته هنا التعجيب من هذا القول.
وقرأ الجمهور {أإذا متنا} بهمزتين على أنه استفهام عن الشرط، وقرأه ابن عامر بهمزة واحدة على صورة الخبر والاستفهام مقدر في جملة {إنا لمبعوثون}، وقرأ الجمهور {أإنّا لمبعوثون} بهمزتين على تأكيد همزة الاستفهام الأولى بإدخال مثلها على جواب الشرط، وقرأه نافع وأبو جعفر بدون همزة استفهام ووجود همزة الاستفهام داخلة على الشرط كاف في إفادة الاستفهام عن جوابه.
والاستفهام إنكاري، و{إذا} ظرف لقوله: {مبعوثون}.
والجمع بين ذكر الموت والكون ترابًا وعظامًا لقصد تقوية الإنكار بتفظيع إخبار القرآن بوقوع البعث، أي الإحياء بعد ذلك التلاشي القوي.
وأما ذكر حرف إن في قولهم {أإنا لمبعوثون} فالمقصود منه حكاية دعوى البعث بأن الرسول الذي يدعيها بتحقيق وتوكيد مع كونها شديدة الاستحالة، ففي حكاية توكيد مدعيها زيادة في تفظيع الدعوى في وهمهم.
وجملة {لقد وعدنا} إلخ تعليل للإنكار وتقوية له.
وقد جعلوا مستند تكذيبهم بالبعث أنه تكرر الوعد به في أزمان متعددة فلم يقع ولم يبعث واحد من آبائهم.
ووجه ذكر الآباء دفع ما عسى أن يقول لهم قائل: إنكم تبعثون قبل أن تصيروا ترابًا وعظامًا، فأعَدوا الجواب بأن الوعد بالبعث لم يكن مقتصرًا عليهم فيقعوا في شك باحتمال وقوعه بهم بعد موتهم وقبل فناء أجسامهم بل ذلك وعد قديم وُعد به آباؤهم الأولون وقد مضت أزمان وشوهدت رفاتهم في أجداثهم وما بعث أحد منهم.
وجملة {إن هذا إلا أساطير الأولين} من القول الأول وهي مستأنفة استئنافًا بيانيًا لجواب سؤال يثيره قولهم {لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل} وهو أن يقول سائل: فكيف تمالأ على هذه الدعوى العدد من الدعاة في عصور مختلفة مع تحققهم عدم وقوعه، فيجيبون بأن هذا الشيء تلقفوه عن بعض الأولين فتناقلوه.
والإشارة في قوله: {لقد وعدنا هذا} إلى ما تقدم في قولهم {أإذا متنا} إلى آخره، أي هذا المذكور من الكلام.
وكذلك اسم الإشارة الثاني {إن هذا إلا أساطير الأولين}.
وصيغة القصر بمعنى: هذا منحصر في كونه من حكايات الأولين.
وهو قصر إضافي لا يعدو كونه من الأساطير إلى كونه واقعًا كما زعم المدّعون.
والعدول عن الإضمار إلى اسم الإشارة الثاني لقصد زيادة تمييزه تشهيرًا بخطئه في زعمهم.
والأساطير: جمع أسطورة وهي الخبر الكاذب الذي يكسى صفة الواقع مثل الخرافات والروايات الوهمية لقصد التلهي بها.
وبناء الأفعولة يغلب فيما يراد به التلهي مثل: الأعجوبة والأضحوكة والأرجوحة والأحدوثة وقد مضى قريبًا. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ}.
الحق- سبحانه وتعالى- يقول: خلقتُ عبادي من عدم، وأمددتهم بأقوات الحياة ومقوماتها من عدم، ثم جعلتُ لهم منهجًا ينظم حركة حياتهم ويصُون بنيتهم، لأن صاحب الصنعة أعلم بصنعته، وأعلم يما يصلحها، ويعرف غايتها التي خلقها من أجلها، فالذي صنع الثلاجة مثلًا هل صنعها أولًا ثم قال لنا: انظروا في أيِّ شيء تفيدكم هذه الآلة؟ لا، إنما قبل أن يصنعها حدّد مهمتها، والغاية منها، وكذلك خلق الله، ولله المثل الأعلى.
والذي خلق وحَدَّد الغاية أعلم بقانون الصيانة الذي يحمي صنعته من الفساد، ويجعلها تؤدي مهمتها على أكمل وجه، فإنْ خالفت قانون الصيانة الذي وضعه لك ربك تفسد حياتك وتتعطّل عن أداء مهمتك التي خلقت لها، وهي عبادة الله وحده لا شريك له: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
لذلك أمركم إن اختلفتم في شيء أنْ تردوه إلى الله وإلى الرسول، كما ترد الآلة إلى صانعها العالم بطبيعتها وبمواطن الخلل فيها، ونستنبط من هذه المسألة: إذا رأيتَ خللًا في الكون أو فسادًا في ناحية من نواحيه، وإذا رأيت عورة من العورات قد ظهرتْ فاعلم أن حُكْمًا لله قد عُطِّل.
فمثلًا إنْ رأيتَ فقيرًا جائعًا عاريًا فإما أنه قادر على العمل لكنه قعد عن السعي وخالف قوله تعالى: {فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النشور} [الملك: 15] أو: أن القادرين العاملين حرموه حقّه الذي جعله الله له في أموالهم، وخالفوا قوله تعالى: {وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم} [الذاريات: 19].
لذلك، فالحق- سبحانه وتعالى- يُجري على عباده من المقادير ما يحفظ لهم توازن الحياة ويسُدُّ حاجة المحتاجين، كما نرى مثلًا أحد الأثرياء يترك بلده، وينتقل إلى بلد آخر يضع فيها أمواله وثرواته، وليس هناك لهذه النقلة إلا أنها خاطر سلَّطه الله عليه ليحفظ به توزيع المال في المجتمع، ولو حسبتها لوجدتَ أن هذا المكان زادت فيه حصيلة الزكاة عن حاجة المحتاجين، فانتقل إلى بلد آخر قلَّت فيه الأموال عن حاجة الفقراء والمحتاجين.
وبعد ذلك لم يتركك ربك، بل عرض لك الآيات التي تلفتك إليه، وتُحنِّنك إلى التعرُّف عليه، وهي إما آيات كونية عجيبة تدل على قدرة الله تعالى، أو معجزات تثبت صِدْق الأنبياء في البلاغ عن الله؛ لأن الله تعالى لا يخاطب عباده كل واحد بمفرده، إنما يرسل رسولًا ليُبلِّغهم ثم يُؤيِّده بالمعجزة الدالة على صِدْقه في البلاغ.
فحين تنظر في آيات الكون وتستدل بها على وجود خالق قادر لكنك لا تعرف مَنْ هو هذا الخالق يأتي الرسول ليقول لك: إنه الله، وقد ضربنا لذلك مثلًا- ولله المثل الأعلى: هَبْ أن أحدًا دَقَّ الباب ونحن جلوس بالداخل فما الذي يحدث؟ نتفق نحن جميعًا على أن طارقًا بالباب. لكن مَنْ هو؟ لا أحد يعلم. فالاتفاق هنا في التعقُّل، وأن هناك قوةً خلف الباب تدقّه، لكن مَنْ هو؟ وماذا يريد؟ لابد لمعرفة هذه المسائل من بلاغ عن هذه القوة، وإياك أنْ تقول بالظن: هذا فلان وأنا أقول هذا فلان، إنما علينا أن ننتظر البلاغ منه لنعرف مَنْ هو، وما عليك إلا أنْ تقول: مَنْ بالباب وسوف يخبرك هو عن نفسه، وعن سبب مجيئه، وماذا يريد. ثم بعد ذلك تأتي الآيات التي تحمل منهج الله، وتخبرك أنه يريد منك كذا وكذا.
الشاهد: أن هذه الآيات كلها تحتاج إلى وسائل لإدراكها، تحتاج إلى سمع وبصر لنراها ونسمعها، ثم تحتاج إلى عقل لنفكر فيها ونتأملها؛ لذلك يقول سبحانه: {وَهُوَ الذي أَنْشَأَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة} [المؤمنون: 78].
السمع والبصر من الحواس التي سماها العلماء احتياطًا الحواس الخمس الظاهرة أي: أن هناك حواسَّ أخرى لم يكتشفوها، وفعلًا اكتشفها العلم بعد ذلك كحاسة العضل التي تميز بها الثقل، وحاسة البين التي تميز بها الغليظ من الرقيق في الثياب مثلًا، فهذه الأشياء لا تستطيع التعرّف عليها بالحواسِّ الخمس المعروفة.
وعُمْدة الحواس: السمع والبصر؛ لأنه إذا جاءني رسول يُبلِّغني عن الله لابد أن أسمع منه، فإنْ كنتَ مؤمنًا بإله فقد اكتفيتَ بحاسة السمع، وإنْ كنتَ غير مؤمن تحتاج إلى بصر لتبصر به آياته الدالة على وجوده وقدرته، وتستدل بالصَّنْعة على الصانع، وبالخِلْقة على الخالق، وتقف على ما في كوْن الله من الدقة والإحكام والهندسة والإبداع.
وهذه مهمة العقل بعد أن تحولت المسموعات والمرئيات إلى قضايا ومبادئ عقلية تحكم حياتك، كما لو رأيتَ النار بعينك ثم لمستها بيدك فأحرقتك فتكوَّنت لديك قضية عقلية مُؤدّاها أن النار لها خاصية الإحراق فلا تلمسها بعد ذلك، وهذه تراها حتى في الطفل الصغير حينما يعجبه قرن الشطة مثلًا فيقضمه فيشعر بحرارته وألمه.
فإن رآه بعد ذلك يقول أوف، فهذه اللفظة بالنسبة للطفل قضية عقلية تكوَّنَتْ لديه نتيجة تجربة استقرتْ في فؤاده، وأخذها مبدًا يسير عليه في كل حياته، وهكذا من المحسّات ومن تجارب الحياة تتكوَّن لديك قضايا عقلية تستفيد بها فيما بعد.
إذن: من وسائل الإدراك تتكوَّن المبادئ والقضايا التي يأخذها العقل، ويفاضل بينها حتى ينتهي إلى قضية ومبدأ يستقر في القلب ونُسمِّيها عقيدة يعني: شيء معقود عليه لا ينحلّ.
وحين تتأمل حديث القرآن عن الحواس تجده يُرتِّبها دائمًا هذا الترتيب: السمع والبصر والفؤاد لأنها عُمْدة الحواس، فالشمُّ مثلًا والتذوق واللمس لا نحتاج إليه إلا قليلًا، أما السمع والبصر فعليهما تقوم مسألة الدعوة: السمع لسماع البلاغ، والبصر لنرى آيات الله الدالة على قدرته تعالى.