فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



يريد اختلاف الزمان وهو قريب مما قلناه.
وذكر من {ثقلت موازينه} في هذه الآية إدماج للتنويه بالمؤمنين وتهديد المشركين لأن المشركين لا يجدون في موازين الأعمال الصالحة شيئًا، قال تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورًا} [الفرقان: 23].
وتقدم الكلام على نظير قوله: {فمن ثقلت موازينه} في أول سورة الأعراف (8).
والخسارة: نقصان مال التجارة وتقدم في قوله تعالى: {الذين خسروا أنفسهم} في سورة الأنعام (12)، وقوله: {فأولئك الذين خسروا أنفسهم} في أول الأعراف (9).
وهي هنا تمثيل لحال خيبتهم فيما كانوا يأملونه من شفاعة أصنامهم وأن لهم النجاة في الآخرة أو من أنهم غير صائرين إلى البعث، فكذبوا بما جاء به الإسلام وحسبوا أنهم قد أعدوا لأنفسهم الخير فوجدوا ضده فكانت نفوسهم مخسورة كأنها تَلِفَت منهم.
ولذلك نصب {أنفسهم} على المفعول بـ {خسروا}.
واسما الإشارة لزيادة تمييز الفريقين بصفاتهم.
وجملة {تلفح وجوههم النار} في موضع الحال من {الذين خسروا أنفسهم}.
ومعنى {تلفح وجوههم النار} تحرق.
واللفح: شدة إصابة النار.
والكالح: الذي به الكلوح وهو تقلص الشفتين وظهور الأسنان من أثر تقطب أعصاب الوجه عند شدة الألم.
{أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105)}.
جملة {ألم تكن آياتي تتلى عليكم} مقول قول محذوف، أي يقال لهم يومئذ.
وهذا تعرض لبعض ما يجري يومئذ.
والآيات: آيات القرآن بقرينة قوله: {تتلى عليكم} وقوله: {فكنتم بها تكذبون} حملًا على ظاهر اللفظ. والتلاوة: القراءة.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان} في البقرة (102)، وقوله: {إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا} في سورة الأنفال (2). والاستفهام إنكار. اهـ.

.قال الشعراوي:

{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)}.
الصُّور: البُوق الذي ينفخ فيه إسرافيل، والمراد هنا النفخة الثانية للبعث.
والأنساب: جمع نَسَب، وهو الالتقاء في أصل مباشر، كالتقاء الابن بالأب، أو الأب بالابن، أو التقاء بواسطة كالعمومة والخؤولة.
والنسب هو أول لُحمة في الكون تربط بين الناس في مصالح مشتركة، وهو الالتقاء الضروري الذي يوجد لكل الناس، فقد لا يكون لك أصدقاء ولا أصحاب ولا زملاء عمل، لكن لابد أن يكون لك نَسَب وقرابة وأهل.
فحين ينفي الحق- سبحانه وتعالى- النسب يقول: {فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ} [المؤمنون: 101] فليس النفي لوجود النسب، فإذا نُفِخ في الصور منعت البُنوَّة من الأبوة، أو الأبوة من البنوة. إنما النسب موجود حقيقة، لكن لأن النسب المعروف فيه التعاون على الخير والتآزر في دفع الشر، فالنفي هنا لهذه المنفعة في هذا اليوم بالذات حيث لا ينفع أحد أحدًا، فالنسب موجود لكن دون نفع، فالنفع من أمور الدنيا أن يُوجد قوي وضعيف، فالقوي يُعين الضعيف، ويفيض عليه، أمّا في هذا الموقف فالكل ضعيف.
كما قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وصاحبته وَبَنِيهِ لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 34- 37].
ويقول: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38].
لذلك حينما حدَّثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أننا سنُحشر يوم القيامة حُفَاة عُراة تعجبت السيدة عائشة، واستحيتْ من هذا الموقف، فأخبرها رسول الله أن الأمر ليس كذلك، فهذا موقف ينشغل كُلٌّ بنفسه، والحال أصعب من أن ينظر أحد لأحد.
إذن: النفي لنفع الأنساب، لا للأنساب نفسها.
وإنْ كان نفع الأنساب يمتنع لهول الآخرة فقد يتسامى الإنسان فيمنع نفعه حتى في الدنيا عن ذوي قرابته إنْ كانوا غير مؤمنين، وقد ضربها الله مثلًا في قصة نوح- عليه السلام- وولده، وخاطبه ربه: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46] فامتنع النسب حتى في الدنيا، فالنبوة ليست بُنوة الدم واللحم، البنوة- خاصة عند الأنبياء- بنوة عمل واتباع.
وإذا تأملتَ تاريخ المسلمين الأوائل لوجدتهم يعتزُّون بالإسلام، لا بالأنساب، فالدين والعقيدة هما اللُّحمْة، وهما الرابطة القوية التي تربط الإنسان بغيره، وإنْ كان أدنى منه في مقاييس الحياة.
قرأنا في قصة بدر أن مصعب بن عمير- رضوان الله عليه- وكان فتى قريش المدلل، وأغنى أغنيائها، يلبس أفخر الثياب ويعيش ألين عيشة، فلما أُشرِب قلبه الإيمان زهد في كل هذا النعيم، وحُرِم من خير أهله، ثم هاجر إلى المدينة، وهناك رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس جلد شاة فقال: «انظروا ماذا فعل الإيمان بأخيكم».
وفي المعركة، رأى مصعب أخاه أبا عزيز أسيرًا في يد واحد من الأنصار هو الصحابي أبو اليَسَر فقال له مصعب: اشدد على أسيرك- يعني: إياك أن يفلت منك- فإن أُمَّه غنية، وستفديه بمال كثير، فنظر أو عزيز إلى مصعب وقال: أهذا وصاتك بأخيك؟ فقال: هذا أخي دونك.
إذن: فلا أنسابَ بينهم، حتى في الدنيا قبل الآخرة.
وفي غزوة أحد استُشهد مصعب بن عمير، ولم يجدوا ما يكفنونه فيه إلا ثوبًا قَصيرًا، إنْ غطى رأسه انكشفتْ رِجْلاه، وإنْ غطّى رِجْلَيْه انكشفت رأسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «غطوا رأسه، واجعلوا على رِجْلَيْه من الإذخر».
والسيدة أم حبيبة بنت أبي سفيان لما أسلمتْ وهاجرت مع زوجها إلى الحبشة، لكن اتهمها البعض بأنها هاجرت لا من إجل دينها، ولكن من أجل زوجها، فيشاء الله تعالى أن يُظهِر براءتها، فينتصَّر زوجها عبيد الله بن جحش هناك وتظل هي على الإيمان، ولَما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمرها أراد أن يعوضها فخطبها لنفسه، ولم ينتظر إلى أن تجيء ليعقد عليها، فوكّل النجاشي ملك الحبشة ليعقد له عليها.
وبعد زواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أبوها سفيان زيارتها، وكانت تمهِّد فراش رسول الله، فلما أراد أبو سفيان أن يجلس عليه نَحَّتْهُ جانبًا، ومنعتْه أن يجلس- وهو كافر- على فراش رسول الله، فقال: أضنًَا بالفراش عليَّ؟ فقالت: نعم.
إذن: نَفْع الأنساب يمتنع في الدنيا قبل امتناعه في الآخرة، لكن الحق- سبحانه وتعالى- تفضّل بأن أبقى مطلوبات النسب في الدنيا ودعانا إلى الحفاظ عليها حتى مع الكافرين؛ لأنه سبحانه وَسِع الكافر، فعلى المؤمن أن يسعه من باب أَوْلَى، فإنْ رأيت الكافر في شدة وقدرت أن تُعينه فَاعِنْه.
واقرأ في هذا قوله تعالى: {وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15].
فهما كافران، بل ويريدانك كافرًا، ومع ذلك احفظ لهما حَقَّ النسب، ولا تقطع الصلة بهما.
ويُرْوَى أن إبراهيم- عليه السلام- وقد أعطاه الله الخُلَّة، وقال عنه: {وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى} [النجم: 37] وابتلاه بكلمات فأتمهُنَّ، مرَّ عليه عابر سبيل بليل، فقبل أن يُدخِله ويُضيفه سأله عن ديانته، فأخبره أنه غير مؤمن، فأعرض عنه إبراهيم- عليه السلام- وتركه ينصرف، فأوحى الله إليه: يا إبراهيم وسعْتُ عبدي وهو كافر بي، وتريده أن يغير دينه لضيافة ليلة؟ فأسرع إبراهيم خلف الرجل حتى لحق به، وأخبره بما كان من عتاب ربه له في شأنه، فقال الرجل: نِعْم الرب الذي يعاتب أحبابه في أمر أعدائه، وشهد أن لا إله إلا الله وأن إبراهيم رسول الله.
ويرتقي أهل المعرفة بالنسب، فيروْنَ أنه يتعدَّى الارتباط بسبب وجودك، وهو الأب أو الأم، فالنسب وإن كان ميلاد شيء من شيء، أو تفرُّع شيء من شيء، فهناك نسب أعلى، لا لمن أوجدك بسبب، وإنما لمن أوجدك بلا سبب الوجود الأول، فكان عليك أن تراعي هذا النسب أولًا الذي أوجدك من عدم، وإنْ أثبت حقًا للوالدين؛ لأنهما سبب وجودك.
فكيف بالموجد الأعلى؟
وقوله تعالى: {وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101] سأل: تقتضي سائلًا ومسئولًا، أمّا الفعل تساءل فيدل على المفاعلة يعني: كل منهما سائل مرة، ومسئول أخرى، كما تقول: شارك محمد عمرًا، وقاتل.. الخ.
وقد اعترض على هذه الآية بعض المستشرقين الذين يحبون أن يتوركوا على كتاب الله، قائلين: إن المسلمين ينظرون إلى كتاب الله بمهابة وتقديس يمنعهم ويحجب عقولهم عن تعقُّل ما فيه، لماذا وقد قال تعالى عن القرآن: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيرًا} [النساء: 82]؟
يقول هؤلاء: إن القرآن نفى التساؤل في هذه الآية، وأثبته في قوله تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الطور: 25] في الحوار بين الكفار.
وهناك تساؤل بين المؤمنين والكافرين: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ المجرمين مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المصلين وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المسكين وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخآئضين وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدين} [المدثر: 38- 46].
ومرة يكون التساؤل بين المؤمنين بعضهم وبعض: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قالوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ في أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ الله عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السموم إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ البر الرحيم} [الطور: 25- 28].
إذن: كيف بعد ذلك ينفي التساؤل؟ ويقول: {وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101].
وهذا التضارب الذي يروْنَه تضارب ظاهري؛ لأنه هناك فرقًا بين أن تسمع عن شيء وبين أن تُفاجأ به وأنت غير مؤمن، لقد قالوا: {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [المؤمنون: 37].
فحين فُوجئوا بالنفخ في الصُّور، وداهمتهم القيامة التي كانوا يُكذِّبون بها بُهِتوا ودُهِشُوا، وخرست ألسنتهم عن الكلام من شدة دهشتهم، وكيف وما كانوا ينكرونه ماثل أمامهم فجأة، ثم يتدرجون من هذه الحالة إلى أن يأخذوه أمرًا واقعًا لا مَفرَّ منه، فيبدأون بالكلام ويسأل بعضهم بعضًا عَمَّا هم فيه وعَمَّا نزل بهم.
إذن: فالسؤال له زمن، ونَفْي السؤال له زمن؛ لذلك يقولون في مثل هذه المسألة أن الجهة مُنفكَّة، فإذا رأيتَ شيئًا واحدًا أُثبتَ مرة، ونُفِي أخرى من قائل واحد منسوب إلى الحكمة وعدم التضارب، فاعلم أن الجهة مُنفكّة.
ومثل هذا الموقف من أهل الاستشراق وقفوه أيضًا في سؤال أهل المعاصي، حيث يقول تعالى في إثبات سؤالهم: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ} [الصافات: 24] ويقول في نفي سؤالهم {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ}.
[الرحمن: 39] فكيف يثبت الفعل وينفيه، والفاعل واحد؟
وهذا الاعتراض منهم ناشيء عن عدم فَهْم للغة القرآن والمَلَكة العربية، أو لأنهم يريدون مجرد الاستدراك على كتاب الله وإثارة الشكوك حوله. لكن رُبَّ ضارَّة نافعة، فقد حرّكت شكوكهم ومآخذهم علماء المسلمين للتصدِّي لهم، وللرد على أباطيلهم وكشف نواياهم، فمثلنا كمثل الذي يستعد لملاقاة المرض بالطُّعْم المناسب الذي يعطي للجسم مناعة وحصانة ضد هذا المرض.
وسيدنا عمر- رضي الله عنه- وكان القرآن ينطق على وَفْق ما يريد، يرى الناس يُقبِّلون الحجر الأسود، فتوقع أن يتكلم الناس في هذه المسألة، وكيف أن الدين ينهاهم عن عبادة الأصنام وهي حجارة ويأمرهم بتقبيل الحجر، وكان رضي الله عنه يُقبّله ويقول: «والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يُقبّلك ما قبَّلتك».
فلفت الناس إلى أصل التشريع وأن الحجرية لا عبادةَ لها عندنا، لكن عندنا النبي صلى الله عليه وسلم وهو مُشرِّع لنا وواجب علينا اتباعه، وهكذا كان ردّ عمر على مَنْ أثاروا هذه الفتنة.