فصل: تفسير الآيات (93- 96):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (93- 96):

قوله تعالى: {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أقام الدليل على كذبهم بالأدلة على عظمته، وتعاليه عن كل ما يقول الظالمون، وبين لهم الأمر غاية البيان بعد أن هددهم بمثل قوله وما يشعرون {حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب} ونحوه من مثل ما أنزله بالماضين، وأحله بالمكذبين، وكان من المعلوم أنه ليس بعد الإعذار إلا إيقاع القضاء وإنزال البلاء، وكان من الممكن أن يعم سبحانه الظالم وغيره بعذابه لأنه لا يسأل عما يفعل، أمره أن يتعوذ من ذلك إظهارًا لعظمة الربوبية ذل العبودية فقالك {قل رب} أي أيها المحسن إلى، وأكد إظهارًا لعظمة المدعو به وإعلامًا بما للنبي صلى الله عليه وسلم من مزيد الشفقة على أمته مؤمنهم وكافرهم {إما تريني} أي إن كان ولابد من أن تريني قبل موتي {ما يوعدون} ثم نبهه على الزيادة في الضراعة بتكرير النداء بصفة الإحسان تعبدًا وتخشعًا، وتذللًا وتخضعًا، إشارة إلى أن الله سبحانه له أن يفعل ما يشاء، فينبغي لأقرب خلقه إليه أن يكون على غاية الحذر منه فقال: {رب فلا تجعلني} بإحسانك إلى وفضلك عليّ فيهم، هكذا كان الأصل ولكنه أظهر الوصف تعميمًا للدعوة وتعليقًا للحكم بالوصف فقال: {في القوم الظالمين} أي الذين أعمالهم أعمال من يمشي في الظلام، فهي في غير مواضعها، فضلًا عن أن أكون منهم فإنه يوشك أن يخصهم العذاب ويعم من جاورهم لوخامة الظلم وسوء عاقبته.
ولما أرشد التعبير بأداة الشك إلى أن التقدير: فإنا على العفو عنهم وعلى الإملاء لهم لقادرون، عطف عليه قوله مؤكدًا لما لهم من التكذيب المتضمن للطعن في القدرة وهم المقصودون بالتهديد: {وإنا} أي بما لنا من العظمة {على أن نريك} أي قبل موتك {ما نعدهم} من العذاب {لقادرون} ولما لاح من هذا أن أخذهم وتأخيرهم في الإمكان على حد سواء، وكانوا يقولون ويفعلون ما لا صبر عليه إلا بمعونة من الله، كان كأنه قال: فماذا أفعل فيما تعلم من أمرهم؟ فقال آمرًا له بمداواته: {ادفع} وفخم الأمر بالموصول لما فيه من الإيهام المشوق للبيان ثم بأفعل التفضيل فقال: {بالتي هي أحسن} أي من الأقوال والأفعال بالصفح والمداراة {السيئة} ثم خفف عنه ما يجد من ثقلها بقوله: {نحن أعلم} أي من كل عالم {بما يصفون} في حقك وحقنا، فلو شئنا منعناهم منه أو عاجلناهم بالعذاب وليس أحد بأغير منا فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93)}.
قال صاحب الكشاف: ما والنون مؤكدتان، أي إن كان ولابد من أن تريني ما تعدهم من العذاب في الدنيا أو في الآخرة، فلا تجعلني قرينًا لهم ولا تعذبني بعذابهم، فإن قيل كيف يجوز أن يجعل الله نبيه المعصوم مع الظالمين حتى يطلب أن لا يجعله معهم؟ قلنا يجوز أن يسأل العبد ربه ما علم أنه يفعله، وأن يستعيذ به مما علم أنه لا يفعله إظهارًا للعبودية وتواضعًا لربه.
وما أحسن قول الحسن في قول الصديق: وليتكم ولست بخيركم، مع أنه كان يعلم أنه خيرهم، ولكن المؤمن يهضم نفسه، وإنما ذكر رب مرتين مرة قبل الشرط ومرة قبل الجزاء مبالغة في التضرع.
أما قوله تعالى: {وَإِنَّا على أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لقادرون} ففيه قولان:
أحدهما: أنهم كانوا ينكرون الوعد بالعذاب ويضحكون منه، فقيل لهم: إن الله قادر على إنجاز ما وعد ويحتمل عذابًا في الدنيا مؤخرًا عن أيامه عليه السلام، فلذلك قال بعضهم: هو في أهل البغى، وبعضهم في الكفار الذين قوتلوا بعد الرسول صلى الله عليه وسلم والثاني: أن المراد عذاب الآخرة.
أما قوله: {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ السيئة نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} فالمراد منه أن الأولى به عليه السلام أن يعامل به الكفار فأمر باحتمال ما يكون منهم من التكذيب وضروب الأذى، وأن يدفعه بالكلام الجميل كالسلام وبيان الأدلة على أحسن الوجوه، وبين له أنه أعلم بحالهم منه عليه السلام وأنه سبحانه لما لم يقطع نعمه عنهم، فينبغي أن يكون هو عليه السلام مواظبًا على هذه الطريقة، قال صاحب الكشاف قوله: {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ السيئة} [المؤمنون: 96] أبلغ من أن يقال بالحسنة السيئة لما فيه من التفضيل، والمعنى الصفح عن إساءتهم ومقابلتها بما أمكن من الإحسان، حتى إذا اجتمع الصفح والإحسان وبذل الطاقة فيه كانت حسنة مضاعفة بإزاء السيئة.
وقيل هذه الآية منسوخة بآية السيف، وقيل محكمة، لأن المداراة محثوث عليها ما لم تؤد إلى نقصان دين أو مروءة. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْله تعالى: {ادْفَعْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِلْعُلَمَاءِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: ادْفَعْ بِالْإِغْضَاءِ وَالصَّفْحِ إسَاءَةَ الْمُسِيءِ.
الثَّانِي: ادْفَعْ الْمُنْكَرَ بِالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ.
الثَّالِثُ: ادْفَعْ سَيِّئَتَك بِالْحَسَنَةِ بَعْدَهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى: {ادْفَعْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَك وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}، إلَّا أَنَّ هَذِهِ خَاصَّةٌ فِي الْعَفْوِ، وَاَلَّتِي شَرَحْنَا الْكَلَامَ فِيهَا هَاهُنَا عَامَّةٌ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ حَسْبَمَا سَطَّرْنَاهُ آنِفًا، وَهِيَ مَخْصُوصَةٌ فِي الْكُفَّارِ بِالِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، بَاقِيَةٌ فِي الْمُؤْمِنِينَ عَلَى عُمُومِهَا، فَأَمَّا قَوْلُهُمْ: ادْفَعْ سَيِّئَتَك بِالْحَسَنَةِ بَعْدَهَا فَيُشِيرُ إلَى الْغَفْلَةِ وَحَسَنَتُهَا الذِّكْرُ، كَمَا قَالَ فِي حَدِيثِ الْأَغَرِّ الْمُزَنِيّ: أَنَّهُ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «إنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً».
وَفِي كِتَابِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «إنِّي لَأَتُوبُ إلَى اللَّهِ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ» وَقَالَتْ الصُّوفِيَّةُ: إنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ ادْفَعْ حَظَّ الدُّنْيَا إذَا زَحَمَ حَظَّ الْآخِرَةِ بِحَظِّ الْآخِرَةِ وَحْدَهَا.
قَالَ لِي شِيحُنَا أَبُو بَكْرٍ الْفِهْرِيُّ: مَتَى اجْتَمَعَ لَك أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا لِلدُّنْيَا وَالْآخَرُ لِلَّهِ فَقَدِّمْ مَا لِلَّهِ فَإِنَّهُمَا يَحْصُلَانِ لَك جَمِيعًا.
وَإِنْ قَدَّمْت الدُّنْيَا رُبَّمَا فَاتَا مَعًا، وَرُبَّمَا حَصَلَ حَظُّ الدُّنْيَا وَلَمْ يُبَارَكْ لَك فِيهِ.
وَلَقَدْ جَرَّبْتُهُ فَوَجَدْتُهُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ دَفْعُ الْجَفَاءِ، لَا جَرَمَ، كَذَلِكَ قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ.
وَفِقْهُ الْآيَةِ: اُسْلُكْ مَسْلَكَ الْكِرَامِ، وَلَا تَلْحَظْ جَانِبَ الْمُكَافَأَةِ، ادْفَعْ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَلَا تَسْلُكْ مَسْلَكَ الْمُبَايَعَةِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ: سَلِّمْ عَلَى مَنْ لَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْكَ، وَتَكْثُرُ الْأَمْثِلَةُ، وَالْقَصْدُ مَفْهُومٌ، فَاسْلُكُوهُ. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أحْسَنُ السَّيِئَةَ}.
فيه خمسة أقاويل:
أحدها: بالإغضاء والصفح عن إساءة المسيء، قاله الحسن.
الثاني: ادفع الفحش بالسلام، قاله عطاء والضحاك.
الثالث: ادفع المنكر بالموعظة، حكاه ابن عيسى.
الرابع: معناه امسح السيئة بالحسنة هذا قول ابن شجرة.
الخامس: معناه قابل أعداءك بالنصيحة وأولياءك بالموعظة، وهذا وإن كان خطابًا له عليه السلام فالمراد به جميع الأمة. اهـ.

.قال ابن عطية:

{قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93)}.
أمر الله تعالى نبيه عليه السلام أن يدعو لنفسه بالنجاة من عذاب الظلمة إن كان قضي أن يرى ذلك، و أن شرط و ما زائدة، و{تريني} جزم بالشرط لزمت النون الثقيلة وهي لا تفارق {إما} عند المبرد، ويجوز عن سيبويه أن تفارق فيقال: {إما تريني} لكن استعمال القرآن لزومها فمن هنالك ألزمها المبرد، وهذا الدعاء فيه استصحاب الخشية والتحذير من الأمر المعذب من أجله ثم نظيره لسائر الأمة دعاء في جودة الخاتمة، وفي هذه الآية بجملتها إعلام بقرب العذاب منهم كما كان في يوم بدر، وقوله ثانيًا اعتراض بين الشرط وجوابه، وقوله: {ادفع بالتي هي أحسن} الآية أمر بالصفح ومكارم الأخلاق وما كان منها، لهذا فهو حكم باق في الأمة أبدًا وما كان فيها من معنى موادعة الكفار وترك التعرض لهم والصفح عن أمورهم فمنسوخ بالقتال، وقوله: {نحن أعلم بما يصفون} يقتضي أنها آية موادعة، وقال مجاهد الدفع بالتي هي أحسن هو السلام يسلم عليه إذا لقيه، وقال الحسن: والله لا يصيبها أحد حتى يكظم غيظه عما يكره. اهـ.

.قال القرطبي:

{قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93)}.
علّمه ما يدعو به؛ أي قل رب، أي يا رب إن أريتني ما يوعدون من العذاب.
{فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي القوم الظالمين} أي في نزول العذاب بهم؛ بل أخرجني منهم.
وقيل: النداء معترض؛ و ما في {إمّا} زائدة.
وقيل: إن أصل إمّا إن ما؛ ف أن شرط و ما شرط، فجمع بين الشرطين توكيدًا، والجواب {فلا تجعلني في القوم الظالمين}؛ أي إذا أردت بهم عقوبة فأخرجني منهم.
وكان عليه السلام يعلم أن الله تعالى لا يجعله في القوم الظالمين إذا نزل بهم العذاب، ومع هذا أمره الربّ بهذا الدعاء والسؤال ليعظم أجره وليكون في كل الأوقات ذاكرًا لربّه تعالى.
{وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95)}.
نبّه على أن خلاف المعلوم مقدور، وقد أراه الله تعالى ذلك فيهم بالجوع والسيف، ونجّاه الله ومن آمن به من ذلك.
قوله تعالى: {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ السيئة} أمر بالصفح ومكارم الأخلاق؛ فما كان منها لهذه الأمة فيما بينهم فهو محكم باقٍ في الأمة أبدًا.
وما كان فيها من معنى موادعة الكفار وترك التعرّض لهم والصفح عن أمورهم فمنسوخ بالقتال.
{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} أي من الشرك والتكذيب.
وهذا يقتضي أنها آية موادعة، والله تعالى أعلم. اهـ.

.قال أبو حيان:

{قُل رَّبّ إِمَّا تُرِيَنّى مَا يُوعَدُونَ}.
لما ذكر ما كان عليه الكفار من ادعاء الولد والشريك له، وكان تعالى قد أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم أنه ينتقم منهم ولم يبين إذ ذاك في حياته أم بعد موته، أمره بأنه يدعو بهذا الدعاء أي إن ترني ما تعدهم واقعًا بهم في الدنيا أو في الآخرة فلا تجعلني معهم، ومعلوم أنه عليه السلام معصوم مما يكون سببًا لجعله معهم، ولكنه أمره أن يدعو بذلك إظهارًا للعبودية وتواضعًا لله، واستغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من مجلسه سبعين مرة من هذا القبيل.
وقال أبو بكر: وليتكم ولست بخيركم.
قال الحسن: كان يعلم أنه خيرهم ولكن المؤمن يهضم نفسه.
وجاء الدعاء بلفظ الرب قبل الشرط وقبل: الجزاء مبالغة في الابتهال إلى الله تعالى والتضرع، ولأن الرب هو المالك الناظر في مصالح العبد.
وقرأ الضحاك وأبو عمر إن الجوني ترئني بالهمز بدل الياء، وهذا كما قرىء فأما ترئن ولترؤن بالهمز وهو إبدال ضعيف، ثم أخبر تعالى أنه قادر على تعجيل العذاب لهم كما كانوا يطلبون ذلك وذلك في حياته عليه الصلاة والسلام ولكن تأخيره لأجل يستوفون، والجمهور على أن هذا العذاب في الدنيا.
فقيل: يوم بدر.
وقيل: فتح مكة.
وقيل: هو عذاب الآخرة.
ثم أمره تعالى بحسن الأخلاق والتي هي أحسن شهادة أن لا إله إلاّ الله و{السيئة} الشرك.
وقال الحسن: الصفح والإغضاء.
وقال عطاء والضحاك: السلام إذا أفحشوا.
وحكى الماوردي: {ادفع} بالموعظة المنكر والأجود العموم في الحسنى وفيما يسوء و{التى هِىَ أَحْسَنُ} أبلغ من الحسنة للمبالغة الدال عليها أفعل التفضيل، وجاء في صلة التي ليدل على معرفة السامع بالحالة التي هي أحسن.
قيل: وهذه الآية منسوخة بآية السيف.
وقيل: هي محكمة لأن المداراة محثوث عليها ما لم يؤد إلى ثلم دين وإزراء بمروءة.
{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} يقتصي أنها آية موادعة، والمعنى بما يذكرون ويصفونك به مما أنت بخلافه. اهـ.