فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما تكلم عمر في غلاء المهور وكان مُلْهمًا يوافق قولُه قولَ القرآن الكريم، وقفتْ له امرأة وراجعته وقالت له: اخطأتَ يا عمر، كيف تنهى عن الغلاء في المهور، والله تعالى يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20].
فأجار أن يكون المهر قنطارًا من ذهب، عندها قال عمربجلالة قدره: «أصابت امرأة وأخطأ عمر» ليبين أنه لا كبيرَ أمام شرع الله.
إذن: هذه مسائل مرسومة ولها أصل، يجب أن تُعلم لنردّ بها حين نسأل في أمور ديننا.
نعود إلى مسألة سؤال أهل المعصية، حيث نفاه القرآن مرة وأثبته أخرى. ونقول: جاء القرآن بأسلوب العرب وطريقتهم، والسؤال في الأسلوب العربي إما سؤال مِمَّنْ يجهل ويريد المعرفة، كما يسأل التلميذ مُعلِّمه، أو يسأل العالم الجاهل لا ليعلم منه، ولكن ليقرره بما يريد.
فإذا نفى الله تعالى السؤال، فلا تظنوا أنه يسألكم ليعرف منكم، إنما يسألكم لتقروا؛ لذلك قال سبحانه: {كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 14].
إذن: إثبات السؤال له معنى، ونَفْيه له معنى، فإذا نفى فقد نفى سؤال العلم من جهتهم، وإذا أثبت فقد أثبت سؤال الإقرار من جهتهم؛ لتكون الحجة ألزم؛ لأن الإقرار سيد الأدلة.
وقد أوضحنا هذه المسألة بمثال: التلميذ المهمل الذي يتظاهر أمام أبيه بالمذاكرة، فيفتح كتابه ويهزّ رأسه كأنه يقرأ، فإذا ما سأله والده لم يجده حصَّل شيئًا، فيقول له: ذاكرت وما ذاكرت.
ومن ذلك أيضًا قوله تعالى مخاطبًا رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى} [الأنفال: 17] هكذا نَفْي وإثبات في آية واحدة لفاعل واحد، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ فعلًا حَفْنة من الحصى ورَمَى بها نحو الأعداء، لكن هل في قدرته أن يُوصّل هذه الحفنة إلى أعين الأعداء جميعًا؟ فالعمل والرمي للرسول، والنتيجة والغاية لله عز وجل.
ثم يقول الحق سبحانة: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فأولئك هُمُ المفلحون وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ}.
ثقُلَتْ وخفَّتْ هنا للحسنات. يعني: كانت حسناته كثيرة أو كانت قليلة.
ويمكن أن نقول: ثقلت موازينه بالسيئات يعني: كثُرَتْ الحسنات، لكن القرآن تكلم من ناحية أن العمدة في الأمر الحسنات.
والميزان يقوم على كِفَّتين في أحدهما الموزون، وفي الأخرى الموزون به، وللوزن ثلاث صور عقلية: أن يخفّ الموزون، أو يخف الموزون به، أو يستويا، وقد ذكرت الآية حالتين: خفت موازينه، وثقلت موازينه، كما جاء في قوله تعالى: {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة: 6- 11].
أما حالة التساوي فقد جاءت لها إشارة رمزية في سورة الأعراف: {وَعَلَى الأعراف رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الجنة أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النار قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ القوم الظالمين} [الأعراف: 46- 47].
فمَنْ غلبت حسناته ذهب إلى الجنة، ومَنْ غلبت سيئاته ذهب إلى النار؛ وبقي أهل الأعراف بين الجنة والنار؛ لأنهم تساوت عندهم كِفَّتا الميزان، فلا هو من أهل الجنة، ولا هو من أهل النار، فهم على الأعراف، وهو السُّور بين الجنة والنار ينظرون إلى هؤلاء وإلى هؤلاء.
ثم يقول تعالى في شأنهم: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} [الأعراف: 46]؛ لأن رحمة الله سبقتْ غضبه، وعفوه سبق عقابه.
ومعنى ثقلت موازينه وخفت موازينه يدل على أن الأعمال تصبح ولها كثافة وجِرْم يعطي ثقلًا، أو أن الله تعالى يخلق في كل عمل له كتلة، فحسنةُ كذا بكذا، والمراد من الميزان دِقَّة الفصل والحساب.
ونلحظ في الآية: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [المؤمنون: 102] بالجمع ولم يقل: ميزانه، لماذا؟ قالوا: لأنه يمكن أن يكون لكل جهة عمل ميزان خاص، فللصلاة ميزان، وللمال ميزان، وللحج ميزان.. إلخ ثم تُجمع له كل هذه الموازين.
وقوله: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأولئك الذين خسروا أَنفُسَهُمْ} [المؤمنون: 103] لأنهم أخذوا لها القليل العاجل، وفوَّتوا عليها الكثير الآجل، وسارعوا إلى متعة فانية، وتركوا متعة باقية؛ لأن الدنيا أجلها محدود؛ والزمن فيها مظنون، والخير فيها على قَدْر إمكانات أهلها.
أما الآخرة فزمنها مُتيقّن، وأجلها ممدود خالد، والخير فيها على قَدْر إمكانات المنعِم عز وجَلَّ، فلو قارنتَ هذا بذاك لتبيّن لك مدى ما خَسِروا، لذلك تكون النتيجة أنهم {فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون: 103].
ثم يعطينا الحق سبحانه صورة تُبشِّع الجزاء في جهنم، وتُصوِّر أهوالها، وذلك رحمة بنا لنرتدع من قريب، ونعمل جاهدين على أن ننجي أنفسنا من هذا المصير، وننفر من هذه العاقبة البشعة، كما يقول الشرع بداية: سنقطع يد السارق، فهو لا يريد أن يقطع أيدي الناس، إنما يريد أن يمنعهم ويحذرهم هذه العاقبة.
ومن ذلك قوله تعالى في مسألة القصاص: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ ياأولي الألباب} [البقرة: 179].
وقد هُوجم القِصَاص كثيرًا من أعداء الإسلام، إذ يقولون: يكفي أن قُتِل واحد من المجتمع، فكيف نقتل الآخر؟ والقرآن لم يضع القصاص ليقتل الاثنين، إنما وضعه ليمنع القتل، وليستبقي القاتل والقتيل أحياء، فحين يعرف القاتل أنه سيُقتل قصاصًا يمتنع ويرتدع، فإن امتنع عن القتل فقد أحيينا القاتل والقتيل، وقد عبَّروا عن هذا المعنى فقالوا: القتل أنفى للقتل.
يقول تعالى في تبشيع جهنم: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار وَهُمْ}.
اللفْح: أن تمسَّ النار بحرارتها الشيء فتشويه، ومثله النَّفْح {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون: 104] كلمة كالح نقولها حتى في العامية: فلان كالح الوجه. يعني تغيّر وجهه تغيُّرًا ينكر لا تستريح له، وضربوا للوجه الكالح مثلًا برأس الخروف المشوية التي غيَّرت النار ملامحها، فأصبحت مُشوَّهة كالحة تلتصق الشَّفَة العليا بجبهته، والسفلى بصدره، فتظهر أسنانه في شكل منفر.
بعد ذلك يخاطبهم الحق سبحانه خطابًا يُلقي اللوم عليه ويُحملهم مسئولية ما وصلوا إليه، فلم يعذبهم ربهم ابتداءً، إنما عذبهم بعد أن أنذرهم، وأرسل إليهم رسولًا يحمل منهجًا يبين ثواب الطائع وعقاب العاصي، ونبَّههم إلى كل شيء، ومع ذلك عصَوْا وكذَّبوا، ولم يستأنفوا عملًا جديدًا على وَفْق ما أمر الله. إذن: فهُم المقصرون.
{أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105)}.
يعني: أنتم السبب فيما أنتم فيه من العذاب، فليس للناس على الله حجة بعد الرسل، وليس لأحد عذر بعد البلاغ، لذلك حينما يدخل أهل النار النارَ يخاطبهم ربهم: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ} [الزمر: 71].
فالآية تثبت أنهم هم المذنبون أمام نفوسهم: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل: 118] فلم نفاجئهم بعقوبة على شيء لم نُبصِّرهم به، إنما أرسلنا إليهم رسولًا يأمرهم وينهاهم ويُبشِّرهم وينذرهم.
والإنذار بالشر قبل أن يقع نعمة من النعم، كما قلنا في سورة الرحمن عن قوله تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 35- 36] وهل النار والشواظ نعمة؟ نعم نعمة؛ لأننا نحذرك منها قبل وقوعها، وأنت ما زِلْتَ في سعة الدنيا، وأمامك فرصة الاستدراك.
والآيات- كما قلنا- تُطلَق على الآيات الكونية التي تلفت الناس إلى وجود الخالق الأعلى الذي أنشأ هذا الكون بهذه الهندسة البديعة، وتُطلَق على المعجزات التي تثبت صِدْق الرسول في البلاغ عن الله، وتُطلَق على الآيات الحاملة للأحكام وهي آيات القرآن.
وقد جئناكم بكل هذه الآيات تُتْلَى عليكم وتسمعونها وترونها، ومع ذلك كذَّبْتم، ومعنى {تتلى عَلَيْكُمْ} [المؤمنون: 105] أننا نبهناكم إليها، ولفتْنَا أنظاركم إلى تأملها، حتى لا تقولوا: غفلنا عنها. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)}.
أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} قال: حين ينفخ في الصور فلا يبقى حي إلا الله عز وجل.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن السدي {فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} قال: في النفخة الأولى.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في الآية قال: ليس أحد من الناس يسأل أحدًا بنسبه ولا بقرابته شيئًا.
وأخرج ابن جرير عن ابن جريج في الآية قال: لا يسأل أحد يومئذ بنسب شيئًا ولا ينمي إليه برحم.
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه سئل عن قوله: {فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} وقوله: {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون} [الصفات: 27] فقال: إنها مواقف. فأما الموقف الذي لا أنساب بينهم ولا يتساءلون عند الصعقة الأولى لا أنساب بينهم فيها إذا صعقوا، فإذا كانت النفخة الآخرة فإذا هم قيام يتساءلون.
وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه من وجه إلى آخر عن ابن عباس أنه سئل عن الآيتين فقال: أما قوله: {ولا يتساءلون} فهذا في النفخة الأولى حين لا يبقى على الأرض شيء. وأما قوله: {فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون} [الصافات: 27] فإنهم لما دخلوا الجنة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون.
وأخرج ابن المبارك في الزهد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية وابن عساكر عن ابن مسعود قال: إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين- وفي لفظ: يؤخذ بيد العبد أو الأمة يوم القيامة على رؤؤس الأوّلين والآخرين- ثم ينادي مناد ألا إن هذا فلان ابن فلان فمن كان له حق قبله فليأت إلى حقه- فيفرح- والله- المرء أن يكون له الحق على والده أو زوجته وإن كان صغيرًا. ومصداق ذلك في كتاب الله {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون}.
وأخرج ابن جرير عن قتادة قال: ليس شيء أبغض إلى الإنسان يوم القيامة من أن يرى من يعرفه مخافة أن يدور له على شيء، ثم قرأ {يوم يفر المرء من أخيه} [عبس: 34].
وأخرج أحمد والطبراني والحاكم والبيهقي في سننه عن المسور بن مخرمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الأنساب تنقطع يوم القيامة غير نسبي، وسببي، وصهري».
وأخرج ابن عساكر عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل نسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وصهري».
{تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105)}.
أخرج ابن جرير عن ابن عباس {تلفح وجوههم النار} قال تنقح.
وأخرج ابن مردويه والضياء في صفة النار عن أبي الدرداء قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {تلفح وجوههم النار} قال: تلفحهم لفحة فتسيل لحومهم على أعصابهم».
وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وابن مردوية وأبو نعيم في الحيلة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن جهنم لما سيق إليها أهلها تلقتهم بعنق، فلفحتهم لفحة فلم تدع لحمًا على عظم إلا ألقته على العرقوب».
وأخرج أبو نعيم في الحيلة عن ابن مسعود في قوله: {تلفح وجوههم النار} قال: لفحتهم لفحة فما أبقت لحمًا على عظم إلا ألقته على أعقابهم.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي وصححه وابن أبي الدنيا في صفة النار وأبو يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم في الحيلة عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون} قال «تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه، وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته».
وأخرج ابن أبي شيبة عن مغيث بن سمي قال: إذا جيء بالرجل إلى النار قيل انتظر حتى نتحفك، فيؤتى بكأس من سم الأفاعي والأساود إذا أدناها من فيه نثرت اللحم على حدة والعظم على حدة.
وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة وهناد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه عن ابن مسعود في قوله: {وهم فيها كالحون} قال: كلوح الرأس النضيج، بدأت أسنانهم وتقلصت شفاههم.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {كالحون} قال: عابسون. اهـ.