فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل المنفي التساؤل بالأنساب فكأنه قيل لا أنساب بينهم ولا يسأل بعضهم بعضًا بها، والمراد أنها لا تنفع في نفسها وعندهم والآية في شأن الكفرة وتساؤلهم المثبت في آية أخرى ليس تساؤلًا بالأنساب وهو ظاهر فلا إشكال.
وروى جماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه سئل عن وجه الجمع بين النفي هنا وازثبات في قوله سبحانه: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ} [الصافات: 27] فقال: إن نفي التساؤل في النفخة الأولى حين لا يبقى على وجه الأرض شيء وإثباته في النفخة الثانية، وعلى هذا فالمراد عنده بقوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ في الصور} فإذا نفخ النفخة الأولى وهذه إحدى روايتين عنه رضي الله تعالى عنه، والرواية الثانية حمله على النفخة الثانية، وحينئذٍ يختار في وجه الجمع أحد الأوجه التي أشرنا إليها.
وقرأ ابن مسعود {وَلاَ يساءلون} بتشديد السين.
{فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون} الفائزون بكل مطلوب الناجون عن كل مهروب.
{وَمَنْ خَفَّتْ موازينه} أي موازين أعماله الحسنة أو أعماله التي لا وزن لها ولا اعتداد بها وهي أعماله السيئة كذا قيل؛ وهو مبني على اختلافهم في وزن أعمال الكفرة فمن قال به قال بالأول ومن لم يقل به قال بالثاني، وقد تقدم الكلام في نظير هذه الآية في سورة الأعراف فتذكر.
{فأولئك الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} ضيعوها بتضييع زمان استكمالها وأبطلوا استعدادها لنيل كمالها، واسم الإشارة في الموضعين عبارة عن الموصول، وجمعه باعتبار معناه كما أن إفراد الضميرين في الصلتين باعتبار لفظه.
{فِى جَهَنَّمَ خالدون} خبر ثان لأولئك، وجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هم خالدون في جهنم، والجملة إما استئنافية جيء بها لبيان خسرانهم أنفسهم، وإما خبر ثان لأولئك أيضًا، وجوز أن يكون {الذين} نعتًا لاسم الإشارة و{خالدون} هو الخبر، وقيل: {خالدون} مع معموله بدل من الصلة، قال الخفاجي: أي بدل اشتمال لأن خلودهم في جهنم يشتمل على خسرانهم، وجعل كذلك نظرًا لأنه بمعنى يخلدون في جهنم وبذلك يصلح لأن يكون صلة كما يقتضيه الإبدال من الصلة، وظاهر صنيع الزمخشري يقتضي ترجيح هذا الوجه وليس عندي بالوجه كما لا يخفى وجهه.
وتعقب أبو حيان القول بأن {فِى جَهَنَّمَ خالدون} بدل فقال: هذا بدل غريب وحقيقته أن يكون البدل ما يتعلق به {فِى جَهَنَّمَ} أي استقروا، وكأنه من بدل الشيء من الشيء وهما لمسمى واحد على سبيل المجاز لأن من خسر نفسه استقر في جهنم، وأنت تعلم أن الظاهر تعلق {فِى جَهَنَّمَ} بخالدون وأن تعليقه بمحذوف وجعل ذلك المحذوف بدلًا وإبقاء {خالدون} مفلتًا مما لا ينبغي أن يلتفت إليه مع ظهور الوجه الذي لا تكلف فيه.
{تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار} جملة حالية أو مستأنفة، واللفح مس لهب النار الشيء وهو كما قال الزجاج أشد من النفح تأثيرًا، والمراد تحرق وجوههم النار، وتخصيص الوجوه بذلك لأنها أشرف الأعضاء فبيان حالها أزجر عن المعاصي المؤدية إلى النار وهو السر في تقديمها على الفاعل.
{وَهُمْ فِيهَا كالحون} متقلصو الشفاه عن الأسنان من أثر ذلك اللفح، وقد صح من رواية الترمذي وجماعة عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في الآية «تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته» وأخرج ابن مردويه والضياء في صفة النار عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {ثَقُلَتْ موازينه فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون وَمَنْ خَفَّتْ موازينه فأُوْلَئِكَ الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ في جَهَنَّمَ خالدون تَلْفَحُ} الخ: «تلفحهم لفحة فتسيل لحومهم على أعقابهم» وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الكلوح بسور الوجه وتقطيبه.
وقرأ أبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة {كلحون} بغير ألف جمع كلح كحذر.
{أَلَمْ تَكُنْ ءاياتي تتلى عَلَيْكُمْ} على إضمار القول أي يقال لهم تعنيفًا وتوبيخًا وتذكيرًا لما به استحقوا ما ابتلوا به من العذاب ألم تكن آياتي تتلى عليكم في الدنيا {فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذّبُونَ} حينئذٍ. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)}.
في هذه الآية الكريمة، سؤالان معروفان يحتاجان إلى جواب مبين للمقصود مزيل للإشكال.
السؤال الأول: أنه تعالى ذكر في هذه الآية: أنه إذا نفخ في الصور، والظاهر أنها النفخة الثانية، أنهم لا أنساب بينهم يومئذ، فيقال: ما وجه نفي الأنساب بينهم، مع أنها باقية كما دل عليه قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الصآخة يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ} [عبس: 33-36] ففي هذه الآية ثبوت الأنساب بينهم.
السؤال الثاني: أنه قال: {وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ} مع أنه ذكر في آيات أخر أنهم في الآخرة يتساءلون، كقوله في سورة الطور {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الطور: 25] وقوله في الصافات {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات: 50] إلى غير ذلك من الآيات.
وقد ذكرنا الجواب عن هذين السؤالين في كتابنا: دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب بما حاصله:
إن الجواب عن السؤال الأول: هو أن المراد بنفي الأنساب انقطاع آثارها، التي كانت مترتبة عليها في دار الدنيا، من التفاخر بالآباء، والنفع والعواطف والصلات. فكل ذلك ينقطع يوم القيامة، ويكون الإنسان لا يهمه إلا نفسه، وليس المراد نفي حقيقة الأنساب، من أصلها بدليل قوله: {يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} [عبس: 34-35] الآية.
وإن الجواب عن السؤال الثاني من ثلاثة أوجه:
الأول: هو قول من قال: إن نفي السؤال بعد النفخة الأولى، وقبل الثانية، وإثباته بعدهما معًا. وهذا الجواب فيما يظهر لا يخلو من نظر.
الثاني: أن نفي السؤال عند اشتغالهم بالصعق والمحاسبة، والجواز على الصراط وإثباته فيما عدا ذلك وهو عن السدي، من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس.
الثالث: أن السؤال المنفي سؤال خاص، وهو سؤال بعضهم العفو من بعض، فيما بينهم من الحقوق، لقنوطهم من الإعطاء، ولو كان المسؤول أبًا أو ابنًا أو أمًا أو زوجة، ذكر هذه الأوجه الثلاثة صاحب الإتقان.
{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102)}.
قد قدمنا الآيات الموضحة، لمعنى هاتين الآيتين في سورة الأعراف في الكلام على قوله: {والوزن يَوْمَئِذٍ الحق فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فأولئك هُمُ المفلحون وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [الأعراف: 8-9] الآية. وقوله في سورة الكهف: {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْنًا} [الكهف: 105] وغير ذلك. فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
{تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)}.
ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار تلفح وجوههم النار: أي تحرقها إحراقًا شديدًا، جاء موضحًا في غير هذا الموضع، كقوله تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النار} [الأحزاب: 66] الآية. وقوله تعالى: {وَمَن جَاءَ بالسيئة فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار} [النمل: 90] الآية. وقوله تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الذين كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النار وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ} [الأنبياء: 39] الآية. وقوله تعالى: {سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وتغشى وُجُوهَهُمْ النار} [إبراهيم: 50] الآية. وقوله تعالى: {أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سواء العذاب يَوْمَ القيامة} [الزمر: 24] وقوله: {يَشْوِي الوجوه بِئْسَ الشراب} [الكهف: 29] الآية. إلى غير ذلك من الآيات وقوله: {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} الكالح: هو الذي تقلصت شفتاه حتى بدت أسنانه، والنار والعياذ بالله تحرق شفاههم، حتى تتقلص عن أسنانهم، كما يشاهد مثله في رأس الشاة المشوي في نار شديدة الحر، ومنه قول الأعشى:
وله المقدم لا مثل له ** ساعة الشدق عن الناب كلح

وعن ابن عباس: كالحون: عابسون.
{أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105)}.
ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من أن أهل النار يسألون يوم القيامة، فيقول لهم ربهم {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ} أي في دار الدنيا على ألسنة الرسل فكنتم بها تكذبون، وأنهم اعترفوا بذلك، وأنهم لم يجيبوا الرسل لما دعوهم إليه من الإيمان، لأن الله أراد بهم الشقاء وهم ميسرون لما خلقوا له، فلذلك كفروا، وكذبوا الرسل.
قد أوضحنا الآيات الدالة عليه في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] فأغنى ذلك عن إعادته هنا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)}.
تفريع على قوله: {إلى يوم يبعثون} [المؤمنون: 100] فإن زمن النفخ في الصور هو يوم البعث فالتقدير: فإذا جاء يوم يبعثون، ولكن عدل عن ذلك إلى {فإذا نفخ في الصور} تصوير لحالة يوم البعث.
والصور: البوق الذي ينفخ فيه النافخ للتجمع والنفير، وهو مما ينادى به للحرب وينادى به للصلاة عند اليهود كما جاء في حديث بدء الأذان من صحيح البخاري.
وتقدم ذكر الصور عند قوله تعالى: {وله الملك يوم ينفخ في الصور} في سورة الأنعام (73).
وأسند {نُفِخ} إلى المجهول لأن المعتنى به هو حدوث النفخ لا تعيين النافخ.
وإنما يُنفخ فيه بأمر تكوين من الله تعالى، أو ينفخ فيه أحد الملائكة وقد ورد أنه الملك إسرافيل.
والمقصود التفريع الثاني في قوله: {فمن ثقلت موازينه} إلى آخره لأنه مناط بيان الرد على قول قائلهم {رب ارجعون لعلي أعمل صالحًا فيما تركت} [المؤمنون: 99، 100] المردود إجمالًا بقوله تعالى: {كلا إنها كلمة هو قائلها} [المؤمنون: 100] فقدم عليه ما هو كالتمهيد له وهو قوله: {فلا أنساب بينهم} إلى آخره مبادرة بتأييسهم من أن تنفعهم أنسابهم أو استنجادهم.
والأظهر أن جواب إذا هو قوله الآتي {قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين} [المؤمنون: 112] كما سيأتي وما بينهما كله اعتراض نشأ بعضه عن بعض.
وضمير {بينهم} عائد إلى ما عادت عليه ضمائر جمع الغائبين قبله وهي عائدة إلى المشركين.
ومعنى نفي الأنساب نفي آثارها من النجدة والنصر والشفاعة لأن تلك في عرفهم من لوازم القرابة.
فقوله: {فلا أنساب بينهم} كناية عن عدم النصير.
والتساؤل: سؤال بعضهم بعضًا.
والمعنيّ به التساؤل المناسب لحلول يوم الهول، وهو أن يسأل بعضهم بعضًا المعونة والنجدة، كقوله تعالى: {ولا يسأل حميم حميمًا} [المعارج: 10].
وأما إثبات التساؤل يومئذ في قوله تعالى: {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين قالوا بل لم تكونوا مؤمنين وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قومًا طاغين فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون فأغويناكم إنا كنا غاوين فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون} [الصافات: 27 33] فذلك بعد يأسهم من وجود نصير أو شفيع.
وفي البخاري: أن رجلًا هو نافع بن الأزرق الخارجي قال لابن عباس: إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي قال: {فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون} وقال: {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون} [الصافات: 27] فقال ابن عباس: أما قوله: {فلا أنساب بينهم} فهو في النفخة الأولى فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون، ثم في النفخة الآخرة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون. اهـ.