فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{قُل رَّبّ إِمَّا تُرِيَنّى}.
أي إنْ كان لابد مِن أنْ تريني {مَا يُوعَدُونَ} من العذابِ الدُّنيويِّ المستأصلِ، وأمَّا العذابُ الأُخرويُّ فلا يناسبُه المقامُ.
{رَبّ فَلاَ تَجْعَلْنِى في القوم الظالمين} أي قَرينًا لهم فيما هُم فيه من العذابِ. وفيه إيذانٌ بكمالِ فظاعةِ ما وُعدوه من العذابِ وكونِه بحيثُ يجبُ أنْ يستعيذَ منه مَن لا يكادُ يمكنُ أنْ يحيقَ به، ورُدَّ لإنكارِهم إيَّاهُ واستعجالِهم به على طريقة الاستهزاءِ به. وقيل: أُمر به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ هضمًا لنفسِه. وقيل: لأنَّ شُؤمَ الكَفَرةِ قد يحيقُ بمن وَرَاءهُم كقولِه تعالى: {واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً} ورُوي أنَّه تعالى أخبرَ نبيِّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بأنَّ له في أمَّتِه نقمةً ولم يُطلعه على وقتِها فأمرَه بهذا الدُّعاءِ وتكريرِ النِّداءِ. وتصديرُ كلَ من الشَّرطِ والجزاءِ به لإبرازِ كمالِ الضَّراعةِ والابتهالِ.
{وَإِنَّا على أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ} من العذابِ {لقادرون} ولكنَّا نُؤخِّره لعلمنا بأنَّ بعضَهم أو بعضَ أعقابِهم سيُؤمنون أو لأنَّا لا نُعذبهم وأنتَ فيهم. وقيل: قد أَراهُ ذلكَ وهو ما أصابَهم يومَ بدرٍ أو فتحُ مكَّةَ ولا يَخْفى بُعدُه فإنَّ المُتبادرَ أنْ يكونَ ما يستحقُّونه من العذابِ الموعودِ عذابًا هائلًا مستأصِلًا لا يظهرُ على يديهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ للحكمة الدَّاعيةِ إليه.
{ادفع بالتى هِىَ أَحْسَنُ السيئة} وهو الصَّفحُ عنها والإحسانُ في مقابلتِها لكن لا بحيثُ يؤدِّي إلى وَهَن في الدِّينِ. وقيل: هي كلمةُ التَّوحيدِ والسَّيئةُ الشِّركُ. وقيل: هو الأمرُ بالمعروفِ والسَّيئةُ المنكرُ وهو أبلغُ من: ادفعْ بالحسنةِ السَّيئةَ لما فيه من التَّنصيصَ على التَّفضيلِ. وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ على المفعول في الموضعينِ للاهتمامِ {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} أي بما يصفونَك به أو بوصفِهم إيَّاك على خلافِ ما أنتَ عليه وفيه وعيدٌ لهم بالجزاءِ والعُقوبة وتسليةٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم وإرشادٌ له عليه السَّلامُ إلى تفويضِ أمرِه إليه تعالى. اهـ.

.قال الألوسي:

{قُل رَّبّ إِمَّا تُرِيَنّى}.
أي إن كان لابد من أن تريني لأن ما والنون زيدتا للتأكيد {مَا يُوعَدُونَ} أي الذي يوعدونه من العذاب الدنيوي المستأصل وأما العذاب الأخري فلا يناسب المقام.
{رَبّ فَلاَ تَجْعَلْنِى في القوم الظالمين} أي قرينًا لهم فيما هم فيه من العذاب، ووضع الظاهر موضع الضمير للإشارة إلى استحقاقهم للعذاب، وجاء الدعاء قبل الشرط وقبل الجزاء مبالغة في الابتهال والتضرع، واختير لفظ الرب لما فيه من الإيذان بأنه سبحانه المالك الناظر في مصالح العبد، وفي أمره صلى الله عليه وسلم أن يدعو بذلك مع أنه عليه الصلاة والسلام في حرز عظيم من أن يجعل قرينًا لهم إيذان بكمال فظاعة العذاب الموعود وكنه بحيث يجب أن يستعيذ منه من لا يكاد يمكن أن يحيق به.
وهو متضمن رد إنكارهم العذاب واستعجالهم به على طريقة الاستهزاء.
وقيل أمر صلى الله عليه وسلم بذلك هضمًا لنفسه وإظهارًا لكمال العبودية، وقيل لأن شؤم الكفرة قد يحيق بمن سواهم كقوله تعالى: {واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] وروى عن الحسن أنه جل شأنه أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن له في أمته نقمة ولم يطلعه على وقتها أهو في حياته أم بعدها فأمره بهذا الدعاء.
وقرأ الضحاك وأبو عمران الجوني {ترئني} بالهمز بدل الياء وهو كما في البحر إبدال ضعيف.
{وَإِنَّا على أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ} من العذاب {لقادرون} ولكنا لا نفعل بل نؤخره عنهم لعلمنا بأن بعضهم أو بعض أعقابهم سيؤمنون أو لأنا لا نعذبهم وأنت فيهم، وقيل قد أراه سبحانه ذلك وهو ما أصابهم يوم بدر أو فتح مكة، قال شيخ الإسلام: ولا يخفى بعده فإن المتبادر أن يكون ما يستحقونه من العذاب الموعود عذابًا هائلًا مستأصلًا لا يظهر على يديه صلى الله عليه وسلم للحكمة الداعية إليه.
{ادفع بالتى هِىَ أَحْسَنُ} أي ادفع بالحسنة التي هي أحسن الحسنات التي يدفع بها {السيئة} بأن تحسن إلى المسيء في مقابلتها ما استطعت، ودون هذا في الحسن أن يحسن إليه في الجملة، ودونه أن يصفح عن إساءته فقط، وفي ذلك من الحث له صلى الله عليه وسلم إلى ما يليق بشأنه الكريم من حسن الأخلاق ما لا يخفى، وهو أبلغ من ادفع بالحسنة السيئة لمكان {أَحْسَنُ} والمفاضلة فيه على حقيقتها على ماذكرنا وهو وجه حسن في الآية، وجوز أن تعتبر المفاضلة بين الحسنة والسيئة على معنى أن الحسنة في باب الحسنات أزيد من السيئة في باب السيئات ويطرد هذا في كل مفاضلة بين ضدين كقولهم: العسل أحلى من الخل فإنهم يعنون أنه في الأصناف الحلوة أميز من الخل في الأصناف الحامضة، ومن هذا القبيل ما يحكى عن أشعب الماجن أنه قال: نشأت أنا والأعمش في حجر فلان فما زال يعلو وأسفل حتى استوينا فإنه عن استواءهما في بلوغ كل منهما الغاية حيث بلغ هو الغاية في التدلي والأعمش الغاية في التعلي، وعلى الوجهين لا يتعين هذا الأحسن وكذا السيئة.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية عن أنس أنه قال في الآية: يقول الرجل لأخيه ما ليس فيه فيقول: إن كنت كاذبًا فأنا أسأل الله تعالى أن يغفر لك وإن كنت صادقًا فأنا أسأل الله تعالى أن يغفر لي.
وقيل: التي هي أحسن شهادة أن لا إله إلا الله، والسيئة الشرك، وقال عطاء والضحاك: التي هي أحسن السلام والسيئة، وقيل: الأول الموعظة والثاني المنكر، واختار بعضهم العموم وأن ما ذكر من قبيل التمثيل، والآية قيل: منسوخة بآية السيف، وقيل: هي محكمة لأن الدفع المذكور مطلوب ما لم يؤد إلى ثلم الدين والإراء بالمروءة {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} أي بوصفهم إياك أو بالذي يصفونك به مما أنت بخلافه، وفيه وعيد لهم بالجزاء والعقوبة وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإرشاد له عليه الصلاة والسلام إلى تفويض أمره إليه عز وجل، والظاهر من هذا أن الآية آية موادعة فافهم. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93)}.
أمر جلا وعلا نبيه في هاتين الآيتين الكريمتين أن يقول: رب إما تريني ما يوعدون: أي أن ترني ما توعدهم من العذاب، بأن تنزله بهم، وأنا حاضر شاهد أرى نزوله بهم {فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي القوم الظالمين} أي لا تجعلني في جملة المعذبين الظالمين، بل أخرجني منهم، ونجني من عذابهم، وقد بين تعالى في مواضع أخر: أنه لا ينزل بهم العذاب، وهو فيهم وذلك في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] الآية، وبين هنا أنه قادر على أن يره العذاب، الذي وعهدهم به في قوله: {وَإِنَّا على أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون: 95] وبين في سورة الزخرف، أنه إن ذهب به قبل تعذيبهم، فإنه معذب لهم ومنتقم منهم لا محالة، وأنه إن عذبهم، وهو حاضر فهو مقتدر عليهم. وذلك في قوله تعالى: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الذي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ} [الزخرف: 41-42].
{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)}.
هذا الذي تضمنته هذه الآيات الثلاث مما ينبغي أن يعامل به شياطين الإنس وشياطين الجن. قد قدمنا الآيات الدالة عليه بإيضاح في آخر سورة الأعراف، في الكلام على قوله تعالى: {خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 199-200] الآية. وقوله في هذه الآية: {بالتي هِيَ أَحْسَنُ} أي بالخصلة التي هي أحسن الخصال، والسيئة مفعول ادفع ووزن السيئة، فيعلة أصلها: سيوئة وحروفها الأصلية السين والواو والهمزة، وقد زيدت الياء الساكنة بين الفاء والعين، فوجب إبدال الواو التي هي عين الكلمة ياء وإدغام ياء الفيعلة الزائدة فيها على القاعدة التصريفية المشارك بقول ابن مالك في الخلاصة:
إن يسكن السابق من واو ويا ** واتصلا ومن عروض عريا

فياء الواو اقلبن مدغمًا ** وشذ معطى غير ما قد رسما

كما قدمناه مرارًا. والسيئة في اللغة: الخصلة من خصال السوء. وقوله تعالى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} أي بما تصفه ألسنتهم من الكذب في تكذيبهم لك، وادعائهم الأولاد والشركاء لله. وقد قدمنا في سورة المائدة أن اللين والصفح المطلوب في آيات القرآن بعد نزول القتال إنما هو بالنسبة إلى المؤمنين، دون الكافرين في الكلام على قوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعزةٍ عَلَى الكافرين} [المائدة: 54] وبينا الآيات الدالة على ذلك كقوله في النَّبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه {أَشِدَّاءُ عَلَى الكفار رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] وقوله: {واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 88] وقوله: {يا أيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ} [التحريم: 9] إلى آخر ما تقدم. اهـ.